10 نيسان 2020
ما أثارته المقالة الأولى من نقاش يشكل حافزاً على إعادة فتحه من جديد، أملاً باستكمال النقد بشيء من النقد الذاتي. لقد صار غياب التفاعل بين المختلفين جزءاً من التقاليد السياسية اللبنانية، بعد أن بات كل فريق يحاور نفسه ويناقش مع أتباعه. “حزب الله” ومعه كل الممانعة لم يصغ لأي كلام قيل على الجانب الآخر، وهذا ما حصل مع فريق “14 آذار”. هذا بالجملة، وبالمفرق يعترف الجميع بالأزمة، ويبرئ كل منهم نفسه من المسؤولية ويرميها على سواه.
قبل اغتيال الحريري كان النقاش محظوراً. نظام الوصاية كان يملك مع أجهزته وكالة حصرية بحسم القضايا والمشاكل من غير نقاش. بعده ساد ما يمكن أن نطلق عليه حوار الطرشان، كل فريق يزعم أنه يملك الحقيقة كاملة غير منقوصة، وفي مثل هذه الحالة تبقى البلاد مهيأة للانفجار أو متخوفة من حصوله. دوّامة لن تنتهي إذا ما استمر كل منهم يقيم سوراً خلف أفكاره ولا يقول مع الإمام الشافعي “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي سواي خطأ يحتمل الصواب”.
المقالة الأولى لم ترفع عن “حزب الله” المسؤولية عن “أخطاء فادحة ارتكبها ويرتكبها بحق شيعته وبحق اللبنانيين وبحق الدولة”. هذا نقد قاسٍ وليس دفاعاً ولا مهادنة. حتى لا يبقى حوار طرشان في الطاحون، على كل منا أن يعترف بأخطائه. “حزب الله مسؤول”. لا شك في ذلك، لكن ألا يتحمل الآخرون جزءاً من المسؤولية، وإن بتفاوت؟ الجواب رهن بتشخيص العلة.
من مرحلة الوصاية وما بعدها التزمنا معياراً وحيداً لتشخيص الأزمة، هو الموقف من الدولة. “حزب الله” يلعب دوراً سلبياً ربما لأنه لا يريد بناء الدولة ولا يسمح بإعادة بنائها، لكن مَن من الآخرين الذين توالوا على الحكم أو دعموه من حلفائه أو من خصومه يعمل على بنائها؟
النقاش والحوار ضروريان لا مع “حزب الله” وحده، بل مع كل الذين أشارت إليهم المقالة أو أومأت، ولا سيما من استمر خطابهم السياسي على الوتيرة ذاتها من دون تعديل على امتداد خمسة عشر عاماً، أحزاباً أو شخصيات انخرطت إلى “جانب حزب الله” أو في مواجهته. هذه دعوة للحوار لا للمحاكمة.
فرقاء الصراع لا يتناقشون، بل يناورون. فن المناورة لن ينقذ الوطن. وحدها المصارحة هي التي تبنيه. كتبت في مثل هذا التاريخ منذ ثماني سنوات في جريدة ليبانون نيوز الإلكترونية، برئاسة تحرير الصديق بشارة شربل، ما يبدو صالحاً حتى الساعة، على هذا اللينك: https://www.facebook.com/mouhamad.a.moukaled/posts/10150638107161911.
كتبت عن سبابة التهديد والوعيد، التي كرر سياسيو لبنان رفعها، الواحد في وجه الآخر، عن سبابتين رفعهما النائبان محمد رعد ووليد جنبلاط الأول كاد يأخذنا إلى الطرب حين قال: “إنما للصبر حدود” تهديداً لمن تسول له نفسه التطاول على المقاومة؛ وسبابة الثاني ذكرتنا بالنسبية التي طرحها الزعيم الوطني الكبير كمال جنبلاط في برنامجه المرحلي لإصلاح النظام السياسي، والتي رفضها إبنه ثم هدد بالانسحاب من الحكومة، إن ساورتها نفسها إقرار النسبية في الانتخابات. لكنه عاد وأجاز لها بعد سنوات إقرار النسبية. النقد لا يلغي انحيازي وإعجابي بوليد جنبلاط وبثقافته وصدقه وحرصه الوطني.
تهديدان صريحان. لكن ضد من؟ إنهما ضد الشعب اللبناني وضد الدولة وضد الوطن. كل منهما يدافع عن قضية حزب أو عن قضية طائفة، حتى لو تعارضت القضيتان مع مصالح الوطن العليا. فالحزب في نظر أحدهما، والطائفة في نظر الآخر، هما الوطن وهما المعيار، وفيهما تتجسد السيادة.
قبل الاحتلال الاسرائيلي وخلاله وبعده كانت هناك مشكلة لبنانية، مشكلة راسخة في بنية النظام، بمعزل عن الخطر الصهيوني. مشكلة زادت بوجود جيش الاحتلال ولم تضعف في غيابه.
وإن كان لكمال جنبلاط شرف الريادة في الكلام عن الديموقراطية في مواجهة الاستبداد العربي والشمولية الستالينية، فذلك لا يعني أن سوريا هي المسؤولة عن مصائب اللبنانيين، بل هو العطل الداخلي الذي عاث فسادا في النظام قبل الدخول السوري وتفاقم خلال وجوده و لم يتضاءل بعد انسحابه.
هذا العطل موجود بمعزل عن خطر العنصرية الصهيونية، وبمعزل عن خطر السجن العربي الكبير والاستبداد العربي عموماً والبعثي على وجه الخصوص.
لغة السبابة، فضلا عن كونها تلغي الديموقراطية، فهي تلغي البحث عن العطل الداخلي، فتصور للرأي العام أنه عطل ناجم عن الخطر الخارجي الصديق أو العدو. التهديد هو أقصر الطرق لشحن الحزب والطائفة، باسم المقاومة أو باسم مواجهة السجن الكبير، حول صندوق اقتراع يحفظ حق رافعي السبابات في ممارسة الاستبداد. قبل ثماني سنوات على اندلاع الثورة قلت إن ربيعاً قادماً سيطيح بهذا الاستبداد.
ألا يستدعي الكلام عن أخطاء “حزب الله” كلاماً مشابهاً عن أخطاء “القوات اللبنانية” و”تيار المستقبل”؟ من المسؤول عن حرمان المجلس النيابي من قامة رجل دولة كفؤاد السنيورة أو سياسي شجاع كفارس سعيد؟ هل هو “حزب الله” أم “القوات” أم “تيار المستقبل” أم هو القانون الذي توافق الجميع عليه؟ ألم يراكم سعد الحريري أخطاء قاتلة؟ هل يكفي الاعتراف اللفظي بخطيئة الاتفاق الرباعي وبأن قيادة “14 آذار” فضلت الأحزاب على الجمهور، وفضلت القيادات الحزبية على الشخصيات المستقلة؟ ما هي طبيعة الخلاف بين “القوات” و”التيار الوطني الحر”، هل هي تنافس على بناء الدولة أم على تمثيل المسيحيين؟ والسؤال ذاته عن خلاف “القوات” مع “تيار المستقبل”. هل “حزب الله” هو الحزب الطائفي الوحيد في لبنان؟ ألا يتطلب الحل خروج أبطال الحرب الأهلية من خلف ستار قانون العفو ليعترف كل منهم أمام اللبنانيين عن حصته بتدمير الدولة ومؤسساتها، الثورة الفلسطينية ومؤيديها، النظام السوري وأتباعه الميامين، اليسار اللبناني الذي واجه الجيش السوري ثم صار جزءاً من نظام الممانعة؟ نعم، ليس دفاعاً عن “حزب الله”. هي دعوة موجهة للجميع لكي يغادروا منصة النقد واتهام الآخر ويباشروا بجرأة عملية النقد الذاتي. دعوة الثورة لهم جميعاً بأن يتوقفوا عن إصدار الأحكام بحق بعضهم، وبالذهاب، كلن يعني كلن، إلى المحاكمة أمام القضاء، وهناك سيسألون عمن دمر القضاء، هل هو “حزب الله” أم نظام المافيا الميليشياوي بالتكافل والتضامن؟
إنه وقت الانتقال، انتقال الجميع بمن فيهم “حزب الله”، من ثنائية الانقسام الآذاري بين “8 و14” إلى رحاب الثورة اللبنانية. “كورونا” إلى زوال ونظام المافيا الميليشياوي إلى زوال، والثورة باقية.
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله