25 أبريل، 2024

في تكريم المهندس خالد مصطفى

     كلمة ألقيت باسم الحزب الشيوعي اللبناني  في ذكرى أسبوع الفقيد

أعتذر اعتذارا صادقا من الصديق الرفيق أبي خالد ، مصطفى ، لأنني  ترددت كثيرا في أن أتحدث ممثلا لجهة سياسية أو حزب في تكريم فقيدنا خالد

أولا لأنه لا يحق لرجل مثلي ، ليس في عداد الهيئات التنفيذية للحزب , أن يكون ناطقا باسمه  ، حتى لو كان ما سينطق به يثلج صدور كل الحزبيين . هذا هو منطق الأنظمة الحزبية ، وبئس هذا المنطق .

ثانيا لأن مناسبة ذكرى الأسبوع قد تحولت على أيدي الأحزاب ، كل الأحزاب ، إلى مصادرة لجمهور المعزين ، مصادرة هي أقرب إلى عملية خطف من غير سلاح حربي ،  الجمهور فيها هو الرهينة , والفدية استماع إلزامي إلى خطبة على طريقة شيشرون   , أو عظة على طريقة رجال الدين .

إن عدني أحدكم في هذا المقام فأنا مدين له باعتذار .

أنا حزين مثلكم  أيها السادة على من غادرنا وهو في عز العمر . وحزننا من مشاعر البشر ، كل البشر ، حين ينقطعون عن أهلهم وعائلاتهم  , بل حتى عن واحد من أشيائهم .

فكم غمرتنا الأحزان في هذه الحرب ، لا على أعزاء فقدناهم فحسب ، بل حتى على بيوت غادرناها على عجل أيام التهجير ، أوعلى كرسي عتيق حمل ثقل أجسادنا ، أو شجرة حمتنا في ظلها أو أشبعتنا من ثمرها ، أو على زاوية في شارع وصخرة في برية كان لنا فيهما ذكرى , وكنا على الدوام نحمل معنا مفاتيح الذكرى  مثلما حمل فلسطينيو النكبة مفاتيح بيوتهم ، لأن المفاتيح هذه توهمنا باستعادة ما فقدناه . مفاتيح الذكرى هي وصلنا  مع من نفتقدهم ، تبقى في قلوبنا ولا تصدأ .

كيف لا وخالد لا يزال بيننا . أسبوع   واحد  لايكفي ليغيب  ، وهو لن يغيب ، فبعض الذي نختزنه في مخيلتنا يبقى حيا في الأجيال آلاف السنين .

كيف لا وكلما مر أمام ناظرينا طفله أو في مخيلتنا زوجته ورفيقة دربه من أول العمر

أو كلما قطعنا جسرا ,  أو مررنا تحت قنطرة ، أو شاهدنا عمارة وذكرنا قصرا وهندسة ومهندسين

أو كلما طوى أحدهم عمر الثلاثين أو أطل عليه

… كلما مر شيء من ذلك نطرد أحزاننا ، نستدعي أوهامنا  ولا نصدق الفواجع   هكذا أتخيلك يا مصطفى ، كلما صحوت من غفوة ، إن أمكن لك  أن تغفو ، تفرك عينيك  ومخيلتك  لتمحو عنهما غبار الخبر ، لعل الذي جاء بالخبر ينفيه أو يكذبه أو يستعيده

أيها الرفيق العزيز مصطفى

لست  وحدك في مقام الحزن ، نحن كلنا جيل الأربعينات  من أمثالك ، حين خرجنا  من أرحام القرى وقيم الفلاحين  ، حملنا على أكتافنا  أهلنا وقرانا وأحلامنا، حملناهم لنحميهم  ، ليبقوا لنا

الميسورون منا استبدلوا وطنهم ، وضعوا أطفالهم  على ظهور المال والثروات ومع ذلك أدرك بعضه الموت ، حيث لم ينفعهم لا مال ولا بنون

العصاميون من أمثالك ، المناضلون من أمثالك  ، حملوا الوطن كله على ظهورهم، فلم تحدودب ظهورهم  ولا هم  انحنوا

وها نحن وكل المحبين  الذين توافدوا  ليحتضنوا مصابك ، ويشاركوك عزاءك, نشد على يديك ، فالمصاب ليس مصابك وحدك

أيها السادة

غادرنا خالد في الشهر الذي يحتفل فيه الحزب بعيده الثامن والسبعين . غادرنا وفي قلبه غصة كالتي في قلوبنا ، لآن أجيالا ثلاثة  أو أكثر  مضت  دون أن تجد أحلامها وأحلامنا الجميلة  مكانا لها ، ولا نضالاتنا من أجل العلم والخبز والحرية عرفت سبيلها إلى التحقق

كان العلم حكرا على السادة والأثرياء  , وكسرنا الطوق مرتين  : مرة حين فتحنا الجامعة الوطنية بكفاح جيل الاستقلال من رواد النضال الوطني والقومي , ومرة حين فتحت المنظومة الاشتراكية أبواب جامعاتها   لأبناء الفقراء من بلادنا وسائر بلاد المعمورة ، وكان من بينهم خالد

وهل هو من باب الصدفة أن ينهار الاتحاد السوفياتي  فيقفل باب العلم المجاني أمام شبابنا ، ثم تبدأ بالانهيار بعده  مؤسسات التعليم في بلادنا ، حيث نمت كالفطر  على ضفاف الجامعة اللبنانية جامعات ، وبدل المعايير الأكاديمية محسوبيات ، وبدل الكفاءات  تجهيل ومحاصصات …وتلك أقصر طرق التدمير

أما خبز أمهاتنا الذي كنا نشم فيه تعبهن  أمام الصاج والتنور  فقد ذهب إلى المصانع وفاحت منه رائحة العمل المأجور , العمل المأجور الذي لم يتسع لجميع   شبابنا  فأرغمهم على الهجرة ، مثلما فعل خالد ، بحثا عن اللقمة وعن عيش كريم  خارج الوطن

والحرية غدت كالزجل الطائفي . فهي مباحة في القضايا الصغرى للشتيمة والنميمة والأمور الشخصية ، وهي محرمة في القضايا الكبرى  تحت  طائلة الاتهام بالخيانة القومية والوطنية والعمالة للامبريالية والصهيونية والاستعمار

… كلا لسنا بنادمين ، وسنظل نناضل في صفوف شعبنا  من أجل العلم والخبز والحرية

لكننا سنعيد النظر بكل شيئ ,  إلا بأحلامنا الجميلة في بناء وطن حر       وشعب سعيد

… كلا    لم نخطىء حين كنا نذيل صور الشهداء بعبارة : سقط دفاعا عن وحدة لبنان و عروبته وتطوره الديمقراطي  . فليس أفظع مما يهدد اليوم وحدة الشعب اللبناني  الموزعة ولاءاته بين القراني والخلايا  والزواريب والتجمعات المفتعلة والمفبركة , ولا حال أبشع مما آلت  إليه العروبة اللبنانية  ، العروبة الموزعة بين جاحدين ومستزلمين ، وليس أشد قهرا للديمقراطية وتسفيها لها من سلطة نكاد لا نعرف فيها المعارض من الموالي ، ومعارضة نكاد لا نميز فيها بدقة بين مناضلين ومستوزرين

كلا    لم نخطىء حين أطلقنا المقاومة الوطنية في ليل العرب الدامس ، وكان الرفيق مصطفى وذووه ورفاقه من روادها ، ولا نحن ندمنا  حين استبعدنا في مراحلها اللاحقة ، فنحن نوجه في كل حين  التحية لكل من رفد المقاومة وآزرها وتابعها  حتى التحرير المظفر ، بل إننا نجد أنفسنا اليوم بحاجة أشد إلحاحا إلى مقاومة أكثر شمولا وأمتن وحدة , في مواجهة غول العولمة والصهينة ووحش رأس المال العالمي , الذي ينتهك سيادات الأوطان من غيرما  احتلال

نحن بحاجة اليوم ، والعرب يترحمون على الاتحاد السوفياتي ويغتبطون لسقوط الشيوعية ،  إلى مقاومة تحرر العرب من حكامهم المتسلطين على  الشعوب حينا باسم الامبريالية والعولمة  و بالنيابة عنهما في أغلب الأحيان

 …كلا لم نخطىء في كل ذلك ، لكننا أخطأنا ، نحن الشيوعيين ، حين توهمنا مع الكثيرين من ابناء شعبنا ، بأن هذا الوطن يشكو من سوء توزيع للسلطة بين المسلمين والمسيحيين ، ورحنا نبحث عن توزيع  زعمنا أنه أكثر عدالة ، ورفعنا مع من رفع شعار المشاركة ، أي مشاركة المسلمين في السلطة مناصفة مع المسيحيين , وها نحن نكتشف متأخرين أن علة لبنان ليست في إسم هذا  التوزيع الذي أسميناه توزيعا طائفيا, بل هي في محتواه

جهود كثيرة بذلناها لتغييرالإسم ، حتى غدونا في نظر المسلمين حزبا مسيحيا لكثرة ما دافعنا عن العلمنة ،  وفي نظر المسيحيين حزبا أسلاميا لكثرة ما دافعنا عن إلغاء الطائفية السياسية

الطائفية في لبنان سلاح يستخدمه أهل السلطة ، أهل السلطة من الطائفيين والعلمانين على حد سواء , يستخدمونه ضد الطوائف وضد علمنة البلاد بالسوية ذاتها

أهل السلطة يستخدمون السلاح الطائفي دفاعا عن توزيع الحصص فيما بينهم , وهو توزيع بين أهل السلطة لا بين الطوائف  . إنه توزيع المحاصصة . علة لبنان ليست في النظام الطائفي بل في نظام المحاصصة

نظام المحاصصة كان فيما مضى بين عائلات لبنانية ورثت نفوذها مما قبل الاستقلال  , وأسميناها  الإقطاع السياسيي , ثم صارت المحاصصة موزعة بين المال المعولم ومراكز القوى المستجدة على أنقاض الحرب  , أما المحرومون من الحصص فهم يعترضون من داخل السلطة ومن خارجها بحثا عن حق سليب وحصة مغتصبة

المحاصصون  لا يتحاصصون بقوة الطائفية وحدها ، فهي آخر أسلحتهم  بل أضعفها ، وقد تستدعي الظروف منهم الترفع عن الطائفية والظهور في حلة وطنية

المحاصصة تحصنت واحتمت بقوة القانون  ، وهي التي سخرت السلطة التشريعية لسن قوانين الخلوي وسوليدار والأملاك البحرية وتجارة البترول وسيارات المازوت ووسائل الإعلام المرئي وقوانين  الضرائب والموازنات  والكهرباء والماء … وكل شيء … كل شيء

المحاصصون  يتحاصصون بقوة رأس المال المعولم  الذي يغرينا ببيع القطاع العام كخطوة على طريق بيع الدولة كلها بالمزاد العلني وبيع الوطن إلى الشركات المساهمة

والمحاصصون  تحاصصوا بقوة المخابرات المحلية  ذات يوم  , ويستقوون اليوم بالجيش السوري

المحاصصون سياسيون تتبدل أسماؤهم  و ملامحهم واحدة

لامكان في دولة المحاصصة  ولا في عقل المحاصصين  للطوائف كجماعات  ولا لأهل الطوائف من الأفراد  . فالجماعة الطائفية مجرد سسلاح يؤجج عند اللزوم , أما الأفراد الفائضون عن الحصص فيبحثون خارج أوطانهم عن سبل معاشهم

 والحظ لا يستجيب دوما للجميع :  منهم من يعود من الاغتراب ليجد حصته في السلطة أو ليغتصبها ، ومنهم من يشبه  خالدا  ، يسافر ويموت خارج الوطن ، يموت بحثا   عن وطن

سنبقى معا  لتزول دولة المحاصصة ونبني دولة لبنان الواحد  ، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص

لنبني وطنا نعيش فيه ونموت فيه