21 نوفمبر، 2024

في تكريم أبو معن

  آخر مرة ، هو الذي اتصل بي ، حيث كان ، وهو على الفراش ، كل ساعة أو ساعتين ، يستخدم ما يكون قد تجمع  فيه من قوة . استخدمها تلك اللحظة ليطمئن علي  بعد عارض ألم بي . في الصباح عرفت أنه كان يحدس بالموت و يودع من حوله ، على طريقته، وحين لم يجدني طلب الهاتف ، نطق بجملتين : سألني عن صحتي  وتمنى لي الشفاء ، وودعني . وبعد ساعات لوح بيديه وغادر الحياة الدنيا.

أذكره في أربع صور .

صورة المريض

حين كان يستجدي ممن حوله المساعدة ، كنت أرى في عينيه كم هو مذل طلب المساعدة  . كان يطلب هواء ليتنشق الحياة ، وكيف لنا أن نعطيه الهواء ورئتاه مغمضتان ، رئتاه موصدتان في وجه النسيم و حتى في وجه والريح ، لا يدخلهما شيئ ، ولا يخرج منهما إلا الاستغاثات .

كيف يمكن لك أن تستجيب لمن يطلب منك هواء ، والهواء مباح ؟ هل تتنشق عنه ؟

وإن لم تستجب لاستغاثته تشعر كأنك أنت الذي تحرمه من نسمة الهواء .

وإن قررت أن تستجيب تجد نفسك عاجزا عن فعل شيء ، إلا أن تنادي الدكتور ياسر أو أن تطلب من كامل سيارة إسعاف للصليب الأحمر فتنقله إلى  المستشفى ، بل من مستشفى إلى آخر ، لا بحثا عن هواء بل عن مسرب للهواء إلى الرئتين ، والرئتان موصدتان.

في المستشفى وحدها كنا نشعر بحرج أقل حين ينظر إلينا ، صرنا هناك نحيل الاستغاثة على سوانا . إنهم ، أطباء وممرضين، مثلنا ، لا يستطيعون أن يقدموا هواء ، لكنهم قادرون على حقنه بإبرة تخفف من إلحاحه على الاستغاثة ،أو تحسن قدرته على تنشق الهواء ، فينام . ظل على هذه الحال ، إلى أن توقف التهاب الرئتين ، بل التهاب الجزء السليم من الرئتين ، لأن الجزء غير السليم صار خشبة يابسة ، لا الهواء يدخل إليه ، لا ولا حتى المرض .

بعد شهر ونصف عاد إلى المنزل مقعدا ،هو ينتظر الشفاء ،و الموت ينتظره ، أما نحن فكنا ننتظر المواعيد المحددة لإعطائه أدويته العديدة التي لم يستطع هيثم أن يحفظها ، لكثرتها ، فصنفها في جداول ، هذا للصباح وذاك قبل الوجبة أو بعدها، وذلك بمقادير تتناقص مع الوقت …ودواء ينبغي تجديده وآخر ينبغي استبداله ، واللائحة طويلة …وقناني الأوكسيجين وأجهزة التنفس على الكهرباء ولا كهرباء … وغرفته كأنها غرفة عناية فائقة .

كل ذلك بسبب التدخين . والتدخين لا يسد الرئتين فحسب ، بل يسبب المذلة . لم أر عمي ذليلا إلا حين صار مسدود الرئتين . كان يطلب أن يتنفس ويستجدي الهواء ، ثم ، في غفلة عنا يستجدي سيكارة ويدخنها في السر أو بعيدا عن العائلة . وإن طالبناه أنكر . التدخين وحده جعله يكذب على نفسه وعلينا . لم يستطع الأطباء إقناعه بوقف  التدخين. لم يمتنع ، لكن التدخين استطاع أن يمنعه من التنفس . التدخين  للأسف أقوى من الطب و الأطباء ومن الأقرباء والأصدقاء ومن كل النصائح .

 أيها الأصدقاء المدخنون ، لا تجعلوا التدخين يذلكم كما كان يذله . لا تدعوه يقتلكم كما قتله .

صورة الرحالة

أول ما تكرم به علي ابنته الغالية دنيا التي صارت شريكة حياتي . لم أكن أعرفه . كنت أسمع عن مسافر في الكويت ، ولست أذكر إن كنت قد جالسته طويلا قبل ذلك رغم القرابة التي تجمعنا ، فهو سافر وأنا طالب ، وفارق السن بيننا جيل كامل  ، ثم عادت عائلته من دونه واستقرت ، وظل هو على سفر .

كان  ، حين يأتي من السفر ، يأتي محملا بالسكائر وهدايا لأفراد العائلة والأقربين . إن جالسته بعد سفره لا تصدق أنه قادم من الكويت بثرائها ونفطها ، لأنه يستقبلك في غرفة ” العلية ” في بيت والده أو في بيت عمه ، إلى أن أعانه الله على بناء بيت لم يكمله حتى اليوم . مع ذلك إن أردت أن تختصره بصورة فليس أفضل من صورة الكرم ، رغم شكواه دوما من ضيق ذات اليد .

لم يكن مرة غنيا ، لكنه كان دوما كريما . كان يتصرف كأنه يملك مال الدنيا ، مع أنه لم يكن يملك منه ما يكفيه أو يكفي العائلة . كان يأتي من الكويت ، فتحسب حين تسمعه يحدثك عن علاقاته كأنه أحد أمرائها ، وليس صدفة أن أخي مقلد أطلق عليه لقب المير ، واستمرينا نناديه به تحببا ، حتى حين صار أبعد ما يكون عن الإمارة والأمراء ، يساعده على ذلك إنفاق وبذخ على قامته الممشوقة وهندامه الأنيق ، و حديث شيق يشف عن سعة اطلاع ، أقله ما توفره ثقافة السفر والغربة ، ورغبة في اقتناء كتب ما زال في مكتبتي عدد منها ، خصوصا أجزاء أربعة من تاج العروس لا هو أكملها ، بسبب عودته النهائية من الكويت ،ولا أنا لأنني فضلت عليها قاموسا آخر هو لسان العرب ، كما أنني أدين له بالإدمان على قراءة  مجلة العربي ، ثم على الاشتراك فيها لسنوات ، إلى أن اتسعت دائرة مطالعاتي في مرحلة الدراسات الجامعية .

 لم أكن مجرد قريب عن طريق المصاهرة . صرت جزءا من عائلته وصارت جزءا مني ، رندة وريما أختان لي لا لدنيا وحدها ، وكم من مرة كنت أقدم زوجيهما الحبيبين شكيب وعلي إلى أصدقائي للتعارف قائلا : هذا صهري علي ، أو صهري شكيب ثم أستدرك ، إنه عديلي ، وها أنا أستدرك الآن ، ليسا صهرين ولا عديلين ، إنهما أخوان . وهيثم أنجب طفلين ، سمى واحدا باسم أبيه وواحدا باسمي ، ليؤكد لي أنني لم أكن إلا واحدا من أفراد العائلة .

في أسفاره كان أقرب إلى صورة الرحالة منه إلى المغترب ، ذلك أن المغترب وبلاد الاغتراب تذكر بالمال والثروة والمتحدرين من أصل لبناني ، الذين نتذكر صور من هم من جيلنا ونحتفظ بها ، إلى أن تنسى الأجيال الجديدة بعضها بعضا وتنقطع حبال الصلة .

 أما أبو معن فكنت لا تعرف ما إذا كان في زيارة إلى لبنان أم في زيارة إلى المغترب ، ولا كنت تعرف من أيهما يجني المال ، على قلته ، ولا إلى أيهما يبعث الرسائل بخطه الجميل وقلمه السيال . إقاماته القصيرة في البلدان وفي الوظائف جعلته أقرب إلى أن يكون رحالة . لو كتب أحاديثة الشيقة عن رحلاته لكان أديبا ، لكنه كان يكتفي بروايتها الشفوية ، كما كان يكتفي من جني المال بما يوفر له نفقات السفر وأكثر قليلا.

صورة المتقاعد

التقاعد الذي فرضناه عليه لم يكن في الحقيقة تقاعدا من العمل بل من السفر . وكم عز عليه أن نحجز جوازه ، لأنه كان لا يزال يتمتع ببنية  قوية وصحة سليمة وقامة ممشوقة ، فضلا عن كونه ظل حتى الحظات الأخيرة يتمتع بعقل نير ، فقد ودع من حوله بكامل وعيه ، و حين شق النطق عليه لوح بيديه .

ولكم شعر بالتعويض حين قررت أن أبني منزلا . أحس بأن ما لم يستطع أن يصنعه لنفسه ، ها هو يصنعه لي . فالمنزل الذي بناه   لم يكن هو الذي أشرف على بنائه ، بل  الأستاذ محمد فضل مقلد كثيرا وأنا قليلا جدا .

 أما هو فقد راح يستعيد دوره في بناء منزلي ، يضع المازورة على خصره والقبعة على رأسه ، يرافق معلم العمار إبن خاله الحاج أبو علي حسن و فريق الأقارب ، ويقف في الورشة مشرفا ومدخنا كرجال الأعمال والمقاولين ، على غرار ما كان يفعل في ورشات البناء في المغترب .

ابو معن ظل كل حياته يحن إلى صورة رجل الأعمال والمقاول ، وكلما حاول أن يقترب من الصورة ابتعدت هي عنه ، كأنه كان يفضل لو كان مهندسا يصنع البناء على الورق ، ويترك لسواه التنفيذ على الأرض . ولأنه لم يكن مهندسا مجازا ولا كان ميالا ليكون معلما تنفيذيا ، فقد ضاع بين الإثنين ،  لكنه عوض عن ذلك بعدة الشغل الأنيقة والمرتبة بإتقان في خزانته أو على رفوف الكتب، أقلاما وأوراقا بيضاء للرسائل و الرسوم وحسابات الأمتار المربعة والمكعبة والارتفاعات . فصار الخبير  القروي في شؤون الكيل ، يعود إليه رئيس البلدية وورش الأقارب للتدقيق ومسح الأعمال في الطرقات أو علىمساحات الجدران .

صورة الفتى العربي

كان سهلا عليه أن يستعيد صورة المقاول ، رجل الأعمال . لكنه ، في التقاعد ، لم يكن سهلا عليه أن يستعيد صورة عبد الناصر ومرحلة  النهوض القومي في الخمسينات ، يوم كان في عز شبابه وحماسه .لم أكن أعرفه يومذاك ، لكنني تخيلته في تلك المرحلة من خلال اهتماماته ، وهو في سن التقاعد ، وحماسه المتوقد للقضايا العربية ولقضية فلسطين ، للمقاومة ، مقاومة الحزب الشيوعي ثم مقاومة حزب الله اللتين انتمى إليهما بعض أفراد عائلته .

حين تعرفت إليه كانت حماسته السياسية  تتجسد  أمامنا خطابا قوميا مدبجا موثقا بالحكايات و النوادر والتخيلات والأمجاد العربية التي تربى على نكهتها ، فسمى إبنه البكر معنا ، لدلالته ورمزيته في التاريخ العربي .

بعد أن اشتد عودنا السياسي صار ، بدل أن يواجهنا بالخطاب الحماسي ، يسارع حين ألتقيه إلى الاطمئنان مني عن الوضع السياسي عموما ، وعن الأزمات التفصيلية التي كان يلاحقها في الصحف ووسائل الإعلام  ويواظب عليها بلا كلل . كان في بداية الأمر يرتاح إلى إجاباتي ، وظل يرتاح إليها إلى وقت قريب ، حتى صرت أحس وراء تراكم أسئلته رغبة عميقة عنده ، بل تمنيا علي في أن أغير إجاباتي .

 والحقيقة أنني صرت منذ تسعينات اتفاق الطائف والانهيارات الكبرى أكثر ميلا إلى نقد فكرنا وطرق تفكيرنا ومناهجنا وبرامجنا وأشكال مواجهاتنا ، بينما ظل هو متمسكا بتقاليده السياسية تمسك كل امرىء بعاداته ، فصار يستصعب أن ندين تاريخ هزائمنا ، حتى لا يكون ذلك إدانة لكل التاريخ ، وأن ندعو إلى الخروج من دوامة الانهيارات القومية التي انتهت ، في ما انتهت ، إلى الغرق في وحول الاستبداد القومي والقهر القومي والموت القومي ، وأن ندين الخوض في المعارك اللغوية بدل المعارك الحقيقية ، ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار ، وبتنا لا نرى فرقا كبيرا بين الاستبدادين العربي والأجنبي ، إلا ما قاله الشاعر العربي :

 وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

                                      على المرء من وقع الحسام المهند

كان يربكني حين يسكت عن غير اقتناع بما أقول . كنت أحس بأنني أقهره ،  فهو يسكت احتراما لي  ولما يقرأه من كتابات لي في الصحف ، ويخشى من جرأة القول ضد الأقربين والأبعدين .

لو كنت أجيبه بما يرضيه ، وخلافا لما كنت أكتبه و أقوله له نقدا عنيفا لتاريخنا ، وأنا من هذا التاريخ ، لكنت قهرت نفسي . والحل ؟ قبل الحل بحثت عن تفسير

في غمرة النهوض القومي الناصري غادر جيلنا وجيله القرى ونمط معيشة الفلاحين ، جيله راح يبحث عن فرص عمل في العمل المأجور ، وجيلنا ليتابع الدراسة في الثانويات والجامعات .هم في أعمالهم اكتفوا بموقف تضامني من بعيد ، أما الطلاب فقد دفعوا ثمن نضالهم الاجتماعي والوطني والقومي عرقا ودما .

حين كانت تداهمنا الهزائم وتتكرر كانت وطأتها علينا أكثر من وطأتها عليهم . وحين تجرأ صادق جلال العظم ،باسم جيل بكامله،  على نشر كتاب في نقد الهزيمة ، كان جيل عمي يصدق أننا انتظرناهم من الشرق فأتونا من الغرب ، وأن كل هزائمنا ناجمة عن مؤامرات تحيكها الإمبريالية والصهيونية ، أما نحن فقلنا إن الأعداء هم المسؤولون عن التآمر ، أما الهزائم فلا أحد يتحمل مسؤوليتها غير الأنظمة المتاجرة بالقضية القومية .لذلك كله اتجهنا نحن نحو النقد ، بينما اتجه جيلهم نحو التبرير .

أما الحل ، فحين كان لا يزال أبو معن يحتمل الحديث في السياسة قلت له:

 عمي : من شب على شيء شاب عليه . لن أصدم مشاعرك القومية الجياشة بعد اليوم ، لكن ! لم يعد يليق بنا ، أنا وأنت ، أن  ننحني أمام عاصفة الطائفية الهوجاء ، ولا يليق بي أن أقول هنا كلاما وهناك كلاما آخر ، سأظل  أقول الخطاب ذاته بين الشيعة والسنة والموارنة والدروز ، في جرجوع أو في صيدا ، في بعقلين أو في كسروان ، بين كل الطوائف وفي كل المناطق من أجل قيام هذا الوطن من بين الأنقاض  . فالكلام الواحد ، الذي لا يتلون ، هو الذي يوحد الوطن ويبني الدولة . أما الخطابات التي تقبلها ساحة وترفضها ساحات ، وتقبلها ضاحية وترفضها الضواحي الأخرى ، الخطابات التي تشحن النفوس وتؤجج الخلافات وتشعل المشاعر الطائفية ، فسأبقى في مواجهتها حتى لو بقيت وحدي . هذا لكي يبقى لنا وطن ولكي تقوم دولة ، ولكي يجد أحفادك أرضا لا ينازعهم على خيراتها أحد من تجار الطائفية وتجار القضية القومية والمستبدين والفاسدين والمفسدين .