ظلت في ذاكرة جرجوع وحومين ، وفي ذاكرة المحبين ، إلى أن عاد جثمانها إلينا البارحة .
ما أقرب اليوم إلى البارحة ، ما أبعد اليوم عن البارحة .
حين أطلت على الدنيا ، أطلت كالصباح . وسرعان ما صارت شمسها في هاجرة العمر ، وهجرتنا ، رحلت تبحث عن حقيقة ، عن حقائق ، عن أجوبة على أسئلة الوجود الصعبة .
عن حقيقة هذا الكائن المعقد الذي أسميناه العائلة
عن كائن أكثر تعقيدا إسمه التاريخ
هل نحن الذين نصنع العائلة أم هي العائلة التي تصنعنا ؟
هل نحن الذين نصنع التاريخ ، كما أوهمونا ، أم أن التاريخ هوالذي يصنعنا ؟
ثم اكتشفنا ، كما اكتشفت صبحية ، أننا قادرون فحسب على صنع أوهامنا ، وعلى اختراع أحلامنا ، اما التاريخ ، أما المجتمع ، أما العائلة ، أما التغيير والتقدم والاشتراكية فهي فوق مقدور الأفراد ، فوق مقدورنا ، وليس لنا منها إلا أن نرسمها قصورا في الجنة أو على حدود المخيلة .
وليس لنا ، بعد أن نرسمها ، إلا البحث عمن تشبه أحلامه أحلامنا ، لنصنع معه جماعة ، عصبة ، عائلة ، حزبا ، لنمضي في طريق الأحلام الشائكة ، فالأحلام لا يسمح لها بأن تسلك طريق الحرير ، والجنة الموعودة ، على رأي الشاعر ، ليست للقبور البطيئة كالسلحفاة ولا لأصحاب الجبهات السمر والسواعد المفتولة والعقول المستنيرة وعرق الجبين ، بل هي للعدائين و راكبي الدراجات والمتسلقين والزاحفين، هي ليست لماسحي الأحذية بل لمساحي الجوخ .
مع ذلك ، قالت صبحية ، سنبقى نحن ، نحن فقراء هذه الأرض ومناضليها ، نحن الحالمين ، نحن الغارقين حتى آذاننا بالأوهام ، سنبقى نحن ملوك العالم .
ولن نسمح لليأس بأن ينال منا.
لم يبق من أبناء جيلها أحد إلا وتمنى ، في سره أو علانية ، أن تكون صبحية شريكة حياة .
جمال وذكاء وإقدام ومبادرة . و جسد ، على قول الشاعر العربي ، كغصن البان ، ووجه باسم مشع كالصباح ، وجرأة في اقتحام المألوف وكسر التقاليد وصلت حد المغامرة .
كانت ، على ما يذكر رفاق لها في الجامعة وفي النضال ، واحدة من اثنتين تحملان على الأكتاف في قيادة التظاهرات ، من أجل الخبز والعلم والحرية. من أجل لبنان وفلسطين ، من أجل الأمة العربية وفي سبيل الأممية الاشتراكية .
وربما كانت الأولى في جرجوع ، التي اختارت درب الزواج المدني ، وقد رمى بها حظها المنكود في حمأة معارضة شرسة ، فخرجت من معركتها مع العادات والتقاليد مهشمة مقطعة الأوصال والمعنويات ، وانتصر شوك الأعراف على ورد أحلامها ، وخرجت من مغامرتها خائبة ، فلا قيم رسخت ولا الزوج حمى ولا احتضان بعض الأهل كفى ، وانطوت صفحة المغامرة على يأس وخيبة وحزن سحيق وعلى ظلم من ذوي القربى ، وقعه ، على قول طرفة، كوقع الحسام المهند .
مع ذلك ، قالت صبحية ، سنبقى نحن ، نحن فقراء هذه الأرض ومناضليها ، نحن الحالمين ، نحن الغارقين حتى آذاننا بالأوهام ، سنبقى نحن ملوك العالم .
ولن نسمح لليأس بأن ينال منا.
سأبقى ألأميرة ، قالت ، بنت الأميرة ، محاطة بالحسب والنسب ، معتزة بالانتماء إلىأصول شامخة من العمومة والخؤولة ، وإلى أخت وإخوة وخالة ، كانوا مفخرة الجامعات والعلم والعلماء ، وكانت هي أيضا ، الدكتورة صبحية ، مفخرتهم ومفخرتنا .
لكنها ، لم تذق طعم الفوز بالتحدي ، لأنها بموتها فحسب أكدت أن هذا الكائن المعقد الذي أسميناه العائلة ، هوالذي يصنعنا بمقدار ما نحن نصنعه ، هو الذي يرعانا ، ففي برلين ، على سرير المرض والنزاع مع الموت ، جاء إخوتها من أصقاع الأرض ليرعوا لحظات عمرها الأخيرة ، وليعودوا بجثمانها إلى حيث كانت وكانوا .
هو الذي يرعانا ، وهوالذي يحاصرنا ، فغدا يصير زوجها وشابان من ذريتها جزءا من ذاكرة العائلة والوطن المثقلتان بالهموم .
تبا لهذا الوطن الذي يرمي بأبنائه الأحياء في بطاح الأرض ولا يوفر لهم إلا القبر وناصية صماء هي ذاكرة الأرض .
اللغز الذي أرقها أكثرمن سواه هو لغز الوطن والتاريخ .
من ذا الذي يصنع الوطن والتاريخ ؟ هل نحن الكادحين بأجسادنا وعقولنا ، نحن الحالمين الواهمين ؟
هل نيأس كما يقول شاعر : آه لو نتبادل الأوطان كالراقصات في المقهى
وصبحية حين هجرت الوطن لم تهجره لتبحث عن وطن بديل ، بل هي راحت تستعين بأصقاع الأرض لتبني وطنا نخره الفاسدون المفسدون بالطائفية والحروب الأهلية والمتاجرة بالبشر والثروات وكرامة البلاد .
لم تهجر من يأسها ، بل من رحابة آمالها . راحت لترسخ آمالها بصنع تاريخ جديد للوطن
راحت لتعاين عن قرب عبقريا زرع لنا البحار بطيخا وأوهمنا ، أو أقنعنا بقدرتنا على استباق الزمن والوصول إلى جنة في الأرض تشبه جنة الأديان في السماء.
راحت بالضبط تتعرف عن قرب ، على فيلسوف وعالم كان باعتراف البشرية الأكثر تأثيرا خلال القرنين الماضيين ، على تطور الصراعات الإيديولوجية والسياسية على صعيد الكرة الأرضية ، وكان على زعم مريديه ، واضع الأسس الجديدة لعلم التاريخ ، أي الأسس الجديدة التي إذا قبضنا على سرها يصبح بمقدورنا إما أن نصنع التاريخ أو أن نشارك في صنعه .
راحت صبحية إذن تبحث كيف تصنع مع المكافحين من أمثالها تاريخا جديدا للوطن ، وفي سبيل ذلك راحت تتابع دراساتها الجامعية لنيل الدكتوراه في الفلسفة من خلال تخصصها في دراسة كارل ماركس، مالىء دنيا المثقفين وشاغل كل الناس حتى اليوم .
قرن من الزمن بكامله والعبقري الفذ هذا يحشو عقول المناضلين بالأحلام الجميلة. ولم تسلم صبحية ، ولا نحن أيضا ، من غفوة هذه الأحلام ، وفوجئت أكثر من سواها بالانهيار الكبير الذي اصابتها شظاياه . أصابتها وهي مستغرقة في أحلامها الجميلة وبناء مستقبل مشرق للشعوب …
وطننا الأم ينهار إمام أنظارنا ، والوطن الذي التجأت إليه ، لتستقوي به وبمفكريه هو الآخر انهار ، ولم يبق من أحلامها شيء تستظل به أو تحتمي .
كانت كتلة من حلم ، فلما انهارالحلم انهارت هي من داخلها ، وقتلها الإحباط واليأس قبل أن يقتلها المرض .
مع ذلك ، نقول باسمك بالنيابة عنك ، سنبقى نحن ، نحن فقراء هذه الأرض ومناضليها ، نحن الحالمين ، الغارقين حتى آذاننا بالأحلام ، سنبقى نحن ملوك العالم.
سنتابع عنادك وإصرارك على اقتحام الطريق الصعب ، طريق بناء الوطن ، وتحريره من الفاسدين والمفسدين ، والسرقة والمارقين ، و سماسرة الطائفية والطائفيين ، والجهلة والمرتزقة والمتزلفين .
وسيبقى عطرك الطيب فواحا على ربوع جرجوع وحومين وفي قلوب كل المحبين
الخميس، 09 تشرين الاول، 2003
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
منى
في تكريم فاطمة مشورب(فاطمة عباس)