23 نوفمبر، 2024

عن صبحية

ظلت في ذاكرة جرجوع وحومين ، وفي ذاكرة المحبين ، إلى أن عاد جثمانها إلينا  البارحة .

ما أقرب اليوم إلى البارحة ، ما أبعد اليوم عن البارحة .

حين أطلت على الدنيا ، أطلت كالصباح . وسرعان ما صارت شمسها  في هاجرة العمر ، وهجرتنا ، رحلت تبحث عن حقيقة ، عن حقائق ، عن أجوبة على أسئلة الوجود الصعبة .

عن حقيقة هذا الكائن المعقد الذي أسميناه العائلة

عن كائن أكثر تعقيدا إسمه التاريخ

هل نحن الذين نصنع العائلة أم هي العائلة التي تصنعنا ؟

هل نحن الذين نصنع التاريخ ، كما أوهمونا ، أم أن التاريخ هوالذي يصنعنا ؟

ثم اكتشفنا ، كما اكتشفت صبحية ، أننا قادرون فحسب على صنع أوهامنا ، وعلى اختراع أحلامنا  ، اما التاريخ ، أما المجتمع ، أما العائلة ، أما التغيير والتقدم والاشتراكية فهي فوق مقدور الأفراد ، فوق مقدورنا ، وليس لنا منها إلا أن نرسمها قصورا في الجنة أو على حدود المخيلة .

وليس لنا ، بعد أن نرسمها ، إلا البحث عمن تشبه أحلامه أحلامنا ، لنصنع معه جماعة ، عصبة ، عائلة ، حزبا ، لنمضي في طريق الأحلام الشائكة ، فالأحلام لا يسمح لها بأن تسلك طريق الحرير  ، والجنة الموعودة ، على رأي الشاعر ،  ليست للقبور البطيئة كالسلحفاة ولا لأصحاب الجبهات السمر والسواعد المفتولة والعقول المستنيرة وعرق الجبين ، بل هي للعدائين و راكبي الدراجات والمتسلقين والزاحفين، هي ليست لماسحي الأحذية بل لمساحي الجوخ .

مع ذلك ، قالت صبحية ، سنبقى نحن ، نحن فقراء هذه الأرض ومناضليها ، نحن الحالمين ، نحن الغارقين حتى آذاننا بالأوهام ، سنبقى نحن ملوك العالم .

 ولن نسمح لليأس بأن ينال منا.

لم يبق من أبناء جيلها أحد إلا وتمنى ، في سره أو علانية ، أن تكون صبحية شريكة حياة .

جمال وذكاء وإقدام ومبادرة . و جسد ، على قول الشاعر العربي ، كغصن البان ، ووجه باسم مشع كالصباح ، وجرأة في  اقتحام المألوف وكسر التقاليد وصلت حد المغامرة .

  كانت ، على ما يذكر رفاق لها في الجامعة وفي النضال ، واحدة من اثنتين تحملان على الأكتاف في قيادة التظاهرات ، من أجل الخبز والعلم والحرية. من أجل لبنان وفلسطين ، من أجل الأمة العربية وفي سبيل الأممية الاشتراكية .

وربما كانت الأولى في جرجوع ، التي اختارت درب الزواج المدني ، وقد رمى بها حظها المنكود في حمأة معارضة شرسة ، فخرجت من معركتها مع العادات والتقاليد مهشمة مقطعة الأوصال والمعنويات ، وانتصر شوك  الأعراف على ورد أحلامها  ، وخرجت من مغامرتها خائبة ، فلا قيم رسخت  ولا الزوج حمى  ولا احتضان بعض الأهل كفى ، وانطوت صفحة المغامرة على يأس وخيبة وحزن سحيق وعلى ظلم من ذوي القربى ، وقعه ، على قول طرفة، كوقع الحسام المهند .

  مع ذلك ، قالت صبحية ، سنبقى نحن ، نحن فقراء هذه الأرض ومناضليها ، نحن الحالمين ، نحن الغارقين حتى آذاننا بالأوهام ، سنبقى نحن ملوك العالم .

 ولن نسمح لليأس بأن ينال منا.

سأبقى ألأميرة ، قالت ، بنت الأميرة ، محاطة بالحسب والنسب ، معتزة بالانتماء إلىأصول شامخة من العمومة والخؤولة ، وإلى أخت وإخوة وخالة ، كانوا مفخرة الجامعات والعلم والعلماء ، وكانت هي أيضا ، الدكتورة صبحية ، مفخرتهم ومفخرتنا .

لكنها ، لم تذق طعم الفوز بالتحدي ، لأنها بموتها فحسب  أكدت أن هذا الكائن  المعقد الذي أسميناه العائلة ، هوالذي يصنعنا بمقدار ما نحن نصنعه ، هو الذي يرعانا ، ففي برلين  ، على سرير المرض والنزاع مع الموت ، جاء إخوتها من أصقاع الأرض ليرعوا لحظات عمرها الأخيرة ، وليعودوا بجثمانها إلى حيث كانت وكانوا .

هو الذي يرعانا ، وهوالذي يحاصرنا ، فغدا يصير زوجها وشابان من ذريتها جزءا من ذاكرة العائلة والوطن المثقلتان بالهموم .

تبا لهذا الوطن الذي يرمي بأبنائه الأحياء في بطاح الأرض ولا يوفر لهم إلا القبر وناصية صماء هي ذاكرة الأرض .

اللغز الذي أرقها أكثرمن سواه هو لغز الوطن والتاريخ .

من ذا الذي يصنع الوطن والتاريخ ؟ هل نحن الكادحين بأجسادنا وعقولنا  ، نحن الحالمين الواهمين ؟

هل نيأس كما يقول شاعر : آه لو نتبادل الأوطان كالراقصات في المقهى

وصبحية حين هجرت الوطن لم تهجره لتبحث عن وطن بديل ، بل هي راحت تستعين بأصقاع الأرض لتبني وطنا نخره الفاسدون المفسدون بالطائفية والحروب الأهلية والمتاجرة بالبشر والثروات وكرامة البلاد .

لم تهجر من يأسها ، بل من رحابة آمالها . راحت لترسخ آمالها بصنع تاريخ جديد للوطن

راحت لتعاين عن قرب عبقريا زرع لنا البحار بطيخا وأوهمنا ، أو أقنعنا بقدرتنا على استباق الزمن والوصول إلى جنة في الأرض تشبه جنة الأديان في السماء.

راحت بالضبط تتعرف عن قرب ، على فيلسوف وعالم كان باعتراف البشرية الأكثر تأثيرا خلال القرنين الماضيين ، على تطور الصراعات الإيديولوجية والسياسية على صعيد الكرة الأرضية ، وكان على زعم مريديه ، واضع الأسس الجديدة لعلم التاريخ ، أي الأسس الجديدة التي إذا قبضنا على سرها يصبح بمقدورنا إما أن نصنع التاريخ أو أن نشارك في صنعه .

راحت صبحية إذن تبحث كيف تصنع مع المكافحين من أمثالها تاريخا جديدا للوطن ، وفي سبيل ذلك راحت تتابع دراساتها الجامعية لنيل الدكتوراه في الفلسفة من خلال تخصصها في دراسة  كارل ماركس، مالىء دنيا المثقفين وشاغل كل الناس حتى اليوم .

قرن من الزمن بكامله والعبقري الفذ هذا يحشو عقول المناضلين بالأحلام الجميلة. ولم تسلم صبحية ، ولا نحن أيضا ، من غفوة هذه الأحلام ، وفوجئت أكثر من سواها بالانهيار الكبير الذي اصابتها شظاياه . أصابتها وهي مستغرقة في أحلامها الجميلة وبناء مستقبل مشرق للشعوب …

وطننا الأم ينهار إمام أنظارنا ، والوطن الذي التجأت إليه ، لتستقوي به وبمفكريه هو الآخر انهار ، ولم يبق من أحلامها  شيء تستظل به أو تحتمي .

كانت كتلة من حلم ، فلما انهارالحلم  انهارت هي من داخلها ، وقتلها الإحباط واليأس  قبل أن يقتلها المرض .

    مع ذلك ، نقول باسمك بالنيابة عنك  ، سنبقى نحن ، نحن فقراء هذه الأرض ومناضليها ، نحن الحالمين ، الغارقين حتى آذاننا بالأحلام ، سنبقى نحن ملوك العالم.

سنتابع عنادك وإصرارك على اقتحام الطريق الصعب ، طريق بناء الوطن ، وتحريره من الفاسدين والمفسدين ، والسرقة والمارقين ، و سماسرة الطائفية والطائفيين ، والجهلة والمرتزقة والمتزلفين .

وسيبقى عطرك الطيب فواحا على ربوع جرجوع وحومين  وفي قلوب كل المحبين

                                                      ‏الخميس‏، 09‏ تشرين الاول‏، 2003