29 مارس، 2024

في تكريم أبو علي رضا الشامي

كأنني حين أرثيه وأكرمه ، كأنني أرثي والدي ، رحمهما الله

حين جمع الزواج بين شقيقي عاطف وإبنته البكر منى لم يكن ذلك أول الجمع  بين البيتين . صرنا بهذا الاقتران أنسباء .

علاقات النسب هذه عمقت ما كان ورسخت ما سيكون

نشأت بيننا علاقات دافئة ، أخذت تتنامى بين بيتينا وعائلتينا ، اثنين اثنين ، لكل واحد في أحد البيتين  قرين ورفيق وصديق في البيت الآخر .

وأبو علي ، كنا كلنا نناديه بكنيته ، أبو علي ،  إلا زوجته الوالدة أم علي ، كانت تملك وحدها الحق في أن تناديه رضا .

ورضا لم يكن راضيا فحسب عن هذه الروابط ، بل كان يرعاها  بصمت الجندي المجهول وسخاء الكرام بأخلاقهم وشيمهم .

رضا كان إسما على مسمى ، نادرا ما كان يغضب ، وإن غضب فلا تدوم غضبته إلا لحظات ، وتنتهي دوما بابتسامة 

                                        ***********

القليلون منكم يعرفون أنني أقمت في منزلهم الصغير في بيروت عاما كاملا ، كنت واحدا من أفراد أسرتهم . كانوا خمسة وأنا سادسهم . أم علي والدتي مثلما هي والدتهم أطال الله عمرها وعمر والدتي .

نسرح في الصباح إلى مدارسنا لنعود وأقاسم إخوتي الجدد ، ورب  أخ لك لم تلده أمك، أقاسمهم الطعام والفراش والحنان وأشاركهم زياراتهم العائلية ، وأعود معهم في أيام العطل والأعياد إلى جرجوع  لأنضم إلى أسرتي الأولى . وفي جرجوع ، حين كنت أنهض في الصباح أجدني متجها إلى بيت أسرتي الثانية . أسرة واحدة في بيتين .

 إن لم نكن معا  في أحد المنزلين ، فنحن معا في الحقل والصيد والبيدر وملعب الرياضة .

بعد أن مضى عشرون عاما ، وأرغمنا ، بفعل الاحتلال الاسرائيلي على مغادرة بيوتنا ، وتبديل أماكن سكننا ، وجدتني مرة أخرى أحمل مفتاح البيت البيروتي ذاته ، بيت أبي علي رضا ، لأقيم فيه . وقد جاء الوقت اليوم لأعترف لهم بسرخبأته في صدري عشرين عاما أخرى ، وهو أنني كنت أعقد   فيه ، وهم في جرجوع ، اجتماعات سرية لمقاومة الاحتلال .

كنت مع أبي علي قد تواطأنا على كتم الأسرار ، فهو مضى إلى رحاب ربه دون أن يقول لنا أين خبأ سلاح المقاومين غداة الاجتياح وإلى من سلمه منهم . كل ما قاله أنه فعل ذلك ، فعله بدافع وطني . من هنا بدأت المقاومة الباسلة ، من رجال مجهولين ،  جنود مجهولين من أهلنا ، كأبي علي ، واجهوا العدو بصمت ، من نساء بطلات من أمهاتنا وأخواتنا ورفيقاتنا ، واجهن قوات الاحتلال بالصراخ والغضب والزيت المغلي .

                                       ************

بيت إبي علي في بيروت ، على صغره ، لم يتسع لي وحدي .

بيته الصغير المؤلف من غرفتين اتسع من اللحظة الأولى لعائلتين . في كل غرفة زوج وزوجة ، عروس وعريس .

 بيته الصغير كان ملتقى الأصحاب والأحباب ، ومكانا يجتمع فيه أهل النخوة من المهتمين بالحقل العام . وأبو علي جامع الشمل.أبو علي سيد البيت وسيد العمل العام .

من أيام حزبي النهضة والطلائع ، وأبو علي يحمل زر الحزب ويخلص في التزامه ، وظل على الدوام مخلصا لما يؤمن به ويلتزم ، رغم اختلاف العهود والاصطفافات وتبدل الوجوه والأحزاب .

منه تعلمت أنا شخصيا ، كيف يمكن ، بل كيف ينبغي للمرء ، أن يجمع  الاخلاص في الالتزام إلى الديمقراطية . لأن الالتزام كان يعني عند الآخرين ، وما زال يعني لدى كثيرين ،  وللأسف ، نفي الآخر ومناصبة العداء لصاحب الرأي المختلف .

 في حداثة أعمارنا كنا مع خياراته  وننحاز إلى العائلات السياسية التي كان ينحاز إليها ، وحين بدأ جيلنا يرسم لنفسه خيارات جديدة اصطدمت الخيارات .

 تركنا وشأننا ، ثم عرض علينا أن ننسق ، إن كان هناك مجال للتنسيق ، في آخر انتخابات سبقت الحرب الأهلية اللعينة ، وإن استعصى التنسيق يتركنا بكل الرضا ، كأنه يقول مع جبران : أولادكم ليسوا لكم ، أولادكم أبناء الحياة .

وتعلمت منه كيف يمكن ، بل كيف ينبغي أن يكون المرء مكافحا أو مناضلا في سبيل قضية أو فكرة ، وكيف يكون في الوقت ذاته مسالما ، لأن الذي نختلف حوله ليس آخر الدنيا .

                                  ***********

إذا جاز أن نحكي عن لبنان المقيم ولبنان المغترب ، يجوز لنا أن نحكي عن قرية في الريف وقرية في المدينة .

حين بدأت بيروت تغوي أبناء الفلاحين في القرى ، كان إبو علي ، وقبل أن يصير أبا لعائلة ، واحدا ممن غادروا اهلهم الفلاحين للعمل في بيروت حمالين وأجراء في المتاجر . وكان في الرابعة عشر من العمر.

حين شب وابتسم له الدهر في المدينة  ، ظل على أخلاقه القروية الفلاحية ، واستمر عليها حتى أيامه الأخيرة . ظل على سخاء الفلاحين وكرمهم ، ما في جيبه له ولغيره ولم يحسب للمال حسابا .

النقود التي يحملها على قلتها ، كان لا يحسن توضيبها ، ولا يعرف أين يضعها ، ولا كيف ينفقها . يدفع من جيبه بدل النقل في بوسطة الضيعة لمن يراه رقيق الحال ، و يدفع من جيبه وأحيانا من جيب رب العمل الذي يعمل عنده ما يساوي الدخل اليومي لمن يراه من الحمالين في شارع فوش مريضا ، إلى أن يتعافى . وحين تنادى أهل القرية لبناء مدرسة في جرجوع كان جال مع الغيورين من محبي العمل العام  وتبرع بما يوازي نصف دخله الشهري .

إنه سخاء الفلاحين ، سخاء لا يخشى الفقر على قول الشاعر :

ومن ينفق الساعات في جمع ماله                 مخافة فقر ، فالذي فعل الفقر

هو سخاء الفقراء  سخاء بالمال القليل الذي يملكه . لكن سخاء  بالوقت الكثير ، ينفقه على العمل العام مع شلة من أترابه وأصحابه من وجوه عائلته والعائلات الأخرى ، وجوه بعضها غاب وأطال الله أعمار الآخرين .

                                         ***********

 كنا ننكب على كتبنا المدرسية ، بينما هو على أريكته، نرجيلته أمامه ، وفي يده كتاب المطالعة . منه تعرفنا إلى سلسلة كتب الهلال ، لا يفوته منها أي إصدار ، أحب الكتب إلى نفسه تلك التي تتناول التاريخ الإسلامي ، يقرأ عن تاريخ الدين ، ولا يفوته واجب ديني . لم تكن تعنيه الطقوس كثيرا ولا المظاهر، كان يعنيه من الدين الإيمان . منه تعلمنا كيف يكون الإيمان شأنا يخص علاقة الانسان بربه . ومنه تعلمنا كيف يكون الإيمان تسامحا وتواضعا . فقراءاته الكثيرة حمته من التعصب وأبعدته عن التزمت ،  لم تجعل منه عالما ولا واعظا ، ولا أغرته للتدخل في إيمان الآخرين .

وفي ظننا أن الأديان هي تاريخنا ، وهي جزء من تكويننا الثقافي والآخلاقي . كل الأديان تاريخ وأخلاق وقيم ، السماوية منها وغير السماوية .

الأديان انتماء ، لانملك أن نختار فيها ، بل يتحدد انتماؤنا بالولادة ، فنكون مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين أو كونفوشيين .

والأديان طقوس ، وهي متشابهة لدى البشر على اختلاف أديانهم ، يصنعها البشر ليجسدوا فيها أشكال عبادتهم وعاداتهم الدينية وتقاليدهم ، وهم يبدلونها ويغيرون فيها مع مرور الوقت وتغير الظروف

والأديان إيمان ، والإيمان لا يأتينا عن طريق العقل ، بل هو عاطفة في القلب تجعل المرء مشدودا إلى خالقه بقوة الحدس

الأديان إذن ، انتماء وطقوسا وإيمانا . ليست محلا للنقاش والتنازع ، ولا هي مادة للتباهي والتفاخر ، بل هي جزء من تكويننا ، وجدت على هذه البسيطة متنوعة شديدة التنوع لتثبت لنا وحدة الكائن البشري على هذه الأرض ، لا لتكون سببا للنزاع والصراعات والحروب .

وجه واحد من وجوه الدين يجوز فيه النقاش ، بل يجب فيه النقاش ، هو ليس الانتماء ولا طقوس العبادة ولا الإيمان ، بل هو علوم الدين .

وليس أفضل من قول الإمام علي في هذا الشأن : كلما ازددت علما ، كلما ازددت علما بجهلي . إن بحر العلم واسع ، ومدعو العلم هم وحدهم جهلته . وبالتواضع وحده تفتح أبواب العلم أمام طلاب العلم .

رحم الله أباعلي

رحم الله شهيد الوطن ، وحمى الوطن من شر الحروب