24 نوفمبر، 2024

في تكريم أبو ماجد

تعودت، إن رثيت ، أن أكتفي بكلام وجداني أتحاشى فيه حشر السياسة في مشاعر الحزن. ولا أخفيكم هذه المرة أنني حين شرعت في الكتابة عن ” أبو ماجد” وجدت مشاعري حياله مجبولة بالسياسة التي اختلفنا معه عليها ، منذ أن كان حارسا أمينا على باب القانون وكنا مندفعين من أجل القضايا الوطنية والقومية.

ذلك أن فقيدنا هو رب عائلة تجمعني إليها ، فضلا عن أواصر القربى، أواصر العمل الحزبي مع ثلاثة من شبابه، أكبرهم ماجد، رفيق العمر والنضال في الحزب الشيوعي اللبناني على مدى ثلاثين عاما، ونجيب الذي دخل إلى الجامعة في الاتحاد السوفياتي بغير رضى والده، الذي كان أمينا على تقاليد المؤسسة العسكرية وعلى تربيتها الصارمة يومذاك ضد اليسار عموما والشيوعي منه على وجه الخصوص، لكن نجيب صار محل اعتزاز والده واعتزاز الجامعة اللبنانية يوم عاد من تخصصه أستاذا جامعيا في حقل الرياضيات.

لم يتح لي ، رغم أواصر القربى الدموية والسياسية ، أن أعرف عن قرب بقية أفراد العائلة معرفتي بماجد. موسى ، وإن كان رفيقا في الحزب ، كان اصغر سنا منا ، وعبد المجيد باعدت بيننا وبينه الاهتمامات.

وبفضل بناته توسعت دائرة أنسابنا وصداقاتنا بصهر من الهرمل وأنسباء كثيرين من آل ناصر الدين ، اهل ربة البيت ، من مزرعة سجد القريبة.

حين شرعت في الكتابة لم يكن الموت محط كتابتي بل الحياة.وتذكرت الصحافية جيزال خوري، أرملة الشهيد سمير قصير ، يوم استشهد جبران تويني. سألها أحد الصحافيين أن تقول شيئا بالمناسبة، فقالت إن انتباهها ليس مشدودا إلى موت جبران ، بل يملأ مخيلتها وتفكيرها غسان تويني الذي ماتت عائلته فردا فردا ، إبناه وابنته وزوجته، ماتوا في حياته ولم يبق من العائلة غيره.

هكذا رحت أفكر بماجد ، لا بأبو ماجد الذي يسامحني على ذلك، لأن ماجد رفيقي وصديقي وأخي فقد خلال هذه السنوات القليلة الماضية زوجته وأمه وأباه ، فكان ضعيفا أمام موت أحبته، وبكى زوجته كما لم  يبك زوج زوجة، لأنه مثل كل البشر يحب  لنفسه ولمن يحبهم الحياة، وللسبب ذاته كان قويا على المرض ، أي لأنه يحب أن يحيا ، على الأقل ، كما قال ، ما يكفيه من الوقت ليؤمن استمرار الحياة الكريمة لأولاده.

كلما قسا الموت على ماجد تذكرت شعرا للمتنبي يقول فيه

إذا أنت أمعنت الحياة وصرفها           لأيقنت أن الموت ضرب من القتل

يرد المؤولون على هذا الكلام الشعري الكبير بقولهم عن الموت إنه اختبار المؤمن . واعتراضا منا على كلام المؤولين لا على كلام الله ، نقول ، نحن المؤمنين، آه لو يختبرنا الله بالحياة لا بالموت.

لم يكن الموت محط الكتابة في كلمتي ، ربما بردة فعل على المؤولين وعلى صانعي الطقوس الذين يمضون بنا بعيدا في الماضي السحيق ، فنهرب من الحزن على موتانا أو نحاول أن نخفف من هذا الحزن بالبكاء على الميتين الأوائل من تاريخنا، حتى بات هذا التاريخ يثقل كاهلنا ويصعب علينا التعامل مع الحاضر في الحزن أو في الفرح ، في العمل وفي الحروب، وصار يندفع بعضنا إلى استعجال طلب الموت للفوز فوزا عظيما …بالحياة الآخرة ، لأن الآخرة، في قوله تعالى ، خير من الأولى.

هذا البكاء على الميتين الأوائل ليس جزءا من عقيدتنا ، فما من شريعة إلهية تقول بذلك ، وهو ليس سوى تأويل خاطئ للشريعة ، محكوم بجهل المؤول وبعدم إتقانه قراءة نصوص الشريعة، أو محكوم بمهارة السياسي في تطويع  تلك النصوص، والسياسي دوما هو هو ، إن لبس بزة عسكرية أو جبة أو ارتدى ثوب الاستبداد والتسلط.

كنت طفلا في منتصف الخمسينيات ، يوم كان أبو ماجد يأتي في إجازاته القليلة والقصيرة ، وكنا نتحلق حوله لأنه رمز الدولة ، ولأننا لم نكن نعرف عن الدولة ، دولتنا الحديثة التكوين في تلك الفترة إلا الجندي والدركي ومعلم المدرسة فضلا عن المختار… وكان أبو ماجد يجمع ركنين من الأركان التي نعرفها، هو إبن المختار وهو آمر مخفر من مخافر الدرك في عكار.

كنا نتحلق حوله صغارا وكبارا ، وهو يروي باعتزاز مآثر من حزمه وصرامته العسكريين ، ويحرص على أن يروي لنا بعض النوادر بلهجته العسكرية ، أو هو كان يعيد تمثيل الحوادث التي يرويها ، فتعلو نبرته حيث الحاجة إلى علو النبرة . نبرة عسكرية لم تفارقه حتى في تربية أولاده ، فمن يرتكب منهم خطأ كان يعاقب كأنه دركي في المخفر ، بالحجز أو بالاعتقال في الغرفة.

ظل على لهجته الحازمة هذه وعلى آرائه الصارمة لا يقبل نقاشا ،من غير ميوعة أو تردد ، لأنه معتاد على الأوامر وتنفيذ الأوامر، ولأنه كان يحارب بسيف القانون، حيث القانون ملح الأرض. وحين صرنا شبابا، وجدنا أنفسنا على اختلاف كبير معه  حول قضايا الوطن والدولة والقانون، واستمر اختلافنا طويلا ، حتى اكتشفنا متأخرين أننا كنا نحن المخطئين ، كنا نرتكب الخطأ الذي يرتكبه اليوم سوانا، وكان هو المحق. كان علينا، واليوم على سوانا ممن يحملون الراية في سباق البدل، أن نتعلم منه ويتعلموا أنه لا حل لأزمة بلدنا إلا ببناء دولة القانون، يعني أن علينا أن نحترم رجل الأمن ودوره وجابي الكهرباء ومحصل الضرائب وشرطي السير ومعلم الأجيال ، وأن نحترم حرية الآخرين وآرائهم …لا أن نبني مزارع إلى جانب مؤسسات الدولة وعلى حسابها.

يعني ألا نحول طوائفنا إلى أوطان بديلة عن الوطن، وألا نجعل لكل طائفة ومنطقة قانونها ، وألا نقع أسرى انتماءاتنا المذهبية الضيقة ، وألا نفرط بأغلى ما تملكه الأوطان ، وهو سر بقائها وصمودها وقوتها ، نعني الوحدة الوطنية.

يعني أن نشعر بالانتماء إلى وطن واحد كالذي كان يرعى أمنه أبو ماجد ، من الجنوب حيث مولده ، إلى عكار حيث مركز عمله ، إلى كل المناطق اللبنانية التي تتنازعها اليوم القوى الطائفية وتقتطع منها ما تبني عليه إقطاعات جديدة أين منها تلك التي واجهناها بالعنف وتعاملنا معها كأنها عدونا الوحيد اللدود في هذا العالم ، إلى جانب إسرائيل، إلى أن اكتشفنا أن العدو الأكثر خطرا هو عدو الداخل ، وهو ليس حزبا ولا شخصا ولا مؤسسة ، فالجهل عدو، والفساد عدو والمذهبية عدو والتعصب عدو والاستبداد عدو ، ولن نشفى من هذه الأمراض الأعداء إلا بالوحدة الوطنية وبدولة القانون والمؤسسات.

ظل أبو ماجد يمشي منتصب القامة ، شامخ الرأس ، ظل حتى وهو يشارف الثمانين من العمر، على مشيته العسكرية هذه كأنه ، حتى لو كان يمشي وحده، في نظام مرصوص.

لم تنحن قامته أمام صعوبات الدهر ومصائبه إلا حين أقعده المرض. مرض ومات غما، مرض من حزنه على ما حل به وبأهل الضاحية الجنوبية يوم دمرها العدو الاسرائيلي في عدوان تموز.

دمر العدوان منزله في البناية المقابلة لمسجد بئر العبد ، وفرض عليه وعلى كل أبناء الضاحية المدمرة منازلهم ،الابتعاد عنها ، فلما ابتعد مرض، كما لو كان المرض شظية أصابت “أبو ماجد” و ماجد في آن واحد.

تعافى أبو ماجد قليلا حين عاد إلى شقة أخرى استأجرها في الضاحية. لكن حساب الربح والخسارة في الأعمار والأجسام ، هو غيره في الحروب والمعارك السياسية. هو عند الضحايا من وقود الحرب وفدائييها غيره عند القادة من أمراء الحروب.

لقد علمتنا السنوات الأولى من الحرب ما كان أبو ماجد يلح أن يعلمنا إياه ، وعصينا عليه، انطلاقا من ثقة بالنفس وبأحزابنا وبالقضية الوطنية والقومية التي حملنا لواءها. تعلمنا ولو متأخرين، فأن يأتي متأخرا خير من ألا يأتي أبدا، تعلمنا أن أعظم ربح نجنيه ونصر نحققه من المعارك في سبيل الوطن هو الحفاظ على الوطن منيعا في وجه كل أنواع التفرقة والعصبيات المذهبية والطائفية…فماذا تكسب الطائفة ، أية طائفة ، إن هي ربحت نفسها وخسرت الوطن؟؟؟

وتعلمنا من الحرب أن كل مشروع طائفي هو وبال على الطائفة صاحبة المشروع قبل أن يكون وبالا على سواها. لعل قيادة الطائفة الشيعية ترى كيف أن مشروع المارونية السياسية دمر الموارنة قبل أن يدمر الوطن ، وأن المارونية السياسية لا يرد عليها بشيعية سياسية ، ولا بثلث معطل ولا بمحاصصة …لا يرد على الشرذمة الطائفية بغير وحدة الوطن