13 أكتوبر، 2024

غورباتشيف: أندروبوف الشاب

وتحديث البلاد

        خلال يومي 16 و17 أبريل 1985 وجّه الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف رسالة إلى الشعب، من خلال الكلمة التي ألقاها في الجمعية العامة لعمال بروليتارسكي. والرسالة عبارة عن مشروع الخطة الاقتصادية والاجتماعية التي ينوي تنفيذها في السنوات المقبلة. والجديد في رسالته، من حيث الشكل، خلوّها من الصيغ والعبارات التقليدية الغامضة، ووضوحها لا سيما فيما يتعلّق بمفهوم “التحديث” وبمفهوم الانتظام في العمل.

        لقد تمنّى الأمين العام القيام بإجراءات فعّالة من شأنها الوصول إلى “منعطف أساسي في مجال إنتاجية العمل” وقد دعا مواطنيه، من أجل ذلك، إلى مزيد من العمل بعناية وعطاء.

        المكان الذي اختاره غورباتشيفن بحدّ ذاته، معبّر وكبير الدلالة. ذلك أنّ دائرة بروليتارسكي كانت، هي بالذات، الدائرة التي عمل فيها أندروبوف، وبذلك أكّد الزعيم الجديد على أنّه وعهده يشكّلان “امتداداً” لأندروبوف وعهده. بيد أنّ تركة الزعيم الجديد تحمل بعض التميُّز. فقد قامت سياسة أندروبوف على أساس التأكيد على الانتظام في العمل، وهو ما أعاد تأكيده “خليفته”، لكن الوجه الآخر من نهجه هو التهديد الواضح والصريح الذي وجّهه ضد الذين لم يتقيّدوا بالانضباطية الرفيعة المستوى، وقد مضى بحزمه هذا إلى حدوده القصوى معاقباً أولئك الذين حصلوا على امتيازات عديدة، خلال سنوات عملهم، فغرقوا في أمراض البيروقراطية والإهمال والفساد.

        غير أنّ الوجه الآخر من “انضباطية” غورباتشيف هو تأكيده على ضرورة تحديث الحياة السوفياتية بوجهيها الاقتصادي والاجتماعي؛ وتأتي الصناعة في رأس الأولويات ثم الخدمات الصحية والتربوية على نحوٍ خاص. ولقد كانت التوجيهات الأندروبوفية في الحادي والثلاثين من يناير 1983 أكثر قساوة وشدّة حيث قال في أحد المعامل القريبة من موسكو:

        “إنّنا نخسر ملايين الساعات من العمل بسبب التغيُّب، وبسبب الأوقات المخصّصة للتدخين، والانقطاع غير المبرَّر عن العمل وهذا ما يؤثّر سلباً على المجتمع كلّه. يبغي تطبيق النظام في كل مكان يجري فيه تبديد أوقات العمل”.

        منذ أسابيع استأنف البوليس حملات التفتيش في الأماكن العامة، ولكن بنسبة أقل ممّا كانت عليه في خريف 1983، وتقضي الحملات بالتأكُّد من هويات المواطنين ومن دوام عمل كل واحد منهم، أحياناً كثيرة، يقوم البوليس بمهمته هذه عندما ينتظم الناس في الصفوف الطويلة، أمام قاعات السينما والمسرح، والمحلات التجارية. وحين يجدون عاملاً بين الجمهور يتصلون برئيسه لكي يتأكّدوا من صحة تبرير غيابه. وقد أوردت صحيفة البرافدا في عددها الصادر في 13 أبريل 1985 أنّ الملازم مودرنكو لاحظ أنّ معظم الذين كانوا، في وقت معيّن، داخل أحد المخازن التجارية، هم ممّن يفترض بهم أن يكونوا في أعمالهم، ومن بينهم أحد سائقي سيارات الإسعاف الذي جاء ليساعد والدته على بيع اللحوم، وأحد العاملين في قاعات السينما وقد جاء ليشتري باقة زهور لإحدى زميلاته وهدية لزوجته.

        ولم يشأ غورباتشيف أن يعبر، خلال جولته، عن مسألة التغيُّب، إلاّ بتلميحات عامة، وقد آثر أن يستبدل الكلمة بعبارة إيجابية، وهي التأكيد على بذل مزيد من الجهد وعلى رفع مستوى الإنتاجية في الاقتصاد السوفياتي.

        من الملاحظ أنّ اليد العاملة قد زادت خلال السنوات العشر الأخيرة وأنّ الاقتصاد القائم على مضاعفة اليد العاملة، وعلى إيجاد مناطق صناعية جديدة أصبح لا يكفي ولا يفي بحاجة البلاد وبمتطلباتها العصرية. وأنّ الوقت قد حان للاتجاه بالاقتصاد وجهة جديدة تشبه إلى حدٍ ما مرحلة التطور العمودي، أي تطور رأس المال، في البلدان الصناعية الغربية.

        تقضي هذه الوجهة باللجوء إلى تحديث الصناعة، لا سيما في المؤسسات القديمة، وقد لمَّح غورباتشيف، أمام عمال صناعة السيارات “زبل” إلى خطة “استحداث موديلات جديدة من السيارات بمحركات ديزيل” وقد عرض العمال بدورهم تصوراتهم في هذا المجال، ورغباتهم في “زيادة المداخيل”.

        لقد أظهر غورباتشيف، خلال زيارته للمعامل والمصانع ولأحد المستشفيات، أنّه يتبع نهجاً جديداً في علاقته بمواطنيه، إنّه يذهب إليهم، يناقشهم عن قرب، يستمع إلى شكاواهم وملاحظاتهم، وقد استجاب لدعوة زوجين شابين فذهب إلى منزلهما واستطلع أوضاعهما المعيشية.

        بالتأكيد، ليست أخلاق الزعيم هي التي تطور البلاد، على أهمية هذا الجانب في حياة الحاكم. الأمر الأساسي هو نهجه وخطته. وكلّما حاولنا أن نتلمّس شيئاً من كواليس السياسة السوفياتية نجد أنّ الخفايا ما تزال كبيرة، وأنّ الأمور لا تُعرف إلاّ بنتائجها.