
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=859561
الحوار المتمدن-العدد: 8267 – 2025 / 2 / 28 – 11:19
هاتفني الصديق أحمد باشا ليسألني عما إذا كنت قد اطلعت على كتاب “متاهة الضائعين” لأمين معلوف. كأنه كان يحفزني على قراءته حين أخبرني أن الكتاب يعالج المسألة ذاتها التي عالجتها في كتابي، “أحزاب الله”. سارعت إلى الحصول على نسخة منه (منشورات دار الفارابي، 2024 وترجمة رلى ذبيان)، ليتأكد لي أن أمين معلوف ابتكر منهجاً جديداً لم يكن مدرجاً في قائمة المناهج المعتمدة في الدراسات الجامعية والتي قمت بتدريسها لسنوات طويلة خلال عملي في الجامعة اللبنانية، منهج التحليل النفسي، التاريخي، البنيوي، البنيوي التكويني، اللغوي، الدلالي، الرمزي، الاجتماعي، الواقعي، الوصفي، والقائمة طويلة ومعقدة، أقترح أن نطلق عليه إسم المنهج الروائي في البحث العلمي.
صخرة طانيوس، ليون الأفريقي، سمرقند، حدائق النور، موانئ الشرق، التائهون، غرق الحضارات، متاهة الضائعين، كتب تحكي عن “اختلال العالم”، وعن “الهويات القاتلة”، بل هي رحلة متواصلة في تاريخ الحضارات، والتنقل بينها في نزهة فكرية خيالية، يبدو فيها التنافس بين الحضارات كأنه شكل من سباق البدل، لكن بقيم غير رياضية. صراع أخوي أحياناً ودموي أحياناً أخرى، نزهة تعج بمفردات التيه والتائهون والمتاهة والضائعون والاختلال.
يحكي الكتاب عن المواجهات بين حضارة الغرب الأوروبي وثلاثة بلدان من خصومه هي على التوالي، اليابان الأمبراطوري والصين وروسيا السوفياتية. يقال عن تلك الحضارة أنها أوروبية. هذا صحيح، فهي نشأت وترعرت هناك، لكنه نعت غير مطابق. فالحضارتان اليونانية والرومانية أوروبيتان أيضاً. الأكثر دقة هو التعريف الماركسي، الحضارة الرأسمالية، التي هدفت، بحسب أمين معلوف، “إلى إنجاز ما لم تسبقها أية حضارة أخرى إلى إنجازه، أي الاستيلاء على الكرة الأرضية برمتها، بالمعنى الحقيقي كما بالمعنى المجازي للكلمة، متوسلة أكثر المنهجيات رهافة كما أكثرها شراسة”.
التعريف الماركسي هو أكثر مطابقة لأن المبادرة اليابانية لم تأت من أوروبا، بل عبر رسالة حملها في شهر تموز من العام 1853 “ضابط من البحرية الأميركية هو العميد ماتيو كالبرايت بيري، ممهورة بتوقيع الرئيس ميلارد فيلمور، يعرض فيها على اليابان الاطلاع على حضارة جديدة قائمة على الضفة الأخرى من المحيط الهادئ. رسالة تجسدت فيها “الرهافة والشراسة” بأبهى صورها. فهي أودعت في “صندوق من خشب الورد مزين بعروق وزخارف من ذهب، مرفقة بهدية هي عبارة عن قماشة بيضاء سيكتب عليها الأمبراطور رده الإيجابي على الدعوة أو سيحتاجونها للاستسلام”
لم يكن الصديق أحمد باشا يعرف أنني كنت قد شاركت الشاعر بسام حجار عام 1997 في ترجمة كتاب عن المعجزة اليابانية لمؤلفه آلان بيرفيت يروي حكاية هذا البحار نفسه، ماتيو بيري الذي عرض على المسؤولين في اليابان التفاعل مع الحضارة “الغربية” الجديدة، وأمهلهم ستة أشهر ليدرسوا هذا العرض. خلال هذه الأشهر قررت اليابان، بقيادة الميجي، قبول العرض على الأقل لكي تتفادى المصير الذي حل بالصين وأوقعها تحت الاحتلال بعد حرب الأفيون.
وافقت اليابان على التفاعل الإيجابي فأرسلت بعثات علمية إلى الخارج وأفادت من خبرات بريطانيا وأميركا في مجالي الاقتصاد والإدارة، ومن خبرات فرنسا في السياسة وألمانيا في العلوم والفلسفة، واستقبلت خبراء من بينهم مهندس زراعي رافق طلابه من المرحلة الابتدائية إلى أن أسس معهم كلية الزراعة. خلال خمسين عاماً تمكنوا من القضاء على الأمية، وكادت اليابان تكون البلد الوحيد الذي دخل إلى رحاب الحضارة الرأسماية من غير طريق الاحتلال والعنف.
تلك الحضارة ذاتها كانت قد دخلت إلى مصر عبر نابليون بونابرت. ضابط في الجيش الفرنسي أرفع رتبة من الأميركي تيري وأكثر طموحاً وذو دور أهم من ناقل رسالة رئاسية. هو كان الرئيس. احتل مصر وغادرها بعد بضع سنوات، تاركاً لمحمد علي باشا أن يلعب في مصر دور الميجي في اليابان. رفاعة الطهطاوي رئيس أول بعثة علمية إلى فرنسا. عادت البعثة من فرنسا قبل أن تغادر البعثات اليابانية إلى عواصم الغرب، وتأسست في مصر مدارس وأنشئت مؤسسات تعليمية، وحين مات محمد علي باشا، نفي الطهطاوي إلى السودان وأقفلت أبواب المدارس.
على سبيل المقارنة، مصر تعرفت على الحضارة الغربية وسبقت اليابان بخمسين عاماً، لكن الباشا المصري جمع إقطاعيي عصره على مأدبة وقتلهم جميعاً ليحتكر وحده إدخال مصر في عصر الحداثة، فيما قررت الأمبراطورية اليابانية بعد حرب أهلية قصيرة الأمد، أن تتفوق على أساتذتها في الغرب الأوروبي والأميركي وأن تنتقل من التخلف إلى الإمبريالية.
أمين معلوف يكتب التاريخ على شكل رواية أبطالها من لحم ودم. “الميجي، وتعني الحكومة المستنيرة” هي المسؤولة عن النهضة مع عاهل له من العمر خمسة عشر عاماً إسمه موتسوهيتو، غادر مكان إقامته في كيوتو ليستقر في إيدو ويطلق عليها إسماً جديداً هو طوكيو، بعد أن طرد منها الحاكم العام (الشوغون)المتحدر من عشيرة توكوغاوا، وأطلق ميثاق القسم الذي “التزم الأمبراطور الشاب بموجبه بوضع دستور وبإنشاء جمعيات عمومية تشاورية”. ليس صدفة إذن أن يكون الدستور أول ما يبدأ به الربيع السياسي في العالم المعاصر. أليس هذا ما حصل في بلدان الربيع العربي؟
بين 1853 ونهاية القرن صارت اليابان قوة عظمى. للصين وكوريا “رواية” أخرى مع النهضة اليابانية وأبطال آخرون، نعرض لما كتبه أمين معلوف عنهم في مقالة لاحقة، ونكتفي، على سبيل المقارنة، بما اقتبسه عن أسباب رسوبنا في امتحان النهضة من كتاب المصري مصطفى كامل،”الشمس المشرقة” المنشور عام 1904، حيث يقول: ” إن أفضل الطرق لتربية الأمم وتعليمها وإرشادها إلى طريق التقدم والحضارة، إنما تكمن في أن يشرح لها كيف تصرف من نجح في السير فيها. أما نحن الشرقيين، فإننا نتعلم منذ الصغر أن حضارتنا تنتمي إلى زمن غابر، وأن علينا القبول بأسبقية أوروبا وتفوقها. غير أن الأمة اليابانية دحضت هذه المزاعم توّاً”
مقالات ذات صلة
لماذا نحن في أزمة ممتدة؟
رفيق الحريري ومشهد 2025
نحو بناء دولة القانون والمؤسسات