
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=859119
الحوار المتمدن-العدد: 8263 – 2025 / 2 / 24 – 09:27
الأزمة في اللغة تعني الشدة والسنة المجدبة والضيق. فأية أزمة نعني إذا أردنا أن نتناول أزمة المجتمع العربي؟ قرنان متواصلان، أو أكثر، من السنين المجدبة والضيق والشدة، وليست الانفراجات بين فصولها إلا تمويهاً على الحقيقة. بدأت بإخفاقات متكررة في العثور على سبيل للدخول في حضارة العصر الحديث، أي في الحضارة الرأسمالية. بهذا المعنى، هي لم تبدأ بنكبة فلسطين أو سايكس بيكو ولا بالاجتياح الأمريكي للعراق، ولا هي انتهت بحربي الطوفان والإسناد، بل مع الاجتياح الرأسمالي للمنطقة العربية ولكل بلدان ما سمي فيما بعد بالعالم الثالث، أي بغزو نابليون لمصر ثم بالصراع على تركة الرجل المريض، أي السلطنة العثمانية.
منذ ذاك التاريخ عرضت الحضارة الرأسمالية على البشرية الدخول في النهضة والحداثة، وحاول النموذج الغربي أن يعمم نفسه على أوروبا، أولا ثم على سائر الكرة الأرضية (إجتياح نابليون لأوروبا ومن بعدها محاولات السيطرة المباشرة ،كالاستعمار و الانتداب ، وغير المباشرة ، بعد مرحلة الاستقلال الوطني).
هذا التعميم لا يلغي خصوصيات كل مرحلة من المراحل، لكنه يؤكد على عنصر ثابت في طريقة التعامل العربي مع تحديات الرأسمالية وآليات توسعها، من علاماته:
1- الانكفاء على الذات، وقد أدى هذا الانكفاء إلى التحصن بآليات حضارة هرمة هي حضارة عصر الاقطاع التي كانت تجسدها في منطقتنا خير تجسيد السلطنة العثمانية بنظامها السياسي الاقتصادي الثقافي .
طرحت الحضارة الجديدة على الشرق العربي وعلى الكرة الأرضية امكانية اعتماد نظام جديد قوامه الديمقراطية في السياسة، والعمل المأجور في الاقتصاد، تعميم المدرسة ومحو الأمية، الجامعة بدل الجامع والعلم بدل الأسطورة في الثقافة. أدت عقلية الانكماش إلى نشوء الأصوليات وتمسكها بالماضي وقيمه على حساب كل محاولات التطور.
الاعتقاد الذي يشبه اليقين بأن أسباب التخلف تقتصر حصراً على النزعة الاستعمارية الغربية، ما أدى إلى ترسخ مبدأين خاطئين في مواجهة تحديات الحداثة: الأول تغييب الأسباب البنيوية التي أدت إلى شيخوخة الحضارة العربية وانكفائها عن مسرح التاريخ منذ مطلع الألفية الثانية، وانهيارها أمام الصليبيين والمغول والتتار والمماليك والعثمانيين، أي قبل الغزو الغربي بثمانماية عام.
والثاني رسوخ نظرية المؤامرة، أي تحميل المسؤولية للعوامل الخارجية، وبالتالي تبرئة مسبقة لعوامل الخلل الداخلي، الأمر الذي مكن الممسكين بالسلطة ، على مدار التاريخ العربي الحديث، من توظيف كل الأحداث في صالح تأبيد النظم الحاكمة ضد أية محاولة للتغيير .
2- تعميم وعي ثقافي يقوم على “ثنائيات مغلوطة”، بحسب تعبير محمد عابد الجابري، تلغي كل إمكانات الابتكار وتقتل كل فكر نقدي، وقد تجسد ذلك في صراع محموم بين الأصالة والحداثة، أو بين التراث والمعاصرة، فصار كل جديد مرادفاً للخيانة الوطنية والعمالة للاستعمار، من العلمنة والديمقراطية حتى الأزياء وتعلم اللغات الأجنبية، وليس أفضل تجسيداً لهذه العقلية اليوم من الثنائية التي فرضت على الشعوب العربية ووضعتها أمام خيارين، إما الاستبداد أو الاحتلال، وجعلت النضال في سبيل الديمقراطية موضع ريبة بحجة أنها سليلة الرأسمالية وآلياتها المتوحشة.
3- تعميم وعي قومي يوظف في التعبئة ضد عدو خارجي أكثر من توظيفه عوامل اللقاء الداخلي ،فلم تكن الوحدة العربية حاجة داخلية لتطور الأمة وتعزيز عوامل قوتها بقدر ما كانت حاجة لمواجهة عدو خارجي متمثل دوماً بالاستعمار والصهيونية و”عملائهما” من القوى الرجعية، الأمر الذي جعلها تنحو منحى شوفينياً تعصبياً، فتغيب عن برامجها خطط التطوير الداخلي والتعاون والتضامن والتكامل.
4- تعميم وعي ميثولوجي يجافي المناهج العلمية ويتعامل مع تحديات الواقع بصفتها تمهيداً للموقعة الكبرى المؤجلة دوماً، تماماً مثلما هي الحياة الدنيا، في الفكر الديني، تمهيد للحياة الآخرة. لذلك ترفع رايات النصر في أعقاب الهزائم، وتنحر الخراف للقائد المهزوم، كأننا في عصر طقوس العبادة الوثنية.
5- تعميم سلوك في الإصلاح الديني وفي الإصلاح السياسي جعل العودة إلى التاريخ عودة مغلوطة، والدخول في التاريخ الحديث دخولاً مغلوطاً هو الآخر. لقد آن، بعد كل الذي حل بالأمة من نكبات، وبعد كل المتغيرات في العالم، أن تستيقظ النخب الثقافية والأحزاب من غفوة الماضي وتستأنف نهضة موؤودة، وتعيد قراءة الماضي بعين نقدية لتعرف أن المخاطر الداخلية أشد فتكا من المخاطر الخارجية، وأن إعطاء الأولوية للسلطة على الدولة ليس خطأ عابراً، بل خطيئة كبرى تحدرت منها كل الصراعات والمعارك الجانبية.
أعدّت هذه المقالة كمحاولة لتفسير نكباتنا وهزائمنا، وآخرها الطوفان والإسناد، ولتكون بمثابة مقدمة لمقالتين سنتناول فيهما قراءة أمين معلوف في كتابه الأخير، متاهة الضائعين.
مقالات ذات صلة
المنهج الروائي في البحث عن الهوية عن -متاهة الضائعين- لأمين معلوف
رفيق الحريري ومشهد 2025
نحو بناء دولة القانون والمؤسسات