لم يكن فارق السن بيننا كبيرا لنكون كالأب وابنه. ولم يكن صغيرا لنكون من جيل واحد.لا إبنه ولا تربه فمن يكون إذن وماذا أكون ؟
لم يكن فارق السن وحده وراء هذا الالتباس ، ولا كنت وحدي أنعم به ، لأنه التباس جميل. فقد كان أبو علي يفك إحراجنا من اللحظة الأولى. إنه وإن كان أبا أو أخا أو جدا ، فهو قبل كل ذلك صديق. هو يفضل أن يكون صديقا حتى مع أفراد عائلته، صديقا لزوجته سهام ولأولاده الثلاثة علي ومحمد وليلا ولصهره موسى ولحفيديه من ابنته: أيمن و جاد، وصديقا لأصدقائهم ، وقد كنا محظوظين ولم نكن نعرف ما إذا كنا محظوظين بصداقته بفضل أولاده أم أن نعيم صداقتنا مع العائلة كان بفضله هو . حتى حفيدته الصغيرة ليلا افتقدته كصديق ،لا كجد، وبكته كأنها خسرت أنيسا وجليسا.
أبو علي من شجرة وارفة الظلال ، من جذورها أخوه ابو يوسف، أطال الله عمره، وفروعها في العائلات وفي القرى أخوات وأصهار وعدلاء وأحفاد ، ولا يتسع المقام للتعداد . لكن ذاكرة أبو علي كانت تتسع لتفاصيل حياتهم، من تزوج ومن رزق بطفل ومن نجح بامتحان ومن جاء من سفر…فكان حريصا على أن يتفقدهم بنفسه، فيقوم بالجردة اليومية والأسبوعية ، عبر الهاتف أو بزيارة خاطفة أو بالسؤال من بعيد، وقد انتقل هذا الحرص كما ينتقل كل شيء، بالوراثة أو بالتربية ، إلى أولاده، اهتماما صادقا ومحبا بكل معارف العائلة واصدقائها .
ظل على هذه الحال حتى أقعده المرض. آخر مرة كلمني بالهاتف كانت في الثامن من حزيران ، في اليوم التالي للانتخابات، ليعتذر مني عن وضعه الصحي الذي حال دون مشاركته في عملية الاقتراع، وليقول رأيه بما جرى وتأسفه على ما آلت إليه حال السياسة في لبنان وفي الجنوب. طيبت خاطره وتمنيت له الشفاء ، وكنت أعرف مسار مرضه من حالة مشابهة مرت بعمي إبو معن الذي لم يمض وقت طويل على غيابه. وكنت أتخيل حجم آلامه في ايامه الأخيرة ، حيث بدأ يحس أنها أيامه الأخيرة، عندما بدأ جسده يخونه ولا يلبي رغبته في المشي أو في طلوع الدرج ، فشعر أن الحياة اخذت تفلت من يديه، أو أن أحدا جاء يختلسها منه على غفلة من العمر، حتى بات يرضى بالقليل من طقوس الوداع : أن تبقى عائلته مجتمعة من حوله. زوجته ورفيقة عمره ، أم علي ، كانت الصديقة والممرضة ، وأولاده رافقوه في هذا السفر البطيء ثانية بثانية ، ومع إيمانهم بأن الموت حق، لم تكن عيونهم تصدق أن قمرهم سيغيب .
بعضكم يعرف عنه أكثر مما أعرف، لكنني سأذكر أمامكم أمرين اثنين أعتقد أن القلائل منكم يعرفهما. الأول هو أن أبو علي بلغ سن التقاعد من خمس سنوات خلت، ولم يتقاعد من وظيفته في القطاع الخاص، وذلك برغبة من الأفاضل من آل كرم أصحاب الشركة التي يعمل فيها ، واستجاب أبو علي لتلك الرغبة . ظل ، في مراحل مرضه الأولى، يداوم في عمله كالمعتاد، إلى أن اشتد عليه المرض فمنعه من الاستمرار ، ظلوا يدفعون له أجره كأنه لا يزال في وظيفته. وبقي أبو علي موظفا في الشركة، رغم سن التقاعد ورغم المرض، إلى أن وافته المنية.
ليس هذا بالأمر العادي ، ليس بالأمر العادي ان يبقى الموظف حريصا على مؤسسة ليست مؤسسته، وأن يبقى على المستوى ذاته من الحرص حتى بعد سن التقاعد ، وحتى بعد سني المرض، ولا هو بالأمر العادي أن يتعامل أرباب العمل مع موظف بمثل ما تعاملوا معه.
لهذه الغرابة اساس في قيمه الأخلاقية التي أرساها وقابلها أصحاب المؤسسة فردوا التحية بمثلها، فصنع الطرفان نوعا جديدا من العلاقة ، أعتقد أن من النادر أن تتكررمثل هذه العلاقة بين عامل ورب عمل في ظل النظام الاقتصادي الحر.
عندما انفجرت الحرب الاهلية وارتسمت خطوط التماس لم يعد أصحاب الشركة قادرين على متابعة شؤون الشركة عن قرب، فصار أبو علي يديرها كأنه هو صاحبها ومديرها ؛ فأخذ على عاتقه أن يقطع خطوط التماس يوميا لينقل الموظفين والعمال من الشرقية إلى الغربية ومن الغربية إلى الشرقية ، وبقي حيا وبقي عماله أحياء وبقيت الشركة ، بالرغم من كل الحواجز الطائفية والقتل على الهوية.
أصحاب الشركة الكرام قابلوا الوفاء بالوفاء، وردوا التحية بمثلها ، ولم يكن ذلك ممكنا لولا اصالة في تكوينهم الأخلاقي تشبه الأصالة في تكوين أبو علي. إنها قيم الفلاحين لا قيم الاقتصاد الحر. أبو علي تعامل مع المؤسسة مدفوعا بما تعلمه وتعلمناه من أهلنا الفلاحين، وكذلك تعامل آل كرم ، ولو أنهم تعاملوا معه بقيم الاقتصاد الحر لفعلوا غير ما فعلوا.
في مؤسسات الاقتصاد الحر يميل أرباب العمل إلى التخلص باكرا من ذوي الأجور العالية من بين موظفيهم .
وفي مؤسسات الاقتصاد الحر يكون هم العامل منصبا على تحصيل أجره ، ويناضل فحسب من اجل زيادة هذا الأجر ، ولا يكون تطوير المؤسسة من همومه ولا من أولوياته…، أما أبو علي فكان من طينة أخرى. ليس هذا إدانة لمشاعر الفقراء من العمال ولا إشادة بنهم الأغنياء من أرباب العمل ، فكلكم يعرف أن وراء كل الحروب في التاريخ تنافسا إما على سلطة إما على مال. غير أن أبو علي في عمله لم يكن ينافس لا على سلطة ولا على مال
أبو علي حافظ على الشركة وعلى مالها، وهو كان يعتقد أن مشكلة التفاوت الطبقي لا تحل على الطريقة التي يعتمدها الاقتصاد الحر، وهي طريقة تؤدي إلى أبشع أنواع التفاوت الاجتماعي الذي تناوله المصلحون من أول التاريخ ، ومما قيل فيه منسوبا إلى الإمام علي والصحابة ، ما جاع فقير إلا بما متع به غني ، أو لو تجسد الفقر أمامي رجلا لقتلته…أو إذا لم أجد في بيتي قوت عيالي لخرجت على الناس شاهرا سيفي.
وهي طريقة تبيح كل فنون السرقات الموصوفة ومنها سرقة أموال الآخرين وأملاكهم وسرقة المال العام ، هذا الذي إن أرادوا تلطيف وطأته أطلقوا عليه إسم الفساد وأحيانا الهدر.
أبو علي لم يبحث عن حل للمعضلة الكبرى في التاريخ، معضلة العدالة الاجتماعية ، فهذه من مسؤوليات الأحزاب والقوى السياسية، وحلها حل سياسي. أما الحلول الفردية والموضعية فمتوفرة عنده بقوانين الأخلاق ورصيده من قيمها كبير : وفاء وإخلاص وتفان في العمل وأمانة ونظافة كف ومثابرة وجد واجتهاد.
الأمر الثاني الذي قد يخفى على كثيرين منكم هو أن أبو علي كان مناضلا حزبيا. ليست هذه دعاية حزبية ولا دعوة ، فالحزب الذي انتمى إليه هو اليوم في حالة لا يحسد عليها ، والعمل الحزبي كله في الوقت الراهن ليس مدعاة اعتزاز.
وجه الأهمية في هذا الأمر أن ابو علي وظف انتماءه الحزبي خلافا لما كان سائدا .ففي الوقت الذي صار إعلان الانتماء الحزبي فرصة للتباهي ، وأحيانا للتشبيح ، وفي جميع الحالات للتنافس على موقع أو سلطة أو غنيمة أو استزلام ، ثم يتحول التنافس إلى معارك والمعارك إلى حروب دامية…قرر أبو علي أن يكتم انتماءه ليحافظ على عمله وعلى الشركة التي يعمل فيها ، والبلد منقسم يومذاك بين شرقية وغربية ومسلم ومسيحي ولبناني وفلسطيني، ثم بين لبناني مع سوريا ولبناني مع فلسطين ، ما كان يعني أن ثمن إعلان الانتماء الحزبي مآله التفرغ للنشاط السياسي على حساب العمل والعائلة.
كان أبو علي حزبيا عاقلا ، فلم يحكّم برنامج الحزب في تنظيم علاقته برب عمله، أو في حل مشكلة الصراع الطبقي بين الفقراء والأغنياء، بل ترك للتاريخ أن يحل المعضلة على مهل ومن غير خسائر.
وأبو علي لم يستحسن طيش العمل الحزبي ومغامراته غير المحسوبة، لكنه أصر على التمسك بالقيم الأصيلة في العمل السياسي، فربى أولاده عليها ورعاهم ووجههم على طريقها وعلى طريق العلم، ليحصلوا منه ما لم تمكنه ظروفه من تحصيله. لسان حاله معهم : يا أولادي ، تعلموا وتخرجوا من الجامعة وأنا أعيلكم ، وكان يقصد ما قصدته الحكاية التي طلب فيها أحدهم من أولاده أن يحفروا في الأرض لأن فيها كنزا، فإذا الكنز هو الحفر في الارض ، الكنز هو العمل ، الكنز هو العلم. أبو علي فعل ذلك يوم كان التفرغ في النضال الحزبي بديلا عن العمل المنتج ، أي مرادفا للبطالة ، فكم من حزبي خرجته الحرب أميا و عاطلا عن العمل ، أما أبو علي فقد خرّج من مدرسته ، من بيته ، ثلاثة مهندسين.
صديقي الحبيبين علي ومحمد
أبو علي كان صديقنا ورفيقنا ، صادقناه معا وفقدناه معا
له الجنة ولكم الصبر وطول العمر
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
منى
في تكريم فاطمة مشورب(فاطمة عباس)