26 أبريل، 2024

الخارطة الجيوسياسية للمسألة الأفغانية

        يمكن القول عن الخارطة الجيوسياسية في أفغانستان أنّ هذا البلد يشكّل نقطة التقاطع بين مجمل المنطقة التي تقع تحت النفوذ السوفياتي والمنطقة ذات الأغلبية الإسلامية. ويشبه هذا البلد، في وضعه الراهن، وضع اليمن الجنوبية التي لا تعتبر نقطة توتر رغم ما تشكّله من صلة مع أثيوبيا ورغم انتمائه إلى المعسكر الشيوعي العالمي ورغم كونها تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من الجزيرة العربية على المستوى الاقتصادي.

        لكن أفغانستان تشكّل، من وجهة نظر المدافعين عن الإيديولوجية الإسلامية، تشكّل نقطة التوتر الأساسية وخط الدفاع الأول ضد رسوخ التجربة الأفغانية كتجربة تهدد، بخروجها عن تقاليد المنطقة، مجمل الأنظمة التي تتبنّى الإسلام السياسي عقيدة وإيديولوجية.

        لكن المسألة الأفغانية هي أعقد بكثير من تلك التحليلات المبسطة التي يلجأ إليها بعض منظّري السياسة في المنطقة. كما أنّ محطات البث التلفزيوني الموجَّهة من إيران نحو بعض مناطق أفغانستان لن يكون أفضل حظاً من التلفزيون الألماني الغربي الموجَّه عبر عشرات المحطات نحو الشطر الشرقي من ألمانيا.

        وإذا كان الأثر الأساسي الذي تركه التدخل السوفياتي في أفغانستان هو تحويل الإسلام إلى قوة سياسية فإنّ الجذور التاريخية والاجتماعية والاقتصادية لمثل هذا التحوُّل تؤكّد بدورها أنّ الأمر أكثر تعقيداً مما يظن البعض.

        لم تكن أفغانستان مركزاً لتطور الفكر الإسلامي ولنمو الإيديولوجية الدينية في القرن العشرين. ذلك أنّ أسلمة هذا البلد بدأت قبل ذلك، وكان العلماء يتزوّدون علماً في إيران والهند والعراق ومصر، تبعاً للمذاهب المتعددة وللعلاقات التاريخية التي تربط مختلف القبائل الأفغانية بالخارج.

        ويشكّل وجود 20% من السكان من الطائفة الشيعية دليلاً على انفتاح أفغانستان على كافة التيارات التي تخترق الأُمّة الإسلامية. كما أنّ طائفة أخرى يُعتبر وجودها دليلاً أكثر تعبيراً عن ذلك، وهي القدرية بزعامة السيد أحمد الغيلاني، رجل الأعمال الذي كان مستشاراً للملك زاهر. على أنّ أكبر التيارات وزناً على المستوى السياسي هما تنظيم الإخوان المسلمين الآتي من مصر، والحزب الإسلامي (جمعية إسلامي) الذي أسّسه مودا دي في باكستان والهند. ولقد لجأ قادة هذين الحزبين إلى باكستان بعد حملات التوقيف والاعتقال التي قام بها الملك داود عام 1974.

بنيـة المجتمـع الأفغـاني

        منذ عقود كان الأفغانيون يشكّلون جزءاً من اليد العاملة العربية والفارسية، مما أدخل بلادهم في الحلبة الاقتصادية للبلدان المجاورة، دون أن يدخل مع العمال الأفغان أي أثر للتطرف السياسي والديني. لذلك اكتفى المجتمع الأفغاني بتكوين أطره الاقتصادية والاجتماعية والدينية دون السياسية.

        واليوم تبدو عملية أسلمة البنية السياسية للمجتمع الأفغاني عملية جديدة من نوعها. فهي ليست مستندة إلى قوة في أعلى السلطة كما يجري في السودان، ولا إلى تطور (ثوري) جماهيري، كما حصل في إيران، ولكن نتجت من ردة فعل تستند إلى عوامل ثلاثة بل إلى نزعات عدائية ثلاث: الأولى ضد النظام القائم، والثانية ضد الوجود السوفياتي، والثالثة ضد أطراف أخرى من المعارضة، إذْ لا شك أنّ كلمة المجاهدين وهي الكلمة المشتركة بين أطراف متعددة، تخفي في داخلها مفاهيم سياسية متباينة.

        ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا خرج الحزبان الدينيان الرئيسيان (الإخوان المسلمون والحزب الإسلامي) في العام 1975 إلى الحدود مع باكستان حيث كان اختيار المواقع الجغرافية عائداً إلى المساعدة التي ينتظر أن يقدمها لهم نظام باكستان. وإذا حاولنا أن نسلّط الأضواء على تركيبة المجتمع الأفغاني لوجدناه مجتمعاً غير متجانس، ولا يشكّل في نظر البعض، أُمة بالمعنى الصحيح للكلمة؛ بالدرجة الأولى يبرز بشكلٍ واضح التعدد الإثني واللغوي. فأفغانستان هي الجزء الجنوبي من وسط آسيا السوفياتية، وهي الشمال الشرقي والشمال الغربي من إيران، وهي أيضاً الجزء الشرقي من تركيا، أو هي على الأقل، امتداد في مختلف الاتجاهات للدول المحيطة. من هنا تتعدّد الثقافات واللغات والعادات الخ. وتتعايش مجموعة من الشعوب والقبائل التي ينتمي 9% منها إلى الأوزبك ذات الأصول التركية. و32% منها إلى الطاجك ذات الأصول الفارسية، و45% إلى فئات أخرى من البالوش والهزرا والباختين، ولكل منها لغته الخاصة المتميّزة عن اللغات الأخرى.

        وتشكّل جماعة الباختين العنصر البشري الأساسي لأنّها تفوق كافة الفئات الإثنية عدداً. بيد أنّ هذه القبيلة أو الطائفة لا تمارس حياتها السياسية ولا المدنية على أساس ديني، بل استناداً إلى أصول قبلية خاصة معروفة تحت اسم القانون القبلي الذي هو، في الأساس، قانون علماني. ولم يكن للعلماء ولجماعة الملاوات أي دور سياسي.

        إنّ نسبة عالية من هذه القبيلة تعيش اليوم تحت مخيمات اللاجئين الأفغان على الحدود الباكستانية، وليس هذا المنفى أمراً مستحدثاً أيام التدخُّل السوفياتي هناك، بل هو المكان الذي كان يلجأ إليه سكان القبيلة تاريخياً كلّما ساءت علاقتهم بالسلطة المركزية في كابول. فيتراجعون إلى الحدود الشرقية. لكن تراجعهم هذه المرة كان بتشجيع من الحركات الإسلامية التي باتت لا تعترف بإسلامية الذين يعيشون داخل أفغانستان وتعتبرهم جميعاً بمثابة أتباع لموسكو وعملاء لها.

        كما أنّ هذه القبيلة كانت تقيم، تاريخياً، في الجنوب والجنوب الشرقي وفي شرقي البلاد وكان نفوذها يمتد إلى ما وراء الحدود الباكستانية منذ أيام الانتداب الإنكليزي. لذلك ترى بعض الأوساط التي تتابع أوضاع أفغانستان أنّ تكتيك الاتحاد السوفياتي ربما يقوم على إبعاد حدود العصيان شيئاً فشيئاً حتى يتسنّى لهم إقفال تلك الحدود في نهاية الأمر.

        من ناحية أخرى تخضع قبيلة الباختين إلى عملية تحوُّل جدية باتجاه المدينة وإن كان الأمر يتم بأشكال قسرية كما في كافة الحالات القبلية. في حين تظهر الإحصاءات تضاعف عدد سكان كابول منذ عام 1978 وحتى الآن، يرى المراقبون أنّ هذه الزيادة كانت النتيجة الحتمية للسياسة التي تنتهجها السلطة الحاكمة. فلقد حدّدت خيارات القبيلة باثنين: إمّا التحوُّل نحو المدن، وإمّا التراجع إلى ما وراء الحدود.

الأحـزاب “القبليـة”

        أمّا الأحزاب الإسلامية فهي موزّعة على تحالفين ويضم الأول المعروف بالتحالف المعتدل:

        ــــ الحركة الثورية الإسلامية، وهي في الحقيقة أقرب إلى الجبهة منها إلى التنظيم السياسي الحزبي، ويقودها شخص يسمّي نفسه نبي محمّدي. وتبسط نفوذها على المولويين وعلى الملاوات السنّة.

        ـــــ الجبهة الوطنية الإسلامية ويقودها أحمد الغيلاني، وكيل شركة بيجو في كابول سابقاً.

        ـــــ جبهة التحرير الوطني الأفغاني ويقودها مجددي، وهو أستاذ سابق للفقه في كابول ومن خريجي جامعة الأزهر.

        ويضم التحالف الآخر:

        ــــ الجمعية الإسلامية ويقودها برهان الدين رباني معلّم الفقه وهو من الطاجك وذو تأثير كبير في طائفته ذات الأصول الفارسية.

        ــــ الحزب الإسلامي بقيادة يونس الخالص الذي يحتل رتبة الملاّ في قبيلة الباختين الخوسياني (مقاطعة في نانغراهار) ويقوم دوره القيادي على مزاياه العسكرية.

        ـــــ الحزب الإسلامي بقيادة غلب الدين حكمتيار من الطائفة الإثنية أيضاً وقد بدأ بدراسة الهندسة في كابول قبل أن يؤسّس حزبه بدعم باكستاني. وهو يحمل برنامجاً إصلاحياً في مستوى تنظيم الإخوان المسلمين وقد عُرِف عن هذا الحزب أنّه واجه مرّات عدّة حركات المعارضة الأخرى مواجهة مسلَّحة.

        هذا التحالف الثاني يرئسه عبد الله الصياف وهو أيضاً من الباختين، درس في القاهرة وتدعمه الحركات الإسلامية في الخليج وفي باكستان.

        يمكن الاستنتاج إذن أنّ المشاريع التي تتنافس وتتصارع على مستقبل أفغانستان هي ثلاثة. ففي حين يدعو المشروع الأول إلى العودة إلى الأوضاع السابقة على الدخول السوفياتي، أي إلى الملكية، يدعو الثاني إلى تغيير جذري على أُسس إسلامية، وما يزال الثالث في تجربة التغيير التي يقوم بها استناداً إلى الماركسية.

        وعل أساس هذه الخارطة لا وجود لطرف خارج هاتين الإيديولوجيتين. مما يترك انطباعاً عند بعض المراقبين الغربيين حول استحالة نجاح أية حركة سياسية تقدمية علمانية “غير منحازة” مقدماً.

الـدور الباكستانـي

        من ناحية أخرى تبدو حاجة المعارضة الأفغانية إلى باكستان أكبر من حاجتها إلى إيران وذلك بسبب التوزيع الجيوسياسي للأطراف الداخلية. ذلك أنّ وضع الأحزاب الإسلامية يشكو من خللٍ استراتيجي يسبّبه بُعد القواعد العسكرية عن الحدود، خاصة وأنّ الأحزاب العاملة في الشمال ترى نفسها بحاجة ماسّة للمرور عبر باكستان وفي المنطقة التي تشرف عليها قبائل الباختين المنخرطة في ما يُسمَّى بـ”التحالف المعتدل” مع ما ترتبه عملية المرور من مناوشات بين أحزاب المعارضة نفسها. وتزداد الحاجة إلحاحاً في ظل القيود التي تضعها إيران على المجاهدين السنّة.

        على المستوى الاقتصادي يشكّل اللاجئون الأفغان عبئاً كبيراً على الجهات التي تمنحهم الدعم، خاصة على الولايات المتحدة وبعض بلدان الخليج. ومن المفارقات أنّ هؤلاء اللاجئين لا يشكّلون عبئاً على باكستان، وهو البلد المعروف بهشاشة بنيته السياسية، بل إنّهم، على العكس من ذلك، شكّلوا الضمانة الاستثنائية لإمكانية السيطرة الباكستانية على حدود بقيت خارج السيطرة عهوداً طويلة.

        ومن المفارقات السياسية الباكستانية إصرارها على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد السوفياتي حيث يتابع هذا الأخير إنجاز مشروع التعدين (الحديد والصلب) الذي يشرف على نهايته.

        في مواجهة إصرار بعض الجهات على إحداث ارتجاج داخل المجتمعات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي، تظهر صعوبات كبيرة تجعل ذلك مستحيلاً. ذلك أنّ الشروط التي سهّلت للمسلمين تحرُّكهم في إيران مثلاً أو في بعض المناطق الأفغانية هو سيطرة الإيديولوجية الإسلامية على المستوى السياسي. بينما لا يتوفر مثل ذلك داخل آسيا الوسطى السوفياتية التي يقوم البناء الإيديولوجي فيها على أُسس أخرى، تعتمد الماركسية الرسمية أصلاً أخيراً لها.