نعرف أبا طارق ، عفيف مقلد ، غصنا في شجرة وارفة ، جذعها الحاج “أبو عفيف” عبد الحسين مقلد، شاعر السليقة والبلاغة والمنابر، الذي لم يتعلم أوزان الخليل لكنه لم يخطئ بوزن أو بروي أو بقافية ، والذي أورثني مهمة وداع الأحبة والأهل والأصدقاء على منابر المآتم . الوالد الذي بقي ظله مخيما علينا وعلى ولديه عفيف وسليم وبنتيه عفيفة وأمال وعلى أحفاده إلى أن وافته المنية.
ونعرف أبا طارق من أولاده ، ثلاثة شباب وصبيتين، ناضل أمامهم حتى تخرجوا جميعا من الجامعات في الطب والهندسة وإدارة الأعمال والترجمة والعلوم الانسانية ، وبنوا له شبكة من العلاقات انتشرت في زوايا الوطن وفي أصقاع الدنيا ، نأمل ألا تدفع آلام الوطن ببعضهم ، كما تفعل بمعظم أبناء جيلهم ، ليتحولوا إلى متحدرين من أصل لبناني.
ونعرفه من شبابه الأول ، يوم يمم شطر العاصمة بيروت ، ليعمل في قطاع الطباعة ، ويصير واحدا من قادته النقابيين . كنا صغارا وكان يتردد إلى القرية في أيام العطل والأعياد ، وكان يروي باعتزاز ما تصنعه النقابات. ولم نسمع منه مرة ولو كلمة واحدة عن الحزب الذي انتمى إليه ، لكنه كان يروي عن علاقاته بالقادة النقابيين الأعضاء في الحزب . علاقته بالحزب ربما كانت تمر من خلالهم.
عالمه بيته العائلي ورفاقه في النقابات والواجب الاجتماعي الذي لم يتخلف يوما عنه. تزامن بناء عالمه مع بناء الأوطان الحديثة ومع انتقال أبناء الريف إلى المدينة . غادروا قراهم ليستأجروا في المدينة مساكن قريبة من بعضها في منطقة واحدة وأحيانا في حوش واحد ، ومن هناك راحوا يبحثون عن روابط جديدة أكثر رحابة من ضيق العلاقات القروية وعصبياتها . كانت النقابة أول باب للدخول إلى العلاقات المدينية ، أي للانتقال من مؤسسات المجتمع الأهلي إلى مؤسسات المجتمع المدني . هذه المفردات التي لم نكن نعرف حسناتها من سيئاتها ، ولم نكن ندرك أبعادها ولا الفروقات بينها ، حين صرنا نميل إلى الخروج من العائلية والطائفية إلى رحاب العلاقات الوطنية .
حين قرر الحاج أبو عفيف أن يعيد عائلته من المدينة لتسكن في القرية ، كان أبو طارق قد مضى بعيدا في الانتساب إلى المدينة وعالمها النقابي والحزبي، وكانت تتنازعه، شأنه شأن كل أبناء جيله، رغبة في كسر القيود الريفية وحزبياتها الضيقة وعصبياتها العائلية لأن بناء الأوطان الحديثة يتطلب ذلك ، ورغبة معاكسة في الحفاظ عليها لأن فيها ضمانة اجتماعية وأخلاقية يوظفها أبناء الريف في مناسباتهم الحزينة والجميلة ، في المآتم كما في الأعراس على حد سواء، انسجاما مع ما كانت عليه أحوال القرى والأرياف في الأربعينيات والخمسينيات .
الأرياف تجمع أبناء القرى فيتجاورون في المساكن كما في الحقول ، في السهر والسمر ومواسم الحصاد والقطاف ، ويعينون بعضهم بعضا في الصعاب ، ويتناسبون من الأقرباء أو من الجيران أو من أصدقاء القرى المجاورة . هكذا تكون العلاقات الريفية عبئا وثروة في آن واحد .
هي عبء لما تنطوي عليه من عصبية ضد الغريب ( أنا وأخي على ابن عمي وأنا ابن عمي على الغريب) . الغريب هو الآخر ، أي آخر . ولأنها تقوم على العصبية ويبنى عليها الاستبداد والطغيان وكل أنواع التمييز ، بما في ذلك التمييز العنصري . ولأن التضامن الذي تنتجه هو ، في الدرجة الأولى ، تضامن عائلي في وجه العائلات الأخرى ، وقروي ضد القرى الأخرى ، وحزبي ضد الأحزاب الأخرى ، وقومي ضد القوميات الأخرى . هذه هي حالنا في العالم العربي اليوم الذي بات المكان الوحيد على الكرة الأرضية الذي استعصى على المدنية وظل متمسكا بقيم البداوة وأنظمة الحكم الوراثي والاستبداد.
لكنها ثروة أيضا لأن علاقات القربى وعلاقات الجوار داخل القرية أو بين القرى تصنع الحسب والنسب . على مثل تلك العلاقات بنى أبو طارق بيته العائلي مع شريكة حياته التي جمعته بها علاقات النسب وروابط الجوار بين القرى.لكنه رفض القوقعة العائلية والانزواء والانتماءات الضيقة وتربى على القيم الحزبية التي لا تميز بين الناس على أساس انتماءاتهم الطائفية أو المذهبية أو المناطقية
الريف والمدينة كأنهما غريمان. قال الذين أرخوا للحرب من علماء الاجتماع أن علاقات العداوة المضمرة بينهما هي التي صدعت وحدة الوطن فشجعت أهل الريف على غزو المدينة في أول فرصة سنحت لهم وهدم ما فيها ، كأن الريف في فعلته هذه أراد أن يطوع المدينة ويعيدها إلى أصلها الريفي ، أو أنه أراد أن يثأر من غناها وثرواتها الطائلة .ربما لم يكونوا على حق في تحميل الريف وعائلاته وطوائفه هذا الوزر الثقيل ، لأن الذين تقاتلوا على جثة الوطن ينتمون إلى كل الطوائف والمناطق والقرى ، ويتشاركون في تهديم وحدته ولأن الذين يتحاصصونه في السلم كما في الحرب ليس لهم لا دين ولا انتماء.
انتماء أبو طارق لم يكن انتماء إلى تلك التعقيدات والخفايا والعداوات بقدر ما كان بحثا عن إطار يحقق فيه ذاته مع آخرين التقى بهم من طوائف وقرى مختلفة من سائر المناطق اللبنانية ، وأراد أن يعزز سعيه لتجاوز العصبيات العائلية والطائفية والمناطقية فنال من العمل النقابي بطاقة مرور إلى الحزب ، وظل على أحلامه الجميلة هذه إلى أن وهن جسمه وحنت ظهره الأيام ، ولست أعلم ما إذا كان قد اكتشف حجما هائلا من العصبية في العمل الحزبي ، أين منها عصبيات القرى والعائلات والاصطفافات المحلية . هذه كانت تحل بضربة كف أو عصى أو بوسة لحية ، أما تلك فانفجرت بين أيدينا قنابل موقوتة وحروبا ومعارك ودماء ، وباعدت بين الأخ وأخيه وفرقت العائلات وضربت قيم التعاون الأهلي ودمرتها .
حصل ذلك لا لأن العمل الحزبي يخلو من القيم السامية، بل على العكس، فالأحزاب شيدت أمجادها على قضايا كبرى تهم الوطن والأمة وكل الأمم وربت أعضاءها على نكران الذات والتضحية بالمال وبالنفس من أجل تلك القضايا الكبرى ، من أجل الخبز والعلم والحرية ، غير أنها لم تحسن دوما اختيار أدواتها ومحازبيها ، فوقعت في تعارض مع قيمها السامية والنبيلة، عندما كانت تختار التعصب ضد التسامح ، وتمارس على أعضائها وعلى جماهيرها الاستبداد والطغيان وكم الأفواه ، وتعلم المحازبين على الولاء الأعمى وتعطل عندهم الحس النقدي وتشحذ فيهم مشاعر الكره للأخرين وتفرغ ما في نفوسهم من طاقات نضالية وتعبئهم بقيم سابقة على عصر الحرية والديمقراطية والاعتراف بالآخر …
ربما بسبب ذلك انتصر المجتمع الأهلي على المجتمع المدني ، وانحسر نفوذ الأحزاب العلمانية والوطنية لتنمو بدائل محلية وطائفية ومذهبية تمعن في شرذمة الوطن وفي بعثرة أبنائه على أربع جهات الأرض.
في الوطن ، انتصر الأهلي على المدني ، القديم على الجديد ، وصارت النقابات فروعا من أحزاب الطوائف ، وتحولت الشعارات العلمانية إلى شعارات طائفية : إلغاء الطائفية بدا كأنه مطلب إسلامي والعلمنة بدت مطلبا مسيحيا ، واختلط حابل اليسار بنابل اليمين ولم يعد واحدنا يميز بين سلطة ومعارضة.
أما أبو طارق ، الذي مضى قبل أن يتبين الأبيض من الأسود في خيوط لبنان الكالحة، فقد انتصر عنده الوطن على الانتماءات المحلية ، وظلت النقابات تشكل عالمه حتى بعد أن تقاعد من النضال ومن الوظيفة ، حتى أنه لم يصدق في آخر أيامه أن النقابات التي ساهم في بناءها لتدافع عن خبز الفقراء ماتت وأن القضايا الكبرى التي شارك في رفع لوائها فقدت رونقها ، وأن المدينة التي قضى شبابه فيها لم تعد على صورتها المحفورة في ذاكرته ، لا المطبعة ولا أهراءات المرفأ ولا الشقة في برج البراجنة ، ولا المظاهرات ولا الإضرابات ولا جمع الاشتراكات من النقابيين … وفارقته رفيقة عمره . كل هذا العالم الذي شب فيه وشاب خيب أحلامه الجميلة فمضى معه إلى حيث مضت تلك الأحلام .
بقي له من هذا العالم أولاد وأحفاد سيحملون إسمه وذكره الطيب
له الجنة ولهم الصبر ولكم الشكر
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
منى
في تكريم فاطمة مشورب(فاطمة عباس)