24 أبريل، 2024

بمثابة تقديم

                                         بقلم الدكتور محمد علي مقلد

يستحق ديوانه أكثر من هذا التقديم . إن صح أن تختصر شخصا بصفة ، أو أن تغلب عليه  صفة ،  فالحاج أبو عفيف شاعر قبل أي شيء آخر. غير أن الشعر لم يكن مرة في التاريخ حرفة يتفرغ لها الشعراء . كان ، وكانوا يكتبون الشعر في أوقات فراغهم وفي المناسبات ، ولهذا كان الشعرالتقليدي العربي ، في معظمه ، شعر مناسبات . ومع الزمن ، بدأت المناسبة تختفي في طيات القصيدة لتعبر عن حالة أو موقف أو لحظة انفعال .

هو من سلالة هؤلاء الشعراء الذين كانت تحركهم المناسبات ، والذين كانوا لسان حال قومهم . قومه القرية وأهلها والقرى المجاورة والأصدقاء في كل مكان ، في الريف حيث ولد ، وفي المدينة حيث كان موظفا في شركة النقل اللبنانية ( الترامواي ) ، حيث كان يلتقي اللبنانيون من كل المناطق ، يعني من كل الطوائف ، على صورة جرجوع المتعددة الطوائف، وربما لذلك ولأسباب أخرى كان ضد الطائفية .

حين تقرأ شعره تحس أنه يحفر في اللغة على طريقة كبار من حفروا فيها . لم يتعلم أوزان الخليل ، لكنه كان يعزف عليها كأنه صانعها . تعلمهما، اللغة والأوزان ، إسوة بسواه من أهل القلم في الجنوب اللبناني ، حيث الشعر ديوان العرب وتاريخهم ، وإليه كانوا يلجأون ليقاوموا الفقر والمرض والتخلف . وليس غريبا عليهم أن يكونوا شعراء رغم سيادة الأمية، ففي طفولته لم تكن مدرسة ولا كتاب ولا وطن ، بل كان الشعراء ينبتون من وهج التراث ويتألقون كالنجوم في سماء غائمة .

تغلب على قصائده المراثي ، لأن الموت هو أكبر المناسبات الجامعة ، في غياب أشكال التجمع الحديثة ، وكان الحاج أبو عفيف ناطقا باسم الجماعة ، يعبر عن فرحها وعن حزنها ، ولهذا يشكل ديوانه جزءا من تاريخ القرى والعائلات والمناسبات ، تطالعنا فيه أسماء لا تعرف الأجيال الجديدة عنها شيئا ، فما عليهم إلا أن يقرأوه ليطلعوا على تاريخهم .

************

في آخر عقدين من عمره صرنا نقرأ في عينيه شكوى كأن على لسانه طعم العلقم ، أو كأنه لم يعد يعجبه شيء في هذه الدنيا ، لكنه ، على ما عهدناه فيه ، كان خفيف الظل ، وكان بحسه  السليم الحاذق يقارن الجديد بقديمه ، فيستحضر أحداثا ويستذكر أشعارا من سجله الحافل ، من شعره ومن شعر سواه ، ولا يخفي قلقه على مصير الوطن والأمة ، وتشاؤمه من المستقبل ، مستقبلنا نحن ، لا سيما بعد أن حل الانقسام الطائفي البغيض محل الوحدة الوطنية ، والتزمت في الدين محل التسامح و رحابة الإيمان ، والعجز العربي محل النخوة الناصرية ، وبعد أن تحولت المنابر ، وهو سيدها وشاعرها ، إلى أبواق لتجار السياسة وتجار الدين.  

عاش على مهله إذن ، على كيفه ، على سجيته ، فطرة الشعر التي رآها الشاعر جورج جرداق في شعره  هي فطرة حياته كلها . لم يسع إلى شيء بعينه دون سواه في هذه الدنيا ، بل سعى إلى الحياة كلها ، فعاش الحياة كلها  باعتدال  . عاش حتى ارتوى .

والاعتدال فلسفة في الحياة ، اختاره كأنما ليعارض الذين يريدون أن يعيشوا الحياة بالطول وبالعرض ، أو ليعارض  قول أبي فراس الشهير:

ونحن أناس لا توسط بيننا                  لنا الصدر دون العالمين  أو القبر

وفلسفة الاعتدال مكنته من شيء ما أحوجنا إليه في علاقاتنا الاجتماعية ، وهو أن نتحاشى حشر السياسة في كل شيء ، في الدين وفي الصداقة وفي الضيافة وفي العادات والتقاليد . فالسياسة حريصة على أن تحول الرأي إلى موقف ، والخلاف في الرأي لا يفسد الود بين الناس ، أما الخلاف في الموقف فهو بؤرة الفتن ومصدر الشقاق  لذلك كان شديد الحرص على ألا يحول الرأي  إلى موقف ، حتى يحفظ الود مع من يخالفونه الرأي ، مهما اشتد الاختلاف

لم يتوان عن واجب ديني ، لكنه ظل ، حتى بعد أدائه  فريضة الحج ، لا يجد حرجا في أن يصافح امرأة تمد يدها لمصافحته ، ولا يعتب على من لا يناديه بلقب الحج ، فهذا اللقب لم يكن عنده للتباهي والتفاخر ، بل هو مجرد واجب استكمل به علاقته بربه ، وهي علاقة تخصه وحده على ما كان يقول

لكنه ، على اعتداله كان ثابتا على رأيه ، والرأي في نظره ، كما قال المتنبي :

الرأي قبل شجاعة الشجعان ، هو أول وهي المحل الثاني

وانتصارا للاعتدال كان قاسيا شديد القسوة مع المتطرفين والمتزمتين ، لا سيما الذين يحولون الرأي إلى موقف .

                           ************

عاش قرنا من الزمن، وعلى رأي الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، من يعش ثمانين حولا يسأم .

ولئن كان الكهول مثل زهير يسأمون ، فالأحياء من حولهم لا يسأمون .

الكهل طفل كبير، ،، في لحظات عمره الأخيرة نتحلق حول فراشه نرقب كل حركة منه ، ها هو يتجاوب ، ها هو يسمع ، ها هو يأخذ المصل إلى جسده كما يأخذ الطفل قنينة الرضاعة … ها هو العمر يمضي ، ونحن كأننا ننتظر منه أن يحبو وأن يدب في أرجاء المنزل .

ها هو يعرف ، يعرف كل شيء ، حين كنا نجمع ما كتبه من شعر ، استعصت علينا قصيدة في شخص إسمه أبو جميل ، استعرضنا كل الذين يحملون هذا الإسم ممن نعرفهم ، وهو مغمض العينين ، فتحهما ونطق ، إنه نطق ، سمعنا كلامه كأنه أول النطق ، كأنه طفل يكاغي ، لكنه كان آخر الكلام ، قال إنها في صديق لي من جبل لبنان ، كنا معا في بيروت .

كان مستعدا لو استعصى علينا سؤال آخر أن يفتح جفنيه ويحرك شفتيه ، لكن أحدهم قال : دعوا الطفل ينام

عاش قرنا ، عاش دهرا

من يعرف ذلك يقل ، لقد شبع من عمره ، لكن الأحياء لا يشبعون من كهولهم ، من أطفالهم الكبار ، يرعونهم  ، يرتبونهم ، يهيئونهم بثيابهم النظيفة للمدرسة أو  للعرس ، أو يحتفلون بهم كأنهم في سفر.

إن قلنا عاش قرنا ، كأننا نبرر للتخفيف من حزننا ، لا . فالحزن يبقى حزنا وأن تفاوتت الأعمار

الحزن يلبس لبوس الميتين ، يجن الحزن أو يتولدن أو يتعقلن تبعا لأعمارهم ، لكنه يبقى حزنا ، حتى التبريك للشهداء حزن ، لكنه حزن مفتعل أو فرح مفتعل ، أو هو مكابرة علىالحزن .

والحزن شعور ، وهو لا يتغير .  لكن طقوسه هي المتغيرة . فالطقوس لباس الأفكار والعقائد ، وإن هي تغيرت فلا الأفكار تتغير ولاالعقائد تتبدل . نحن نتشح بالسواد لنحزن ، في المغرب العربي يلبس المسلمون الأبيض ليحزنوا .

نحن نقيم ذكرى للميت في الثالث والأسبوع والأربعين ، هذا على الأقل  ومسلمون آخرون ينعون موتاهم  ويذيلون النعي بكلمة : لا أسبوع ولا أربعون حسب الشريعة الإسلامية . الشريعة واحدة ، لكن الطقوس هي التي تتغير

نحن نعمر القبور ونجعلها بيوتا للميتين ، نفعل كما فعل الفراعنة قبلنا ، أو أقل مما فعلوا  ، هم أضافوا إلى الطقوس فكانوا يضعون  مع الميتين مؤونة من طعام وشراب .

  عند سوانا يحرقون جسد الميت ، لكن حزنهم على موتاهم لا يقل عمقا عن حزننا  ، فما زال أهل الهند في حداد على زعيمهم غاندي حتى اليوم ، بعد أن أحرقوا جثمانه . والبوذيون كالهنود ، يجمعون حفنة من رماد الموتى ، يضعونها في الأماكن البارزة من بيوتهم ، أو في المعابد . هكذا هم يكرمون الراحلين … إنها الطقوس ، يصنعها البشر ، يصطلحون عليها ، وتغيرها الأجيال ، لكن المشاعر البشرية واحدة .

                           **************

المعمرون يقنعوننا أكثر من سواهم بأن شعورنا حيال الموت شيء وطقوس الموت شيء آخر

المعمرون يقنعوننا بأن الموت حق ، وبأن ما يحل بنا هو سنة الحياة

مع غير المسنين لا نقتنع ، لا نغير شعورنا ، لكننا نبدل طقوسنا ، نكثر  من النحيب ، ويتكاثر فينا الشك ، الشك الفلسفي والوجودي ، يفعل ذلك المؤمنون وغير المؤمنين ، ومعظم الشك أقرب إلى إحساس بالقهر والتمرد على القدر الظالم منه إلى سواه

 نقول   :  إنا لله وإنا إليه راجعون

ونقول :  لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون  ، ونقول العمر وديعة ، ونقول ونقول ، لكننا ،  وإن رجونا آخرة للميتين يستكملون  بها الحياة الدنيا ، نحاول في سرنا ألا نصدق كل الذي نقوله ، نحاول ألا نقتنع بما نقول ، ونحاول أن نصدق المتنبي في قوله :

إذا أنت أمعنت الحياة وصرفها         لأيقنت أن الموت ضرب من القتل

مع المسنين ، حين يموتون ، يصبح الحزن أصعب . لكنه يصير حزنا عاقلا ، فما أصعب أن يحزن العقل . يقنعنا المسنون أن الموت ليس ضربا من القتل ، إنه مشيئة الحياة  

نقرأ للشاعر الذي نفتقده اليوم ، ونقتطف من شعره :

والعمر كالبحر لا تجري مراكبه        إلا لتلقي من فيها بساحله

هذي الحياة وذي الدنيا بديدنها            المرء فيها كضيف دونه السفر

وما المرء في دنياه إلا كزائر             يبيت وعند الصبح جمع الحقائب

كان يقول ذلك في مراثيه ليخفف الحزن عن المحزونين ، لكن هذه المراثي صارت كتابا وتاريخا ، والحزن على التاريخ ، حين ينهار التاريخ ، أصعب من كل حزن ، لأن التاريخ لا يتكرر .

                              **************

عاش قرنا ، إنه إذن تاريخنا ، تاريخنا الحديث ، من الحرب العالمية الأولى إلى الثانية ، إلى الحرب الثالثة الجوالة في كل الكون

وهو ليس تاريخنا في الحروب فحسب ، بل في السلم وفي العلم ، في العمران و الزراعة و القرى ، في المدينة والصناعة وسلم القيم

حين نحاول اليوم أن نقرأ ما كتب ، ترتسم أمامنا لوحة من علاقات ، كان  فيها كلها شاعر المنابر وشاعر المراثي .  من مرجعيون إلى صور إلى المتين ، أوراق مبعثرة وأسماء وحكمة وشعر كثير وأحباء وأصدقاء ، فيهم صورة الوطن الذي رعاه ، ،، فهو ولد قبل أن يولد الوطن ،،،

 وفيها عبد الناصر وفلسطين والقومية العربية ، وفيها حسرة على هذا الذي رعاه ورباه كطفل ، ولم تكد أحلامه الوطنية والقومية تشب بين يديه ، حتى رثاها، وضمن شعره إشارات عن إحباطه لما آلت إليه حالة الوطن والأمة.

نقتطف  من قصائده التي مازالت مخطوطة بعضا من هذا الشعور الوطني والقومي ، بعضا من هذا التاريخ ، كيف بدأ وكيف تغير :  

وتجندت للطائفية زمرة                           لتصيّر التاريخ غير مساره

آن الأوان لنلتقي ونعيده                        وطنا يطيب العيش باستقراره

إنما الخلق إخوة في المبادي                  من أحب النبي  أحب المسيحا                 

أنا مؤمن ألا أرى في أرض لبنا                   ن  الحبيب فيالق الأعداء

أين الملايين ؟هب لو أنها غنم          قد يجزع الذئب من مجموعة الغنم

قم من ثراك صلاح الدين مدرعا          بالحق فالقدس  فيها عابد الصنم

هل الملوك تعاموا عن كرامتهم                   أم أن أعينهم ينتابها العور

أم أن في الشرق عقما بعد من هزموا     جيش الفرنج وفي تاريخهم سير

واليعربيون الأباة بما مضى                       يبكى على أحفادهم ويناح

وإذا دعوتهم لدفع ملمة                             جاؤوك لا رمح ولا رماح

من للحياة وقد أضحى العدو على            أبواب يعرب يزهو في توغله

قال له جورج جرداق الشاعر ، بعد أن استمع إلى قصيدته في استقبال الإمام السيد موسى الصدر في جرجوع في الستينات : انت الشاعر الفطري أي شاعر بالفطرة . لكن الفطرة لم  تحدد موقعه من الشعر وحده ، بل هو موقف من الحياة تجلى في كل شيء ، في الشعر كما في سواه

لقد كان شاعرا ، عبارته محبوكة كأحسن ما حبك الشعراء ، لكنه لم يحترف و لم يسع ليدرج إسمه بين أسماء الشعراء ، وكان من أبناء القرى والفلاحين ، ولم يمتهن الفلاحة بل ظل هاويا  ، وعاش في المدينة ولكن لهجتها قليلا  لكنه لم يتحول إلى واحد من أبناء المدينة ، وكان صيادا ماهرا لكن إسمه لم يكتب على لائحة الصيادين وكان وطنيا وقوميا حتى العظم لكنه لم ينخرط في حركة نضالية ولم يتحزب ، ما فاته واجب انتخابي لكنه لم يسع ليكون قطبا في اصطفافات القرى …هكذا لم يتوله بشيء،  هكذا كالنحلة عاش ، من كل زهرة أخذ الرحيق  ، ولم يقطف ولو زهرة واحدة ، زهوره الوحيدة في حديقته أولاد  علمهم وخرجهم من الجامعات وانتظر أحفاده ليتخرجوا ، أساتذة ومهندسين وأطباء ومحامين  ، تنشق عبيرهم   ثم ودعهم وغادر قرير العين

لم نشعر يوما نحن أولاده وأحفاده أنه يسبقنا في العمر ، عاش معنا ، مع من يصغره بعشرين عاما ومع من يصغره بسبعين ، فكان رفيقا لكل الأعمار، وكلما تقدم به العمر عاما ، شد عمره إلى الوراء ، ليظل صديقا للأولاد وللأحفاد

وهو لم يكن يفتعل ذلك ، لأنه بذكائه وفطنته وتفهمه للتفاوت بين الأجيال كان يعيش همومنا كأنها همومه وينشغل بما يشغلنا كأنه واحد منا . متجددا ظل ومنفتحا وسباقا في ملاحقة الجديد وفي تتبع أخبار البلاد والعباد ، في السياسة وفي العادات وفي الموضة وفي طرق الترفيه ، يتتبع ما يجري ، ويضحك مما يجري ويفرح لفرح الفرحين

لا يتأفف من شيء مستحدث ولا يستهجن ولا يستغرب إن دخل إلى حياتنا عادات تتعارض مع عادات الآباء والأجداد .