كأنني حين أرثيه وأكرمه ، كأنني أرثي والدي ، رحمهما الله
حين جمع الزواج بين شقيقي عاطف وإبنته البكر منى لم يكن ذلك أول الجمع بين البيتين . صرنا بهذا الاقتران أنسباء .
علاقات النسب هذه عمقت ما كان ورسخت ما سيكون
نشأت بيننا علاقات دافئة ، أخذت تتنامى بين بيتينا وعائلتينا ، اثنين اثنين ، لكل واحد في أحد البيتين قرين ورفيق وصديق في البيت الآخر .
وأبو علي ، كنا كلنا نناديه بكنيته ، أبو علي ، إلا زوجته الوالدة أم علي ، كانت تملك وحدها الحق في أن تناديه رضا .
ورضا لم يكن راضيا فحسب عن هذه الروابط ، بل كان يرعاها بصمت الجندي المجهول وسخاء الكرام بأخلاقهم وشيمهم .
رضا كان إسما على مسمى ، نادرا ما كان يغضب ، وإن غضب فلا تدوم غضبته إلا لحظات ، وتنتهي دوما بابتسامة
***********
القليلون منكم يعرفون أنني أقمت في منزلهم الصغير في بيروت عاما كاملا ، كنت واحدا من أفراد أسرتهم . كانوا خمسة وأنا سادسهم . أم علي والدتي مثلما هي والدتهم أطال الله عمرها وعمر والدتي .
نسرح في الصباح إلى مدارسنا لنعود وأقاسم إخوتي الجدد ، ورب أخ لك لم تلده أمك، أقاسمهم الطعام والفراش والحنان وأشاركهم زياراتهم العائلية ، وأعود معهم في أيام العطل والأعياد إلى جرجوع لأنضم إلى أسرتي الأولى . وفي جرجوع ، حين كنت أنهض في الصباح أجدني متجها إلى بيت أسرتي الثانية . أسرة واحدة في بيتين .
إن لم نكن معا في أحد المنزلين ، فنحن معا في الحقل والصيد والبيدر وملعب الرياضة .
بعد أن مضى عشرون عاما ، وأرغمنا ، بفعل الاحتلال الاسرائيلي على مغادرة بيوتنا ، وتبديل أماكن سكننا ، وجدتني مرة أخرى أحمل مفتاح البيت البيروتي ذاته ، بيت أبي علي رضا ، لأقيم فيه . وقد جاء الوقت اليوم لأعترف لهم بسرخبأته في صدري عشرين عاما أخرى ، وهو أنني كنت أعقد فيه ، وهم في جرجوع ، اجتماعات سرية لمقاومة الاحتلال .
كنت مع أبي علي قد تواطأنا على كتم الأسرار ، فهو مضى إلى رحاب ربه دون أن يقول لنا أين خبأ سلاح المقاومين غداة الاجتياح وإلى من سلمه منهم . كل ما قاله أنه فعل ذلك ، فعله بدافع وطني . من هنا بدأت المقاومة الباسلة ، من رجال مجهولين ، جنود مجهولين من أهلنا ، كأبي علي ، واجهوا العدو بصمت ، من نساء بطلات من أمهاتنا وأخواتنا ورفيقاتنا ، واجهن قوات الاحتلال بالصراخ والغضب والزيت المغلي .
************
بيت إبي علي في بيروت ، على صغره ، لم يتسع لي وحدي .
بيته الصغير المؤلف من غرفتين اتسع من اللحظة الأولى لعائلتين . في كل غرفة زوج وزوجة ، عروس وعريس .
بيته الصغير كان ملتقى الأصحاب والأحباب ، ومكانا يجتمع فيه أهل النخوة من المهتمين بالحقل العام . وأبو علي جامع الشمل.أبو علي سيد البيت وسيد العمل العام .
من أيام حزبي النهضة والطلائع ، وأبو علي يحمل زر الحزب ويخلص في التزامه ، وظل على الدوام مخلصا لما يؤمن به ويلتزم ، رغم اختلاف العهود والاصطفافات وتبدل الوجوه والأحزاب .
منه تعلمت أنا شخصيا ، كيف يمكن ، بل كيف ينبغي للمرء ، أن يجمع الاخلاص في الالتزام إلى الديمقراطية . لأن الالتزام كان يعني عند الآخرين ، وما زال يعني لدى كثيرين ، وللأسف ، نفي الآخر ومناصبة العداء لصاحب الرأي المختلف .
في حداثة أعمارنا كنا مع خياراته وننحاز إلى العائلات السياسية التي كان ينحاز إليها ، وحين بدأ جيلنا يرسم لنفسه خيارات جديدة اصطدمت الخيارات .
تركنا وشأننا ، ثم عرض علينا أن ننسق ، إن كان هناك مجال للتنسيق ، في آخر انتخابات سبقت الحرب الأهلية اللعينة ، وإن استعصى التنسيق يتركنا بكل الرضا ، كأنه يقول مع جبران : أولادكم ليسوا لكم ، أولادكم أبناء الحياة .
وتعلمت منه كيف يمكن ، بل كيف ينبغي أن يكون المرء مكافحا أو مناضلا في سبيل قضية أو فكرة ، وكيف يكون في الوقت ذاته مسالما ، لأن الذي نختلف حوله ليس آخر الدنيا .
***********
إذا جاز أن نحكي عن لبنان المقيم ولبنان المغترب ، يجوز لنا أن نحكي عن قرية في الريف وقرية في المدينة .
حين بدأت بيروت تغوي أبناء الفلاحين في القرى ، كان إبو علي ، وقبل أن يصير أبا لعائلة ، واحدا ممن غادروا اهلهم الفلاحين للعمل في بيروت حمالين وأجراء في المتاجر . وكان في الرابعة عشر من العمر.
حين شب وابتسم له الدهر في المدينة ، ظل على أخلاقه القروية الفلاحية ، واستمر عليها حتى أيامه الأخيرة . ظل على سخاء الفلاحين وكرمهم ، ما في جيبه له ولغيره ولم يحسب للمال حسابا .
النقود التي يحملها على قلتها ، كان لا يحسن توضيبها ، ولا يعرف أين يضعها ، ولا كيف ينفقها . يدفع من جيبه بدل النقل في بوسطة الضيعة لمن يراه رقيق الحال ، و يدفع من جيبه وأحيانا من جيب رب العمل الذي يعمل عنده ما يساوي الدخل اليومي لمن يراه من الحمالين في شارع فوش مريضا ، إلى أن يتعافى . وحين تنادى أهل القرية لبناء مدرسة في جرجوع كان جال مع الغيورين من محبي العمل العام وتبرع بما يوازي نصف دخله الشهري .
إنه سخاء الفلاحين ، سخاء لا يخشى الفقر على قول الشاعر :
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر ، فالذي فعل الفقر
هو سخاء الفقراء سخاء بالمال القليل الذي يملكه . لكن سخاء بالوقت الكثير ، ينفقه على العمل العام مع شلة من أترابه وأصحابه من وجوه عائلته والعائلات الأخرى ، وجوه بعضها غاب وأطال الله أعمار الآخرين .
***********
كنا ننكب على كتبنا المدرسية ، بينما هو على أريكته، نرجيلته أمامه ، وفي يده كتاب المطالعة . منه تعرفنا إلى سلسلة كتب الهلال ، لا يفوته منها أي إصدار ، أحب الكتب إلى نفسه تلك التي تتناول التاريخ الإسلامي ، يقرأ عن تاريخ الدين ، ولا يفوته واجب ديني . لم تكن تعنيه الطقوس كثيرا ولا المظاهر، كان يعنيه من الدين الإيمان . منه تعلمنا كيف يكون الإيمان شأنا يخص علاقة الانسان بربه . ومنه تعلمنا كيف يكون الإيمان تسامحا وتواضعا . فقراءاته الكثيرة حمته من التعصب وأبعدته عن التزمت ، لم تجعل منه عالما ولا واعظا ، ولا أغرته للتدخل في إيمان الآخرين .
وفي ظننا أن الأديان هي تاريخنا ، وهي جزء من تكويننا الثقافي والآخلاقي . كل الأديان تاريخ وأخلاق وقيم ، السماوية منها وغير السماوية .
الأديان انتماء ، لانملك أن نختار فيها ، بل يتحدد انتماؤنا بالولادة ، فنكون مسلمين أو مسيحيين أو بوذيين أو كونفوشيين .
والأديان طقوس ، وهي متشابهة لدى البشر على اختلاف أديانهم ، يصنعها البشر ليجسدوا فيها أشكال عبادتهم وعاداتهم الدينية وتقاليدهم ، وهم يبدلونها ويغيرون فيها مع مرور الوقت وتغير الظروف
والأديان إيمان ، والإيمان لا يأتينا عن طريق العقل ، بل هو عاطفة في القلب تجعل المرء مشدودا إلى خالقه بقوة الحدس
الأديان إذن ، انتماء وطقوسا وإيمانا . ليست محلا للنقاش والتنازع ، ولا هي مادة للتباهي والتفاخر ، بل هي جزء من تكويننا ، وجدت على هذه البسيطة متنوعة شديدة التنوع لتثبت لنا وحدة الكائن البشري على هذه الأرض ، لا لتكون سببا للنزاع والصراعات والحروب .
وجه واحد من وجوه الدين يجوز فيه النقاش ، بل يجب فيه النقاش ، هو ليس الانتماء ولا طقوس العبادة ولا الإيمان ، بل هو علوم الدين .
وليس أفضل من قول الإمام علي في هذا الشأن : كلما ازددت علما ، كلما ازددت علما بجهلي . إن بحر العلم واسع ، ومدعو العلم هم وحدهم جهلته . وبالتواضع وحده تفتح أبواب العلم أمام طلاب العلم .
رحم الله أباعلي
رحم الله شهيد الوطن ، وحمى الوطن من شر الحروب
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
منى
في تكريم فاطمة مشورب(فاطمة عباس)