22 كانون الثاني 2022
إتخذت الحروب في مرحلة الحضارة الإقطاعية شكل الغزو، لكنه غزو مقيم، خلافاً للغزو القديم، أيام القبائل والعشائر، الذي كان يغير وينهب وينسحب. الحضارات تتمدد وتتسع ضمن مدى محدود في الزمان والمكان. تلك كانت حالة الحضارات القديمة الرومانية واليونانية والفارسية والعربية وسواها. أما الحضارة الرأسمالية فقد تميزت عن سابقاتها بكونها حضارة كونية، من أهم إنجازاتها وصل أجزاء العالم كله بعضها بالبعض الآخر عبر شبكة من وسائل الاتصال والتواصل البري والبحري والرقمي، لكي يتيسر لرؤوس الأموال الاستثمار في كل قطاعات الانتاج المادي والثقافي والفني، في الصناعة والتجارة والزراعة. لذلك بدا الانتقال من نمط إنتاج إقطاعي إلى نمط إنتاج رأسمالي متلازماً مع حاجة الرأسمالية إلى أطر سياسية جديدة، الوطن والدولة الحديثة بدل الولاية أو المقاطعة والمملكة أو السلطنة.
الوطن من اختراعات الرأسمالية، والدولة أهم اختراع بشري على ما يقول عبد الإله بلقزيز. الثورة اللبنانية تواجه أعداء الوطن وأعداء الدولة ممثلين بعقل ميليشيوي يدير الدولة ويهيمن على مقدراتها بالتشبيح المسلح أو غير المسلح.
القول بتوحش الحضارة الرأسمالية خطأ شائع من صنع المرحلة السوفياتية. أما ماركس فقد وصف الرأسمالية بأنها قادرة على إدخال أكثر الشعوب بربرية إلى مرحلة الحضارة.
خاضت الرأسمالية،( بناء على ترسيمة إريك هوبزباوم. إقرأ مقالة الاستعمار خطأ شائع) ثلاثة أنواع من الحروب، صراعات على السيطرة بين القوميات الأوروبية، أو تنافساً على الاستثمار الرأسمالي خارج القارة، أو استباق الثورات وحركات التمرد الداخلية بحرب خارج الحدود القومية. ولم توقف أوروبا الرأسمالية مسيرة هذا التاريخ الدموي إلا بعد حربين عالميتين مدمرتين ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الضحايا، وآخر كوارثهما هيروشيما وناكازاكي.
ربما كانت النتائج الكارثية لتينك الحربين هي التي أقنعت الدول الرأسمالية المتحاربة بالتوقف عن توسل الحرب سبيلاً لحل قضايا الخلاف والتنافس في ما بينها. غير أن أهم ما في نتائجهما هو إعلان نهاية مرحلة الاستعمار المباشر في العالم، إذ شهدت السنوات والعقود القليلة اللاحقة حصول الكيانات السياسية القديمة كالهند والصين ومصر، أو المستحدثة كباكستان وبنغلادش والمملكة العربية السعودية وسائر بلدان العالم العربي على استقلالها وإقامة دولة في كل منها. وقد حصل ذلك إما بنضال سلمي، نسبياً، كما مع غاندي الهند، أو مسلح كما مع الثورة الجزائرية، فيما تأجلت نهاية الحكم العنصري في جنوب أفريقيا عقوداً أخرى، ولم يبق من تركة الاستعمار القديم إلا الاحتلال الصهيوني لفلسطين والصراع على ملكية بعض الجزر، كالمالوين التي تتنازع السيطرة عليها بريطانيا والأرجنتين، أو سبتة وملليلة بين المغرب وإسبانيا. لئن كانت الدول الرأسمالية قد اقتنعت بمخاطر الحروب، بل بعدم جدواها في حل المشكلات في ما بينها، فهي تمكنت من تجديد تفوقها على مناطق الحضارات السابقة، باستخدامها وسائل جديدة ومبتكرة للسيطرة على الطبيعة، واقتطاعها الحصة الأكبر من الأرباح في استثماراتها داخل المستعمرات. أما البلدان التي نالت استقلالها أو انتزعته فقد خضعت لقسمة عمل جديدة، أطلق عليها الماركسي سمير أمين مصطلح التطور اللامتكافئ بين المركز الرأسمالي والأطراف المتخلفة، واقتضت هذه القسمة وضع الأطراف على سكة التطور الرأسمالي، ولا سيما في مجالي التعليم والمواصلات، وذلك لتوفير أفضل شروط الحماية لمصالح المركز وأفضل الظروف المناسبة لاستثماراته التجارية والصناعية.
هذا العرض لحروب الرأسمالية ليس مدحاً ولا ذماً، بل هو لإثبات حقيقتين اثنتين. الأولى هي أن الرأسمالية لم تخض حروبها، في المرحلة الأولى، لا ضد الشرق ولا ضد الاسلام، بل ضد الحضارات السابقة عليها، أي أن النزاع لم ينشب بين شرق وغرب أو بين ديانة اسلامية وأخرى مسيحية، بل بين حضارة ناشئة وأخرى بلغت حدودها التاريخية، والدليل على ذلك هو أن حروبها الأولى التي استمرت أكثر من ثلاثة قرون اندلعت داخل القارة الأوروبية وانحصرت بين أبناء الديانة المسيحية، وأن حربيها الأخيرتين العالميتين، اللتين انفجرتا على مساحة العالم، تتحمل أمبراطوريات القارة ودولها القومية وحدها المسؤولية عن تفجيرهما. ولهذا يصبح أكثر جدوى وأكثر عقلانية النظر إلى العنف المرافق لقيام الرأسمالية بوصفه ثمناً فرض على البشرية أن تدفعه لكي تنتقل من الحضارة السابقة على الرأسمالية إلى الحضارة الرأسمالية، والنظر إليه، بالتالي، لا بعين «التحرر الوطني» من الاستعمار، بل بعين التحرر من التخلف. وبهذا المعيار بالذات يمكن القول إن انفجار مرفأ بيروت، الثالث بعد القنبلتين الذريتين على اليابان، هو حرب مضادة شنها التخلف ضد الحضارة، أو شنتها الهمجية ضد «أهم اختراع بشري»، أي ضد الدولة. شعار التحرر الوطني من استعمار افتراضي سوّغ للميليشيات منع الدولة من احتكار استخدام العنف وبرر لها، بحجة التحرير ومواجهة الاحتلالات، تأسيس مقاومات مسلحة همها الأول تدمير أسس الدولة الديمقراطية. التحرر الوطني يعني التصويب على عدو خارجي، وهو شعار تتوسله أنظمة الاستبداد لقمع شعوبها وحرف الأنظار عن المخاطر الداخلية.
شعار التحرر الوطني من الاستعمار ما زال خطأ شائعاً على لسان اليسار الشيوعي والقومي ويلاقيه خطأ مستحدث عنوانه التحرر من الاحتلال الإيراني. التجربة اللبنانية أثبتت أن خروج جيش الاحتلال الاسرائيلي ومن بعده جيش الوصاية السورية لم يحل دون استمرار الأزمة الداخلية، وأن الوحدة الوطنية هي التي تنتصر على الخارج وتجعله، مهما بلغت قوته، نمراً من ورق، وأن الخارج لا يقوى إلا بوجود ذراع محلي له من طينة أنظمة الاستبداد وأحزابها.
الاعتقاد بأن الاستبداد أقل خطراً من الاحتلال خطأ شائع.
مقالات ذات صلة
مقالة الوداع
تهافت خطاب “الشيعية السياسية”
قمة التطبيع