9 مايو، 2025

الحرب الأهليةحرب على الدولة

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=867252
  
الحوار المتمدن-العدد: 8331 – 2025 / 5 / 3 – 01:07


حين أصدرت كتابي، اغتيال الدولة، في تموز 2006، كان التعليق الذي سمعته أكبر عدد من المرات يتناول العنوان قبل المضمون، وقد جاء على صيغة سؤال: وهل كانت الدولة موجودة لتكون عرضة للاغتيال؟ وجوابي ، نعم ، كانت موجودة بقوة ونحن اللبنانيين شاركنا بتدميرها.
فرضيتي عن اغتيال الدولة كانت أول غيث الاستنتاجات التي توصلت إليها في قراءتي النقدية لأربع تجارب، تجربة اليسار الذي انتميت إليه، وتجربة الأحزاب التقدمية التي عقدنا معها تحالفات صادقة وخضنا حروباً أخوية ضارية، وتجربة القوى السياسية التقليدية التي نعتناها بالرجعية ،ثم تجربة الميليشيات المسلحة يمينها ويسارها.
كانت البداية مع ما كانت تردده قيادات شيوعية ترى أن “نضال” الحزب الشيوعي يستهدف القضاء على “دولة البرجوازية” لتقوم مكانها دولة بقيادة “الطبقة العاملة”. وهذه كلها مصطلحات مشتقة من الماركسية وبصورة خاصة من البيان الشيوعي. في أحد الاحتفالات السنوية لتكريم ذكرى مهدي عامل شارك فالح عبد الجبار بمداخلة عن الدولة في المشروع الماركسي، ربما كانت نقداً غير مباشر لكتاب مهدي، الذي يحمل عنوان “في الدولة الطائفية”، قال فيها إن الماركسية تكاد تكون خلواً من أي كلام عن الدولة، لأنها ركزت اهتمامها على الاقتصاد، باستثناء كتابين، الأول لإنغلز، صديق ماركس وشريكه، عن أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، والثاني وضعه لينين عن الدولة والثورة، رأى فالح أن أهميته لا تتعدى كونه لا ينطوي على أية أهمية. شجعني مثل هذا النقد القاسي على متابعة البحث في المجال السياسي، عن حلول لأزمات الحزب واليسار والوطن، عن طريق التمسك بالدولة، وذلك خلافا لمنهج الماركسيين في البحث عن الأسباب كما عن الحلول في المجال الاقتصادي، فتوصلت إلى أن ما فعله اليسار في الحرب الأهلية كان شكلا من أشكال اغتيال الدولة.
المعارضات الأخرى كانت تدور في الفلك القومي ولم يكن يختلف مشروعها حيال الدولة عن مشروع القوى الماركسية اختلافاً نوعياً، فكلاهما كان يقف من الدولة القائمة في لبنان موقفاً عدائياً وكان يريد إلغاءها ليقيم بديلا منها دولة أخرى ذات طابع قومي أو أممي، أي دولة تجافي كل مواصفات الحد الأدنى الديمقراطية المتوافرة في النظام اللبناني.
ظهر فريق المارونية السياسية عند بداية الحرب، وخلفه حلفاؤه من القوى السياسية التقليدية التي تحمل اسم الاقطاع السياسي، في صورة الحريص على الدولة والنظام. غير أن وقوفه ضد التجربة الشهابية وتحريضه الطائفي عليها ينفيان وجود هذا الحرص، إذ إن نواقص الديمقراطية فيها لا تبرر حجم الهجوم الذي قاده الحلف الثلاثي الماروني ضدها، فضلاً عن أنه كان من الممكن تطويرها وتشذيبها بدل القضاء عليها، ولاسيما أن قدرة الدولة على الاستمرار رهن قدرتها على التطور وعلى التخلص من التشوهات التي أدخلتها الصيغة اللبنانية على مفهوم الدولة الحديثة. ومما لا شك فيه أن ذلك الموقف كان نذيراً لانهيار الصيغة، ومبرراً لنهوض مشروع السنية السياسية الذي ليس من المارونية السياسية سوى الوجه والقفا، واللذين سيبرران نهوض مشروع للشيعية السياسية بعد الطائف دفع المشاريع الطائفية إلى ذروتها المذهبية، وأكد، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الدولة الديمقراطية هي المستهدفة وأن البدائل كلها، الوطن القومي المسيحي والدولة الاسلامية والدولة القومية العربية والدولة الأممية ودولة المهدي المنتظر وولاية الفقيه، ليست سوى صيغ متنوعة كانت تسعى إلى اغتيال الدولة القائمة المتميزة عن سائر الانظمة المحيطة بمواصفات الحد الأدنى الديمقراطية.
إذن، بدت الحرب كأنها حرب على الدولة. حرب قبل أن تبدأ الحرب. حرب على المصطلحات في البداية. الدولة والحكومة والنظام والسلطة مفاهيم متداخلة ومتشابكة، لا بد أن تكون جهة ما مسؤولة عن هذا الالتباس بين هذه المصطلحات.
غداة الطائف دار نقاش غني حول هذه المفاهيم بين مجموعة من الباحثين في علم القانون، وتمت المقارنة مع المصطلحات الفرنسية، لأن الدستور والقوانين والمفاهيم والمصطلحات المعتمدة في لبنان إما أن تكون مشتقة أو مترجمة أم مستوحاة من تلك التي تقابلها في فرنسا، وقد أفضى النقاش إلى أن الالتباس موجود فحسب في لغتنا العربية، بل اللبنانية، لأن الفرنسية تميز بوضوح بين السلطة والدولة، أو بين المصطلحات Etat, pouvoir d’Etat, Autorites publique Autorite, .Regime, systeme, بيد أن الذي أطفأ النقاش هو الممارسة السياسية التي رسخت في الوعي الشعبي نوعاً من التطابق بين مصطلحات في علم السياسة ليست في الأصل متطابقة.
من الأمثلة العملية على هذا الالتباس نسبة المؤسسات الحكومية إلى الدولة لا إلى الحكومة، فيقال مثلاً كهرباء الدولة، ومدرسة الدولة وتلفون الدولة، حتى إذا حصلت معارضة لسياسة الحكومة في قضية الكهرباء قامت القيامة على الدولة لا على الحكومة أو على وزير الكهرباء(الموارد المائية والكهربائية)، وكذلك الأمر في كل الأمور المشابهة، وبات التهجم على الدولة ظاهرة مشروعة لا تنطوي على أي خطر، كما لو أنه تهجم على السلطة ( سلطة الدولة) أو على الحكومة التي تتولى إدارة شؤون الدولة والحكم (ورد في أحد تقارير المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني أمام مجلسه الوطني الذي هو بمثابة لجنة مركزية، أن الحزب يقف ضد الحكم والحكومة والنظام، وهو قد يعني بالحكم رأس النظام أي رئيس الجمهورية).
سأستخدم في هذا البحث مصطلح الدولة بالمضمون الذي يعني ارتباط فكرة الدولة ارتباطاً عضوياً بمصطلح الوطن. فهي التي تجسد سيادة الشعب على أرضه وعلى حدوده من خلال سيادة القانون، ولهذا يصبح المساس بها مساسأ بالوطن، ويتحول التعرض لها إلى تهديد للوحدة الوطنية، والذي يدفع ثمن اغتيالها هو الوطن، فانهيارها يعني انهياره وتفككها يعني تفككه وتدميرها يعني تدميره. فهل كان مقصوداً تكريس الالتباس بين المفاهيم عند أولئك الذين لا يؤمنون بلبنان وطناً نهائياً، أم انهم استندوا إلى تأويلات واجتهادات مستوردة، هي الأخرى، مع فكرة الدولة؟
لقد قامت الدولة الحديثة على فكرة القانون، وترافقت مع تطور الرأسمالية وصعود الطبقة البرجوازية، وتعددت المفاهيم المتعلقة بمصطلح الدولة. فهي تعني، في نظر البعض، الحكومة، أي مجموعة القيادات الذين يناط بهم اتخاذ القرار ويتولون السلطة التنفيذية في النظام السياسي؛ كما تعني، في نظر آخرين، نظاماً قانونياً وجهازاً بيروقراطياً وإدارياً، وفي نظر فريق ثالث، وهذا هو الصحيح، كياناً اعتبارياً، يمثل “مخلوقاً واحداً” ويعبر عن روح شعب واحد، ويجسد سيادة الشعب على حدود الوطن، ضد قوى خارج الحدود، وداخل حدود الوطن، ضد كل من ينتهك سيادة القانون.
هذه الدولة “النظرية” لم تصبح دولة “فعلية” في لبنان. ما كان يحول دون ذلك، في نظر التحليل السياسي اليساري والعلماني هو مشكلة تتعلق بتركيبة النظام الطائفية. ظل يتكرر هذا الكلام منذ تأسيس الوطن اللبناني من دون توقف، وأفضى في لحظة انفجار الحرب الأهلية إلى اقتراح لأصلاح النظام عنوانه إلغاء الطائفية السياسية، طاشت رصاصاته في الفضاء، لأنه طرح حلاً طائفياً للمسألة الطائفية، ولأنه كان يصوب على فراغ، ولأن الدستور اللبناني دستور علماني، والدولة ليست اسلامية ولا مسيحية، والتوزيع الطائفي للرئاسات ليس كافياً لجعل الدولة دولة دينية، بل هو صيغة مموهة لنظام المحاصصة، وهي ليست محاصصة بين الطوائف بل باسم الطوائف، أما التحليل الاقتصادي اليساري فرأى أن الدولة لم تتأسس في المجتمعات التي خضعت للاستعمار عن طريق برجوازية وطنية وإنما عن طريق برجوازية استعمارية أجنبية، ما جعلها في نظر اليسار، تفقد شرعيتها “التقدمية” و”الوطنية”
لم يصمد هذا التحليل أمام الوقائع والأحداث. لا التحليل السياسي ولا الاقتصادي، لا نظرية الطائفية ولا نظرية البرجوازية الوطنية. لأن مشكلة النظام اللبناني تقع في مكان آخر. مشكلته أنه خليط من نظام الوراثة، وقد استمرت ماثلة فيه قيم الحضارة السابقة مجسدة بنظام العائلات الذي أطلق عليه إسم “الاقطاع السياسي”، ومن أنظمة حديثة قائمة على حكم الدستور والقانون، وقضت المساومة بين هذين النوعين من الأنظمة بأن تتحاصص العائلات الحكم ضمن ديكور من الديمقراطية والانتخابات، تجدد فيها لنفسها طبقة سياسية لا تنتمي إلى صفوف البرجوازية، بل تنوب عنها في إدارة شؤون “الدولة الرأسمالية”. ومن باب المحاصصة بالضبط انخرط اللبنانيون في الحرب الأهلية، بعضهم لتثبيت الحصص وآخرون لمعادلات تحاصصية جديدة، مع ما يتطلبه ذلك من استعانة بالخارج واستدراجه والتشريع له ليكون شريكاً في توزيع الحصص.
مع الشهابية تحسنت شروط المساومة بين دولة القانون ودولة الوراثة وتبلورت ملامح الدولة المأمولة ومقوماتها بوضوح أكبر، فزاد منسوب الحداثة الذي يجعلها أكثر شبها بالدولة “النظرية” وأكثر تماثلا مع مواصفات دولة القانون والمؤسسات وتداول السلطة والكفاءة وتكافؤ الفرص والفصل بين السلطات.
النظام اللبناني، كما ينص الدستور، برلماني ديمقراطي، تقوم الدولة فيه على أساس الفصل بين السلطات. قبل الحرب كان رئيس الجمهورية يتمتع بصلاحيات واسعة تجعله يجمع السلطات ويلغي الفواصل بينها، فهو الذي يعين الحكومة وهو الذي يختار كبار المسؤولين في إدارات الدولة (قيادة الجيش وقيادة جهاز المخابرات وقيادة الأمن العام وحاكم البنك المركزي والمدير العام لوزارة المالية، وغيرها)، وهو الذي يشرف عبر الأجهزة الأمنية والعسكرية على الانتخابات النيابية فيؤمّن تشكيل الأغلبية المطواعة في البرلمان.
هذه الآلية في إدارة شؤون الحكم التي تقوم على استئثار الرئيس بالصلاحيات واحتكاره دور السلطتين التنفيذية والتشريعية معاً تشكو من مرض، شخصه المعارضون بأنه نوع من الغبن في صلاحيات رئيس مجلس الوزراء ثم جعلوه غبناً يصيب الطائفة كلها، ورفع الغبن، بحسب هذا المنطق، يكون بتوزيع أكثر عدالة للصلاحيات بين الرئيسين ثم بين الطائفتين، وهذا ما فتح الباب أمام رئيس مجلس النواب ليطالب هو الآخر بحصة له من الصلاحيات يصورها حصة للطائفة، فتدرجت عملية الاصلاح نحو الأسوأ لتؤول إلى نظام بثلاثة رؤوس أو رؤساء.
غير أن واقع الأمر يشير إلى خلاصة مختلفة. ذلك أن رئيس الجمهورية قادر، حتى بصلاحيات محدودة(ما بعد الطائف) أن يمارس سلطته كاملة ويعطل الآليات الديمقراطية، أي أن “يعلق الدستور” على طريقة الانقلابات العسكرية، بحكم إمرته على القوات العسكرية ( ولاية الرئيس إميل لحود نموذجاً حين استقوى بالجيش السوري وحذا حذو النظام السوري في إدارة شؤون البلد)، كما أن رئيس مجلس الوزارء يستطيع، حتى بصلاحيات محدودة(قبل الطائف) أن يعطل عمل الدولة إذا ما استخدم سلاحاً من خارج الآليات الديمقراطية لعمل النظام(على غرار ما فعله الرئيس رشيد كرامي باعتكافه ورفضه تقديم استقالة الحكومة، مستقوياً على الدستور وعلى رئيس الجمهورية بقوة القضية القومية والمقاومة الفلسطينية واليسار اللبناني). المشكلة إذن تكمن في مخالفة الدستور، أي في القفز فوق الأسس الديمقراطية في إدارة النظام.
حين ينص الدستور على أن النظام اللبناني نظام برلماني ديمقراطي، فهذا يعني أن البرلمان هو الركن الأساس فيه وله السلطة الأولى في التشريع وفي مراقبة السلطة التنفيذية ومحاسبتها. والديمقراطية تعني اختيار الحاكم بالانتخاب الحر في صناديق الاقتراع. غير أن التطبيق العملي للدستور في مرحلة ما قبل الحرب كان ينتزع السلطة الأولى من يد البرلمان ويمنحها لرئيس الجمهورية الذي يحول الوزراء إلى حلقة وسيطة بين رئيس الجمهورية والجهاز الإداري للدولة الذي يرئسه في كل وزارة مدير عام من الموالين لرئيس الجمهورية. كما أن التطبيق العملي للديمقراطية لم يكن ينتظر الاقتراع لمعرفة النتيجة، المحددة سلفاً بالتزوير المكشوف أو المموه، أو باختيار قانون انتخابي وآليات انتخابية ودوائر انتخابية على طريقة “قصقص ورق ساويهم ناس”، بحيث يضمن الحاكم( رئيس الجمهورية) وصول الأغلبية التي يريدها إلى سدة البرلمان.
مشكلة النظام إذن ليست في طريقة توزيع الصلاحيات بل في طريقة استخدامها خلافاً للدستور وللآليات الديمقراطية، وليست الطائفية السياسية التي صوب عليها اليسار، بل “المحاصصة”، بصفتها مساومة بين المتحاصصين على تأبيد السلطة وعدم تجديد الطبقة السياسية، وتواطؤاً بينهم على اقتسام النفوذ والسلطة والمال العام، هي التي تقف وراء أزمات النظام، وهي التي كانت أحد أسباب الحرب الأهلية الأولى يوم كان التوزيع راجحاً لصالح المارونية السياسية أو الثانية يوم بدا راجحاً لصالح السنية السياسية أو الثالثة حين عملت الشيعية السياسية على ترجيحه لصالحها. لذلك يمكن القول إن تناقضات عديدة داخلية وخارجية عصفت في بنية النظام اللبناني في العقد الذي سبق انفجار الحرب الأهلية، ووضعته أمام خيارين، إما تعديلات ديمقراطية على النظام إما الانفجار. ولم يكن ذلك حاجة لتنفيس احتقان داخلي فحسب، بل لمعالجة مفاعيل القضية القومية وتبعاتها على الوضع اللبناني أيضاً.
مسؤولية الطبقة السياسية الحاكمة تكمن في رفضها الاصلاح أو في عجزها عن القيام به ، وكان ذلك بمثابة تسليم منها بخيار اللجوء إلى العنف في مواجهة دعاة التغيير والاصلاح. أما قوى التغيير التي طرحت برنامجها للاصلاح السياسي فهي بدورها توسلت العنف سبيلا لتحقيق أهدافها السياسية أولاً لأنها استقوت بالسلاح الفلسطيني على الدولة وعلى خصومها في الداخل وثانيا لأنها، كما قوى السلطة، شخصت المرض تشخيصا مغلوطا، وهذا هو أصل الداء والبلاء
قوى السلطة حمّلت الوجود الفلسطيني كل المسؤولية وأعفت نفسها من مجرد التفكير بالاصلاحات الضرورية على النظام واعتبرت ذلك نقاشاً خارج الموضوع ومساساً “بالكيان والصيغة” وهما مصطلحان إضافيان في القاموس السياسي اللبناني. أما الأحزاب اليسارية والقومية والعلمانية فقد ركزت هجومها على أمرين رأت أنهما منبع كل الأزمات، الطائفية وصلاحيات رئيس الجمهورية، وهو ما حاولت أن تقدم له علاجا في البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي الذي اقترحته الحركة الوطنية اللبنانية في بداية الحرب الأهلية. حصرت نواقص الديمقراطية في التوزيع غير العادل للصلاحيات وحملت موقع رئاسة الجمهورية مسؤولية احتكارها على حساب السلطتين التنفيذية والتشريعية، وجعلت هذه النواقص نتيجة حتمية لآفة الطائفية فاقترحت إلغاء “الطائفية السياسية” من النظام ، وهو مصطلح لبناني صرف.
أثبتت الحرب ونتائجها السياسية أن الاقتراحين اليساريين، أي تعديل صلاحيات رئيس الجمهورية وإلغاء الطائفية السياسية، شكّلا جسر عبور نحو الأسوأ، إذ لم يحل التعديل، بعد إقراره في اتفاق الطائف، دون تجدد أزمة النظام. من ناحية أخرى، أفضى اقتراح الحل الطائفي لأزمة الطائفية إلى المزيد من التردي والانحدار السريع نحو المذهبية. وكذلك أثبتت التجربة العملية أن استخدام مصطلح “طائفية” لم يكن يصيب المعنى الذي كانت تقصده الأحزاب اليسارية، بقدر ما كان يسيء إليها وإلى قضية الاصلاح السياسي. فهو يطرح السؤال عن حصة عموم الموارنة من امتيازات رئيس الجمهورية، أو حصة الطائفة السنية من امتيازات رئيس الحكومة، أو حصة الشيعة من امتيازات رئيس البرلمان؟ لقد دلت التجربة العملية على أن الامتيازات، إن وجدت، لا تعود على غير أصحاب السلطة، بأشخاصهم وحاشياتهم وأزلامهم، ولا تتوزع “إلا بمقدار ما تنداح دائرة في لجة الماء يلقى فيه بالحجر”( بيت الشعر لابن الرومي). ما إن تبدأ الدوائر حتى تتلاشى. بيد أنها حصص يستولي عليها أشخاص باسم الطوائف، بعد أن يضللوا أبناء طوائفهم ويستخدموا انتماءهم إلى الطائفة ويستثمروه ليستأثروا بالنفوذ وبالثروة.
الشعور بالانتماء إلى دين أو طائفة أو مذهب هو أمر طبيعي، وهو قد يكون فردياً أو جماعياً، أما إزاحته من الحقل النفسي أوالثقافي إلى الحقل السياسي وتحويله نعتا للنظام فهذا ما يتنافى مع طبيعة نظامنا الدستوري والديمقراطي( نظرياً) الذي لا تنص قوانينه على دين للدولة. إذن ماذا يستهدف اقتراح إلغاء الطائفية السياسية غير تهييج المحاصصين؟ وبأي سلاح سيقاتل المحاصصون؟ سلاح المشاعر الطائفية هو الأمضى، والعلمانيون يخسرون المعركة قبل الدخول إلى الحلبة.
مفاعيل التشخيص المغلوط لا تقتصر، إذن، على فشله في حل المشكلة بل هو يزيدها تعقيداً، فضلا عن أن الخصوم ينفذون منه للقيام بهجموم مضاد. هذا هو بالضبط ما حصل مع القوى العلمانية التي قصدت محاربة الطائفية فلم تنل من ذلك غيراستعداء الطوائف ودفعها إلى التحلق حول القيادات الأكثر إثارة للعصبيات والأكثر استفادة منها، ما أسهم في ترسيخ أكثر السلبيات خطورة في النظام، أي الوراثة والمحاصصة في مرحلة السلم، والميليشيات المسلحة في الحرب.
السلطة والمعارضة يتقاسمان المسؤولية إذن عن استخدامهما العنف سبيلا لتحقيق هدف سياسي، وبالتالي عن كل الكوارث التي حلت بالدولة بفعل الحرب، وعلى كل منهما أن يراجع تجربته ويقوم بقراءة نقدية لتجربة الحرب الأهلية ليعرف حجم حصته من عملية التدمير المنهجي التي طالت الدستور والقضاء والمؤسسات وسيادة القانون والقيم والانتماء الوطني.
أول الكوارث التي اقترفتها القوى السياسية الحاكمة والمعارضة بحق الدولة هي تهديدها السيادة الوطنية. قبل الحرب وزعت القوى الحاكمة السيادة إلى سيادات، فمنحت كل زعيم طائفي حصة منها أو منطقة أو بعض منطقة، طائفة أو بعض طائفة، وحين أتت الحرب تسابق الجميع على استدراج الخارج والاستعانة به ضد الدولة والسيادة الوطنية، أهل السلطة جميعهم مع سوريا، وبعضهم مع إسرائيل، واليسار مع الفلسطينيين، والشيعية السياسية مع إيران.
كانت هذه أم الكوارث، والمأساة فيها أنها لم تشكل درساً كافياً يتعلم منه اللبنانيون الحفاظ على وطنهم. قد تكون قوى السلطة أكثر حكمة من قوى المعارضة على هذا الصعيد. السلطة الرسمية شرعت، مرغمة، للسلاح غير الشرعي على الأرض اللبنانية، بفعل الضغوط العربية أولاً، وجرياً على عادتها بتوزيع السيادة حصصاً فكانت للثورة الفلسطينية حصتها بموجب اتفاق القاهرة. أما المعارضة اليسارية والقومية فلم تهلل فحسب، بل كانت تحتفل ابتهاجاً كلما أقفل النظام السوري بوابة المصنع على الحدود بين البلدين للضغط على الحكومة اللبنانية ومطالبتها بالتنازل عن سيادة الدولة لصالح منظمة الصاعقة والمنظمات الفلسطينية الأخرى. وقد فتح التجرؤ على السيادة الباب على كل أنواع الانتهاكات للدستور والقوانين ولهيبة الدولة ولكل الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، إلى أن كان الانتهاك الأكبر بتشريع الحدود أمام كل راغب وطامح وطامع.
من باب التعرض للسيادة بدأ انتهاك القانون. في أول الحرب ألغت الميليشيات المسلحة قداسة الملكية، وسعى بعضها (قوات زاهر الخطيب) إلى إلغاء صكوك الملكية، يوم أقدمت مجموعة تابعة له على إحراق مستودعات الدوائر العقارية، بعد أن كانت جميعها قد سعت إلى الاستيلاء على ودائع البنوك في قلب العاصمة، عند بداية الحرب الأهلية، لأن مصادرتها، في نظر المصادرين، حق مشروع للمجهود الحربي ولتمويل الثورة. ثم أخذت الأمور تتردى، ولا سيما حين نفدت مصادر التمويل العربية، فاستعاضت الميليشيات عنها بما سمي “التشبيح” أي استيلاء أفرادها بالقوة على الأملاك الخاصة المنقولة وغير المنقولة من شقق وبساتين وسيارات تحت ذريعة تمويل الثورة، إلى أن بلغت هذه الحالة ذروة في الجبايات المالية، التي فرضتها الميليشيات على السلع ولا سيما النفط، وخصوصاً بعد تعطيل مصفاتي النفط في الزهراني وطرابلس، فتولت حركة أمل إدارة الأولى، على أساس أن التمويل على الحكومة والجباية والإيرادات لصندوق حركة أمل. حتى حين عادت مؤسسات الدولة إلى العمل بعد الطائف، تمكنت الميليشيات من انتزاع الحق الحصري في تجارة البترول من الدولة وتوزعته في ما بينها برعاية سورية مباشرة، إلى أن أملي على المجلس النيابي تشريع الأمر الواقع بسن القوانين.
لم تتوقف الجباية المالية عند هذا الحد. فقد نظمت الميليشيات جباياتها بديلاً من الدولة في الأدارة المدنية في الجبل (الحزب الاشتراكي) وفي صيدا( التنظيم الشعبي الناصري)، وكلفت حواجز مسلحة للقيام بهذه المهمة. أما في الجنوب فقد نظم التنظيم الشعبي الناصري وحركة أمل الجباية في الدوائر العقارية بفرضهما رسوماً على العقارات المباعة من مسيحيين قيمتها عشرون بالمئة (ربما تطبيقا لماً ورد في إحدى آيات القرآن الكريم: ومما غنمتم فلله خمسه وللرسول …أو ربما كانت صيغة من الجزية، من يدري؟) أما في المنطقة الشرقية من بيروت فقد استولت القوات اللبنانية على الحوض الخمس وجعلته مصدر تمويلها الأساسي.
الأخطر من ذلك هو أن الميليشيات بعد توقف الحرب واتفاق الطائف، انتقلت من الشارع إلى السلطة، حاملة معها نهجها وآليات عملها، فارضة على الحكومة توزيع المال العام، من خلال الصناديق، على الأزلام والمحاسيب، بدل توظيفه لتوفير فرص عمل في مشاريع استثمارية، كما حولت الجباية المالية” التشبيحية” إلى جباية “رضائية” من خلال التمويل الطوعي في حملات تبرع في بلدان الاغتراب أو بهبات مباشرة تقدمها برجوازيات الطوائف لزعمائها، مقابل خدمات وصفقات يؤمنها لهم مسؤولو ميليشيات السلطة على حساب المالية العامة في التزامات وتعهدات ومشاريع تمولها الدولة.
إن البرجوازية اللبنانية التي اعتمدت نهج التمويل الطوعي للميليشيات وزعمائها والتي ورثت التخلي عن لعب دور سياسي لصالح العائلات وحكمها الوراثي، لم تعد تملك غير الصراخ كلما تعرض الاقتصاد الوطني للخطر بفعل السياسات الميليشوية، فتعقد المؤتمرات وترفع الصوت احتجاجاً. غير أن الصراخ صار بلا صدى بعد أن حولته الميليشيات مع التشبيح والتبرع الطوعي إلى سلوك يومي عادي وجعلته جزءاً من التقاليد السياسة اللبنانية “الخالدة”.
انتهاك القوانين المالية لم يبدأ مع الحرب، ولا هي التي صنعته أو تسببت به، بل هي التي أطلقت له العنان وأزالت من طريقه كل العراقيل والقيود. قبلها كان القانون هو القاعدة وضوابطه محكمة وانتهاكه الاستثناء. خلال الحرب وما بعدها صار الالتزام به هو الاستثناء، وشكل التطاول عليه حافزاً للتطاول على كل القوانين، من قانون السير إلى قانون الضريبة وقانون الأملاك المبنية وقانون الأملاك العامة والأملاك البحرية والنهرية وعلى رأسها القوانين والمراسيم الاشتراعية المتعلقة بالوظيفة العامة.
انتهاك السيادة هو اعتداء على الدولة. لأن الدولة هي التي تجسد السيادة، والسيادة ليست شيئاً آخر غير سيادة القانون. قبل انفجار الصراع المسلح كانت حرب غير مسلحة على الدستور الذي يجعل رئيس الجمهورية حاكماً لا يخضع للمحاسبة، بينما يحاسب رئيس الحكومة ولا يحكم(منطق اليسار والسنية السياسية). مع الحرب الأهلية طالبت المعارضة بتعديل الدستور، وتم تعديله فعلاً في اتفاق الطائف، استجابة لرغبة السنية السياسية وللمعارضة اليسارية القومية، إلا أن التطبيق العملي اقتصر على انتزاع بعض صلاحيات رئيس الجمهوية، ومنها تسمية رئيس للوزراء وأناط المهمة بالمجلس النيابي. في ظل قانون انتخاب رسمته أجهزة المخابرات السورية على مقاس حاجتها في ضبط الوضع اللبناني، صار اختيار رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة وتسمية نواب الأمة أمراً محصوراً بمن يدير دفة الحكم من وراء الستار، أي بنظام الوصاية خلال وجوده، ثم بموازين القوى المحلية والاقليمية والدولية بعد انسحابه، ما يعني تعطيل المواد الدستورية المتعلقة بانتخاب السلطات السياسية في البلاد. طريقة مبتكرة لتعليق الدستور.
تابعت الطبقة الحاكمة جعل النظام اللبناني صورة طبق الأصل عن النظام الأمني السوري الذي تنتفي فيه الحاجة إلى الدستور والقوانين. لذلك كان أول تعديل تم تطبيقه بعد الطائف هو إلغاء الفصل بين السلطات. كان للبنان رئيس فصار له بعد التعديلات ثلاثة رؤساء، وغدت عبارة “الرؤساء الثلاثة” في رأس كل البيانات ونشرات الأخبار، وصار الثلاثة محجة للزائرين الأجانب والسفراء وممثلي الدول ووزراء خارجيتها للتشاور وتبادل الآراء، وبات رئيس المجلس النيابي يقوم بدور وزير الخارجية، بعد أن اقتضت المحاصصة أن تكون وزارة الخارجية من حصة الشيعة (كتعويض عن وزارة المالية التي طالبت بها الشيعية السياسية). في المقابل أخذ النظام السوري والرئيس الشيعي على الرئيس السني رفيق الحريري أنه استولى على دور وزير الخارجية بحكم علاقاته الواسعة النطاق مع شخصيات عالمية في الحكم وخارجه، وتحول الأمر إلى منازعات دائمة تنتهي بتسويات مالية في مجلس الجنوب.
في مرحلة ما بعد الطائف، لم يقتصر الأمر على بدعة ثلاثة رؤساء متساوين بالمرتبة (الثلاثة هم رؤساء) بل أخذت المحاصصة مداها، فكان لكل رئيس وزراؤه ونوابه وموظفوه في الإدارة العامة والجيش وقوى الأمن، وصار لكل زعيم منطقة بوسع محافظة أو اثنتين كما هي الحال مع نبيه بري أو نصف محافظة كما هي الحال مع وليد جنبلاط أو القضاء كما هي الحال مع سليمان فرنجية، وصار كل زعيم، في منطقته، يمثل جميع السلطات، فتحولت إقامة رئيس الجمهورية في القصر الصيفي في بيت الدين لينحصر معناها في حسن الضيافة الدرزية. وصار الرئيس بري هو الذي يستقبل رئيس الجمهورية في الجنوب ويتأهل به بصفته زائراً منطقة تخص سواه، وهو الذي يرعى تدشين المشاريع الحكومية، مصادراً دور السلطة التنفيذية برئيسها ووزرائها، أيا تكن طبيعة المشروع ووزارته المختصة، مدارس وطرقات وجسوراً وآباراً ارتوازية وغيرها، وصار رئيس الحكومة يبرق لقائد الجيش معزياً بشهيد من الجيش اللبناني، وكأنه يقوم بواجب التعزية كأي غريب أو أجنبي أو زائر أو جار.
قضى نظام المحاصصة على الأسس الديمقراطية التي قام عليها النظام اللبناني والتي اعتمدتها الدولة في آليات عملها. فلم يعد مجلس النواب مصدر التشريع ولا مجلس الوزراء هو السلطة التنفيذية، بل توزعت بعض الصلاحيات على المحاصصين، وحلت الترويكا( الرؤساء الثلاثة) محل الهيئات التي يرئسونها، فيتفقون على القرارات قبل إصدارها في المجلس النيابي أو في مجلس الوزراء، وإن لم يتفقوا كان عليهم أن يعودوا إلى نظام الوصاية ليلعب بينهم لعبة “فرق تسد”، ولهذا كانت طريق بيروت دمشق مفتوحة بشكل يومي أمام المسؤولين اللبنانيين على كل المستويات، للاستشارة أو للشكوى أو لإيصال التقارير التي تفيض عن مسؤولية رئيس جهاز المخابرات في عنجر(مقر رئيس الجهاز).
لم تقتصر مفاعيل المحاصصة والترويكا على طريقة إدارة الحكم في لبنان، بل تعدت ذلك إلى تخريب منظومة القيم السياسية والأخلاقية، فلم يعد السياسي اللبناني، الملزم بتقديم تقرير عن نشاطه إلى ضابط صغير في جهاز المخابرات، موضع احترام، ولم تعد السياسة مهمة سامية، وفقدت بريقها وهبط مستواها حين تحول كثير من السياسيين إلى سماسرة لدى ضباط الجيش السوري، بل إلى أدوات رخيصة مهمتها كتابة التقارير وتدبير المكائد والصفقات، والتنافس على نيل رضى نظام الوصاية بكل الوسائل المتاحة ومنها الرشاوى المسروقة من المال العام أو من تبييض الأموال في البنوك. فقد ندر وجود رجال الدولة وغلبت أعداد رجال السياسة الذين وصفهم أحد المحنكين بأنهم ليسوا” أبناء كار”، أي ليسوا من طينة رجال الدولة الذين عرفهم لبنان الاستقلال، ومع كل جيل من الخلف صار اللبنانيون يترحمون على جيل السلف. فالاقطاع السياسي كان يبيع الأرض ليمارس السلطة، بينما صارت السلطة مورداً مالياً لسياسيي الحرب الأهلية. وإذا كانت هذه حال السياسي فكيف ستكون حال الحاشية والأزلام؟
حضيض الانحدار تجلى في اللغة السياسية. لقد بات المشهد السياسي سورياليا، بل “زقاقياً” في لغة من ليسوا “أولاد كار”، أي الذين دخلوا عالم السياسة من باب قيم ميليشيوية لا تعترف بأي قانون، حتى القانون الأخلاقي، فيصير من السهل عليهم أن يجاهروا بخلافاتهم وبخصوماتهم داخل السلطة التنفيذية والمؤسسات التمثيلية، وعلى الملأ، بغير اللغة الدبلوماسية التي تمنع انتقال الخلاف إلى الشارع، وتحول دون انقسام شعبي مواز، بل هم لا يتورعون عن صب الزيت على نار الفتنة عبر وسائل الاعلام فيستخدمون لغة مبتذلة، لغة التحريض والسباب والشتيمة والنميمة، ويتراشقون بالتهم والكلام البذيء والسوقي من على شاشات التلفزة، وينساقون وراء عواطف الجمهور ولغته ويسقطون في فخ الهيجان الطائفي والمذهبي والمناطقي. وأغلب الظن أن تلك اللغة التي شاعت في العقدين الأخيرين هي تلك التي كان يخاطبهم بها ضباط الأجهزة.
الركن الأساس في قيام دولة القانون والمؤسسات هو القضاء. فهو ليس واحدة من المؤسسات، بل سلطة من سلطات الدولة الثلاث، إلى جانب التشريعية (البرلمان) والتنفيذية( الحكومة)، وهي كلها صاحبة الحق باتخاذ القرار، كل ضمن صلاحياته واختصاصه، في الشؤون المتعلقة بإدارة المجتمع والدولة. يضاف إليها اليوم رابعة هي الإعلام وخامسة هي المجتمع المدني، لكن صلاحية كل منهما تقف عند حدود الضغط المعنوي، دون حق المشاركة في اتخاذ القرار.
عاهة كبرى كان يشكو منها القضاء قبل الحرب، هي مخالفته مادة في الدستور تنص على أن اللبنانيين واللبنانيات متساوون أمام القانون، في حين كانت المحاصصة تقتضي أن يكون رئيس القضاة في لبنان مارونياً . أصل العاهة سياسي، وما يخفف من وطأتها أن القضاء كما سائر مؤسسات الدولة كان يعتمد معيار الكفاءة، مكتفياً به، جاعلاً تكافؤ الفرص محصوراً داخل أبناء الطائفة الواحدة، فيما كانت السياسة تضيف معيار الولاء، ما يجعل القاضي مديناً بالفضل لمنّة صاحب الفضل. مع ذلك ظلت صورة القضاء نقية إلى حد كبير، وبرعت أسماء كثيرة في فقه القانون وكان لبنان ثاني الدول العربية، بعد مصر، في سمعته العالمية واحترامه هذه السلطة التي تشكل ضمانة للعدالة في النظام الديمقراطي الذي يحتكم الناس فيه لفض خلافاتهم إليها، بدل اللجوء إلى العنف ، وخصوصاً إلى العنف المسلح.
الحرب الأهلية هي العنف المسلح في أبشع صوره. ضحيتها الأولى عدالة القضاء، لأنها تعبير عن خيار لا يعترف بالقضاء سلطة ولا مرجعاً. مع ذلك حصلت المساومة خلال الحرب الأهلية 1975-1990 فظلت المحاكم اللبنانية تقوم بعملها وتطبق القانون على من كانوا ما يزالون يعترفون به ويخضعون لأحكامه، في المجالين المدني والجزائي، ضمن القضايا المتعلقة بالملكية والاحوال الشخصية وقانون العمل والجرائم العادية وسوها، وكانت تحفظ القضايا والدعاوى المتعلقة بالحرب أو بذوي النفوذ العسكري من اللبنانيين والأجانب (السوريون والفلسطينيون على نحو خاص) في تلك المرحلة.
مع اتفاق الطائف و نهاية الحرب الأهلية، بدا كأن النظام السوري يريد إحكام قبضته، مستفيدا من مباركة دولية استحصل عليها بعد مشاركته في حرب الخليج الأولى، فعمل على استنساخ نظامه المخابراتي الاستبدادي، بإلغائه الأركان التي يقوم عليها النظام البرلماني الديمقراطي في لبنان. فهو الذي ابتدع صيغة “الترويكا”، وهو الذي اختار أسماء النواب المعينين لاستكمال العدد قبل أول انتخابات، وهو الذي اختار المرشحين لأول انتخابات نيابية أو، على الأقل، بارك تشكيل اللوائح بعد أن أشرف على تعديل قانون الانتخاب. إذن من شروط الاستنساخ، إلغاء القانون والمؤسسات من دولة القانون والمؤسسات، والبديل الوحيد هو حكم الأجهزة.
حكمت الأجهزة، من وراء الستار حيناً وفي العلن أحياناً أخرى، المؤسسات الكبرى، رئاسة الجمهورية، المجلس النيابي والحكومة، ومن يخالف الأوامر يلق المصير المحتوم، على الأقل الاستبعاد من نعيم السلطة، هذا ما حصل مع النائب البعثي عبدالله الأمين في الجنوب، والنائب من الحزب السوري القومي الاجتماعي حسن عز الدين عن عكار، والنائب عن البقاع يحي شمص، ومع الكثيرين ممن استبعدت أسماؤهم من لوائح الترشيح إلى المجلس النيابي أو إلى مجلس الوزراء، وجعلت بعض المخالفين عبرة لمن اعتبر. إلا القضاء الذي كان لا يزال مستعصياً ومحافظاً، إلى حد كبير، على مهابة القانون، فكان لا بد من تطويعه بكل السبل المتاحة بالترهيب والترغيب وخلخلة الأسس والمعايير التي يتم اختيار القضاة استناداً إليها، فكانت فرصة سانحة استفاد منها النظام الأمني اللبناني السوري، تمثلت في الحادثة الفاجعة التي تم فيها اغتيال القضاة الأربعة وهم على قوس المحكمة في صيدا، فتم توظيفها في إرهاب القضاء بطريقة غير مسبوقة، على طريقة المثل القائل، انج سعد فقد هلك سعيد.
لأول مرة في تاريخ الجمهورية اللبنانية تصبح نزاهة القضاء، كسلطة مستقلة، موضع شك، لما لحقه من أذى بسبب تدخل السياسيين في شؤونه. وبديلاً من أن تكون الأجهزة الأمنية أداة تنفيذية بيده، حصل العكس، فعملت الأجهزة على تحويله أداة في يدها، وراحت تدبر المكائد وتزور الملفات ضد كل من يخالف أوامرها ولا يستجيب لطلباتها(الدعوى ضد يحي شمص أو سمير جعجع). أحد أشكال التدخل الذي مارسته السلطة السياسية، أو من يحكم باسمها من الأجهزة، تعطيل التشكيلات القضائية، إذا لم تكن متوافقة مع مصالحها، وذروة التدخل حصل في المحكمة العسكرية التي برأت مجرمين وأدانت أبرياء، بناء لرغبة أصحاب النفوذ السياسي والعسكري من الأجهزة والميليشيات المسلحة(قضية العميد فايز كرم نموذجاً)
نظام الوصاية كان ينفذ بالجملة تاركاً للقوى السياسية اللبنانية التنفيذ بالمفرق، أو هو كان يقصف بالمدفعية ويدفع اللبنانيين إلى متابعة التمشيط في جيش المشاة. فقد كان لسياسة الترهيب أثرها على بعض القضاة الذين، لأسباب شتى منها الخوف، ولا سيما إثر تهديدات تعرضوا لها بعد اغتيال رفيق الحريري، عادوا إلى مرجعياتهم الحزبية، ليحتموا بها بدل أن يكون القانون هو الحماية للجميع، بمن فيهم القضاة أنفسهم، وكأنهم استدرجوا أنفسهم إلى حضن العقلية الميليشيوية واختاروا أساليبها المافياوية بديلاً من القانون، فأسيئت سمعة القضاء على يد البعض، ولم تتردد هيئة التأديب القضائية في فصل بعضهم من السلك، ولا قصرت وسائل الاعلام في التعرض للقضاء في حملة قاسية لتحصينه ضد كل أنواع التدخل السياسي.
آخر “المبتكرات” في تخريب القضاء وضعه على السوية ذاتها من الفساد مع الإدارة العامة، والتعامل معه كأنه وظيفة من وظائف الدولة لا سلطة من سلطاتها. ففي آخر مباريات أجريت للدخول إلى معهد القضاء(2015) نجح بضعة وثلاثون مرشحاً ورسب آخرون. غير أن المتنفذين في السلطة السياسية وافقوا على قبول خمسة من الراسبين في عداد طلاب المعهد بصفة “مستمعين”، تطبيقا لمادة منسية من مواد القانون، شاء المحاصصون أن يطبقوها للمرة الأولى منذ صدوره في المرحلة الشهابية، أي في الستينات من القرن الماضي.
الضحية الثانية للحرب الأهلية هي مستوى التعليم. لم تكن الميليشيات المسلحة في حاجة إلى مساعدة خارجية لتدمر التعليم الرسمي والجامعي، فقد كان يكفيها أنها، في بداية الحرب، وزعت الجامعة على فروع في المناطق الموزعة أصلا بين الطوائف والميليشيات المسلحة، لكي يتدنى مستوى التعليم الجامعي بداية ثم الثانوي كنتيجة لتدني الأول.
التعليم الرسمي، ولا سيما في المرحلة الثانوية، والتعليم الجامعي الرسمي، أي الجامعة اللبنانية كانا، حتى بداية الحرب، يخرجان طلاباً على مستوى عال من الكفاءة. تشهد على ذلك جامعات أوروبية كانت تستقبلهم لمتابعة تخصصهم العالي. رغم تقسيم الجامعة وتفريعها، استطاع الرعيل الأول من أساتذتها وخريجيها أن يحافظ على مستوى التعليم العالي، إلى أن صار العقل الميليشيوي هو المتحكم بمفاصل الدولة، فارتفع ملاك أساتذة الجامعة اللبنانية، بين عامي 1987 و1991 من حوالي المئة إلى حوالي الألفين، ثم أخذ يتضاعف العدد وينحدر المستوى، ما انعكس على التعليم الثانوي، وبالتالي على الطلاب الجامعيين، وغدا التدهور يتوالد ويتناسل ويتعمم على كل التعليم من الابتدائي حتى الجامعي.
تضم الجامعة اليوم عدة آلاف من الأساتذة، لم يقدم معظمهم بحثاً علمياً واحداً، ولم يصدر كتاباً واحداً، ولم يكتب مقالة صحافية واحدة، مكتفياً من التحصيل العلمي برسالته الجامعية التي انحدر مستواها هي الأخرى، حتى لو كانت صادرة عن جامعات أجنبية وفي بلدان أجنبية. أما التعيينات الإدارية التي صدرت عام 2015 فلم يكن جميع المعينين مستوفين الشروط الأكاديمية، بل تم اختيارهم بناء على معايير المحاصصة الميليشيوية.
بلغت الجامعة اللبنانية ذروة تألقها الأكاديمي عندما بدأت الحرب، ومن بين من تخرج منها قياديون لعبوا دوراً أساسياً في الحرب الأهلية. وحين تفرعت إلى خمس عام 1977، صارت الفروع مراكز نشاط للميليشيات المحلية، وتحولت نشاطات الطلاب السياسية إلى روافد للتجنيد، فضلاً عن انتقال الحرب الأهلية إلى داخلها بين التنظيمات السياسية المتنافسة والمتناحرة، فصار يقل فيها العلم شيئاً فشيئاً وتختفي الاهتمامات الاكاديمية والبحثية لتنمو، في المقابل، أنشطة سياسية وحزبية، وغدا التركيب الاجتماعي والسياسي في كل فرع على صورة المنطقة التي يوجد فيها، خليطاً إسلامياً في بيروت بغلبة من الشيعية السياسية على معظم الكليات، وأغلبية شيعية في الجنوب مع هيمنة للشيعية السياسية، أغلبية مسيحية كاسحة في الفروع الثانية، وخليط اسلامي مسيحي في الشمال والبقاع. غير أن نشاط التنظيمات المسيحية ظل محصورا في الفروع الثانية، فيما تحولت الفروع الأخرى إلى ما يشبه المساجد، وانتشرت فيها المصليات، وطليت جدرانها ولوحات إعلاناتها بإعلام حزبي فاقع، وغدت منتدياتها الثقافية وقاعاتها منصات دينية، واستبدل الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية بلجان حزبية تعكس موازين القوى المحلية. أما رابطة الاساتذة المتفرغين فيها فقد تدجنت مع الوقت لتصير صورة مصغرة عن الطبقة الحاكمة المتحاصصة في أعلى هرم السلطة.
في التعليم الرسمي الأساسي والثانوي، تراجع مستوى المدرسة الرسمية تراجعاً دراماتيكياً، كما ونوعاً. فقد أقفلت مدارس عديدة إضافة إلى أخرى مهددة بالاقفال، بسبب التناقص المتسارع في عدد الطلاب، وتم توزيع المدرسين على المدارس بصورة عشوائية، من غير أن تراعى اختصاصاتهم، وتكدست أعداد منهم في مدارس لا طلاب فيها، وصار يتم التعاقد مع مدرسين جدد، رغم وجود عدد منهم يفيض عن حاجة المدرسة.
إذا كانت آثار تدمير الدولة لا تظهر واضحة في قطاع التعليم، فهي ساطعة الوضوح في الإدارة العامة. تشير إحصاءات” استراتيجية تنمية الإدارة العامة وتطويرها في لبنان”(2015)، إلى أن نسبة الشغور في ملاك موظفي الإدارات العامة اللبنانية وصلت إلى 70%. إذ بلغ العدد الاجمالي للمراكز الشاغرة 15344 ، في كل الفئات ولا سيما الفئتين الثانية والثالثة، من أصل22029 وظيفة ملحوظة في الملاك الإداري العام، أي أن الوظائف المشغولة لا تتعدى 6685 وظيفة.
اللبنات الأولى للدولة “النظرية” وضعتها أول حكومة تشكلت في عهد فؤاد شهاب، في خريف عام 1958، بإصدارها مراسيم تنظيمية بهدف تحويل الدولة إلى دولة مؤسسات. فبالإضافة إلى المؤسسات السياسية، رئاسة الجمهوية، مجلس الوزراء، المجلس النيابي، أنشأت الحكومة مؤسسات إدارية، سميت مؤسسات الرقابة على عمل الإدارة، وتمثلت بمجلس الخدمة المدنية، الذي يشرف على تعيين الموظفين ويتابع شؤونهم، وهيئة التفتيش المركزي بفروعها المتعددة، المالي والإداري والهندسي والتربوي، وديوان المحاسبة، ومجلس التأديب العام.
تشكلت الحكومة الرباعية من رشيد كرامي رئيساً ووزيراً للمالية والاقتصاد الوطني والدفاع الوطني والأنباء، وحسين العويني وزيرأ للخارجية والمغتربين والتصميم العام والعدلية، وبيار الجميل وزيراً للأشغال العامة والتربية الوطنية والصحة والزراعة، وريمون إده وزيراً للداخلية والشؤون الاجتماعية والبرق والبريد والهاتف. سنيان ومارونيان، في حكومتهم، وخلال شهرين، من نيسان إلى حزيران 1959 تم إقرار المراسيم الاشتراعية التي أعادت بناء الدولة لتكون قريبة من الدولة “النظرية”.
الحقيقة الأولى التي تؤكدها هذه الواقعة تتمثل في أن حكومة مؤلفة من ممثلي طائفتين من أصل 18 طائفة أمكن لها أن تبني “صيغة للعيش المشترك” وأن تحافظ عليها، ما يعني أن مثل هذه الصيغة لا تبنى بتمثيل الطوائف بل بالقانون. والحقيقة الثانية هي أنها تفضح كل الادعاءات التي يطلقها سياسيو اليوم( 2015) حول حقوق الطوائف، ومتاجرتهم بميثاق العيش المشترك والتعايش الطائفي، وتؤكد أن الفارق كبير جداً بين رجل الدولة ورجل السياسة، وبين السياسي ذي الأفق الوطني والآخر المحاصص الرخيص.
عمرت هذه الحكومة عاماً كاملاً من 17-10-1958 إلى 7-10-1959 ليعاد تشكيلها، بعد استقالة الوزير ريمون إده، ويضم إلى صفوفها كل من موريس زوين( بديلاً من الوزير المستقيل) وفؤاد نجار الدرزي، وعلي بزي الشيعي، وفؤاد بطرس الأرثوذكسي، وفيليب تقلا الكاثوليكي.
بدأ تدمير ما بناه فؤاد شهاب في وقت مبكر، مع أول حكومة تشكلت برئاسة صائب سلام في عهد سليمان فرنجية في عام 1970، إثر حملة شنها الحلف الثلاثي ضد الشهابية، بذريعة محاربة العمل المخابراتي وتعزيز الديمقراطية. غير أن تلك الحملة أصابت أول ما أصابت، ليس عاهات الشهابية متمثلة بحكم المكتب الثاني( مخابرات الجيش) بل إنجازاتها متمثلة بمؤسسات الدولة، وكأن ذلك جاء ليؤكد صحة موقف الرئيس شهاب من الطبقة السياسية الحاكمة وعدم ثقته بها، وليؤكد أيضاً أن التعديلات التي أجراها على قانون الانتخاب لم تكن كافية لتجديد النخب الحاكمة التي تمكنت من التجديد لنفسها وحالت دون تداول السلطة بالمعنى الديمقراطي للكلمة لا بالمعنى التحاصصي، كما جاء تعبيراً عن رغبة بالتراجع عن مشروع الدولة (دولة القانون والمؤسسات) والعودة إلى ما قبلها، وتمهيداً لتخريبها، وتحضيراً لانفجار الحرب الأهلية.
يرى الخبراء الحريصون على الدولة ومؤسساتها أن الإدارة ظلت بخير ويمكن أن تظل ما دامت في منأى عن التدخل السياسي، أي إن استمرت تعمل وفقاً لمعايير القانون، والدليل على ذلك أن إدارات الدولة ما زالت تعمل(2015)، وإن بتعثر، في ظل الشغور في موقع رئاسة الجمهورية وتعطل مجلسي النواب والوزراء. القانون هو ضمانة استمرار العمل في مؤسسات الدولة. حيث ينتهك القانون يتعطل عمل الدولة. ويستدل على ذلك بحالة مماثلة حصلت في بلجيكا التي استمرت من غير حكومة لأكثر من عامين، من غير أن يربك ذلك عمل الدولة. القانون هو الشرط الضروري والأول لعمل الدولة، أما الحكومة فهي ليست سوى مؤسسة من مؤسساتها.
لكن إدارات الدولة ظلت تعمل ببقايا القانون، بعد أن تغلغل العقل الميليشوي إلى مفاصله وانتهك حرمته وحرمة الدستور والدولة ، وعطل عمل المؤسسات، وتجليات ذلك كثيرة.
الرغبة بالاصلاح أدت عكس مقاصدها. والسبب بسيط جداً. لقد دار النقاش بين قوى السلطة والمعارضة، قبل الحرب، وتمحور حول البحث عن حلول طائفية للظاهرة الطائفية، فبدا إقرار الاصلاحات المقترحة في مؤتمر الطائف كأنه هزيمة للمسيحيين لا للمارونية السياسية، وانتصار للسنية السياسية لا للحركة الوطنية اليسارية، فتجلى ذلك بحالة من الاستسلام والاحباط ، وانعكس بنوع من اللامبالاة لدى المسيحيين تجاه الوظيفة العامة في الإدارة وفي السلك العسكري، جيشاً وقوى أمنية.
تقول إحصاءات إحدى المؤسسات المسيحية( لابورا) على لسان رئيسها الأب طوني خضره، أن اتفاق الطائف خفض نسبة المسيحيين في الوظيفة العام. ولولا جهود بذلت لما ارتفعت النسبة مجدداً. ففي عام 1990 كانت النسبة 48%، ثم صارت سنة 2008 ، 14%، لتعود سنة 2014 إلى 29% ثم إلى 34%.
بدأت المارونية السياسية( الحلف الثلاثي) بتدمير المؤسسات ثم استكملت المهمة ميليشيات الحرب، لتبلغ عملية التدمير ذروتها في فترة الوصاية السورية. لقد ظلت هيئات الرقابة تعمل، من غير أن تكون قراراتها ملزمة. صارت الحكومة تلتف على أحكام مجلس شورى الدولة، وتعمل خلافاً لقرارات مجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة، وتسعى إلى تجاوز قرارات هيئة التفتيش المركزي ومجلس التأديب، أي المحكمة الإدارية الخاصة بالموظفين.
بلغت حال الإدارة حداً مأساوياً، لأن نظام الوصاية عمل على “تعليق” الدستور تعليقاً عملياً من غير إعلان ومن دون بيان رقم واحد. بعد تدمير المؤسسات الكبرى(رئاسة الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء) صار تخريب المؤسسات الأخرى أقل كلفة. إذ بات ممكناً، على سبيل المثل، تعيين رئيس لهيئة التفتيش المركزي لا تنطبق عليه المواصفات الواردة في القانون. ( ف. ه. حائز على شهادة في العلوم اجتماعية لا في الحقوق؛ ر. ص. عين برتبة رئيس دائرة من خارج الآليات المتبعة في مجلس الخدمة المدنية ثم عين بعدها مديراً عاماً في إحدى الوزارات).
في غياب القانون والمحاسبة والمعاقبة، يصبح كل شيء مباحاً ومبرراً. أعمال هيئة التفتيش المركزي علقت بسبب خلاف شخصي بين عضوين فيها، لكل منهما مرجعه السياسي- الميليشوي، بديلاً عن احتكامهما إلى القانون. ديوان المحاسبة يعاني من شغور يصل إلى حد النصف من ملاكه، قضاة ومراقبين، وذلك بسبب خلاف على المحاصصة، ومن توقفه عن وضع تقاريره السنوية. مجلس الخدمة المدنية اقتصرت صلاحياته على تنظيم المباريات وإعلان النتائج مع الحفاظ على مستوى عال من النزاهة واحترام الكفاءة، غير أن السلطة السياسية لم تعمل بموجب القرارات الصادرة عنه، بل بموجب منطق المحاصصة إياه، الذي يطيح بالكفاءة ويوكل الوظائف بالإنابة لغير الناجحين في المباريات، ممن يدينون بالولاء للزعيم ويرفعون صورته فوق مكاتبهم بديلا من صورة رئيس الجمهورية.
بعد القرار الحكومي بوقف التوظيف في الإدارة العامة، عمد الوزراء إلى التحايل على القرار باللجوء إلى أسلوب التعاقد مع أشخاص من غير استشارة مجلس الخدمة المدنية، حتى لو كانت الإدارة المختصة في غير حاجة إلى موظفين جدد. حصل ذلك في كل الوزارات والمؤسسات تقريباً، ولا سيما في الإعلام حيث تم التعاقد مع “متعاملين”، (تتعامل الوزارة معهم للحصول على أخبار)، من غير الالتزام بأدنى معايير الكفاءة، حتى أن بعضهم كانت تنطبق عليه معايير الأمية الموصوفة، أي أنه لم يكن يجيد القراءة والكتابة؛ وفي مؤسسة الكهرباء، وفي التعليم الابتدائي والثانوي. في وزارة الاتصالات بلغ الشغور 95%. من أصل 1700 موظف، 70 منهم فقط كانوا يمارسون عملهم، والوزارة ضائعة بين قرار عدم التوظيف وقرار تشكيل الهيئة العامة للاتصالات، أوجيرو، بين أن تكون وزارة الاتصالات إدارة عامة أو مؤسسة عامة أو شركة خاصة.
بعد مضي عام على التعاقد، كان يلجأ المتعاقدون إلى الاضراب مطالبين بتثبيتهم في ملاك الدولة، فتنصاع السلطة الميليشيوية لضغطهم وتجري لهم امتحانات “محصورة”، بإشراف مجلس الخدمة المدنية، ثم يعين الناجحون في ملاك الوزارة، وينتظر الراسبون عاماً آخر ليعلنوا الاضراب مطالبين بتعيينهم أسوة بالناجحين من زملائهم. أما الذين لا يخضعون لامتحان التأهل للوظيفه فيتم توزيعهم على إدارات الدولة، من غير أن تكون ثمة حاجة إليهم. لقد كانت هذه الآلية في اختيار الموظفين بمثابة رصاصة الرحمة على عمل الإدارة، لأنها قضت على خط الدفاع الأخير المتمثل بالكفاءة وتكافؤ الفرص .
تدمير مؤسسات الدولة جريمة موصوفة تحملت وزرها، قبل الحرب الأهلية، قوى السلطة بميلها إلى تقليص الحيز الديمقراطي الذي ينص عليه الدستور، وبعد الحرب الأهلية القوى الميليشيوية المسلحة والنهج الميليشيوي غير المسلح. حصة حركة أمل من هذا الوزر هي الأكبر. فهي عملت على النقيض تماماً من نهج الإمام موسى الصدر الحريص على انخراط الشيعية السياسية في الكيان اللبناني، وخالفت وصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين التي تؤكد على أن أولية الانتماء إلى الوطن قبل الطائفة وقبل المذهب، ما أفقدها موقع الاعتدال ووضعها في واجهة المشروع المذهبي الذي يختبئ وراءه حزب الله.
من ناحية أخرى، دافعت الحركة عن الوحدة الوطنية أيام موسى الصدر وعن مشروع الدولة قبل الطائف وواجهت الثورة الفلسطينية وحلفاءها في الحركة الوطنية اللبنانية دفاعاً عن سيادة الدولة والقانون، وحين صارت جزءاً من السلطة، انقلب دورها إلى نقيضه، فصارت الساعد الأيمن والمعتمد الأول لدى النظام السوري الذي وضع آليات جديدة لانتهاك الدستور فألغى المؤسسات وأنشأ بدعة الترويكا وكرس نظام المحاصصة وعمل على تدمير القضاء ومؤسسات الرقابة وفرض بالترهيب المخابراتي إعادة بناء الدولة بعيداً عن الكفاءة وتكافؤ الفرص.
بعد خروج الجيش السوري من لبنان ذهبت حركة أمل بعيداً في التزامها الآليات ذاتها التي كانت معتمدة من قبل النظام السوري في إدارة شؤون الدولة، فرفعت قبيل الطائف شعار”عروبة الجنوب” في وجه المساعي الحثيثة “لفرسنته”، ولم تكن العروبة تعني في حينه سوى التضامن مع النظام السوري ضد النفوذ الإيراني المتزايد، وبعد التسوية بين النظامين تحولت الحركة إلى احتياطي شعبي لحزب الله وشكلت له الغطاء الرسمي لانتهاك الدستور وتعطيل المؤسسات وشل العمل الحكومي، فألغت بذلك إرث الاعتدال الصدري وانحازت إلى مشروع مذهبي متطرف استحق أن يسمى مشروع الشيعية السياسية الذي ليس من مشروع المارونية السياسية سوى الوجه والقفا
خلاصة
الحرب هي المناخ المناسب لتهشيم الدولة ثم لتدميرها، فهي تشجع الميليشيات المتقاتلة على انتهاك الدستور والقوانين والسيادة الوطنية، وهي أقصر الطرق لتخريب المؤسسات، ولتعطيل مبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص، ولتحطيم الأسس الديمقراطية التي يقوم عليها النظام السياسي.
غير أن تجربة الحرب الطويلة الممتدة على أكثر من أربعين عاماً، التي توسلتها قوى داخلية وخارجية لتحقيق مشاريعها السياسية، أثبتت أن لبنان صار حقيقة راسخة في تاريخ أوطان هذه المنطقة، وأن القوى الخارجية التي تعاقبت على تخريب وحدته خرجت مهزومة أمام تصميم الشعب اللبناني على ترسيخ وحدة الوطن والدولة، وأن المشاريع الما فوق وطنية أو الما دون وطنية هي بدائل فاشلة، وأن مشاريع المارونية السياسية والسنية السياسية والشيعية السياسية وقفت أمام الحائط المسدود.
كما أثبتت الوقائع أن العوامل الداخلية لا تكفي وحدها لتضع لبنان على حافة الحرب، وأن العوامل الخارجية التي تشجع اللبنانيين على إشعال فتيلها هي ذاتها التي تساعدهم على العودة إلى لغة الحوار وإلى توظيف طاقاتهم في البناء وإعادة البناء، وأن المطامع الخارجية التي تعاقبت على تدمير هذا الوطن الجميل انهارت واحداً تلو الآخر حالما كان يتوفر الحد الأدنى من شروط الوحدة الوطنية.
في ظل هذه المعطيات، بدا أن الراغبين بالقضاء على الوطن والدولة يصطدمون بقدرة لبنان على الصمود وبقدرة اللبنانيين على إعادة البناء كلما انهزمت أطماع القوى الخارجية ومشاريعها. الجيش الاسرائيلي اندحر والجيش السوري انسحب، ولا بد من أن ينسحب المشروع الايراني إلى خارج الحدود، ويعود اللبنانيون إلى إعادة بناء السيادة الوطنية من خلال دولة تحافظ على صيغة التنوع والتعدد وتعمل على تطويرها لتتماشى مع ظروف العصر.

About The Author