21 نوفمبر، 2024

حمزة يعود طفلا

(شهادة في كهولة حمزة عبود)

ندوة في حلقة التنمية والحوار ، الخميس 10-10-2013 عن كتابه : كنت كثيرا ، لم أكن أحدا ، في أحوال الطفولة والصبا

لأن الفترة التي يتناولها هذا الكتاب محصورة بسنوات خمس من أحوال الطفولة والصبا فهو لا يعد سيرة ذاتية ، كما أنه ليس من صنف المذكرات ، فالوقت مبكر في مثل سنّه لكتابة مثلها ، وهو ليس رواية لأن بعض مقومات هذا الفن متوافرة فيه فيما هو يحتاج إلى بعضها الآخر … هو إذن ما يمكن أن نسميه كتابا في الحنين .

حنين إلى تلك الفترة من العمر التي لا يكون فيها المرء مسؤولا عن ” شقاوته” ، وإن أسأت النية قلت إنه حنين إلى تلك “الشقاوة” بالذات ، التي قد لا يجرؤ عليها في هذه السن، كأن يسرق مع زميله على مقعد الدراسة ، عبدالله لطفي ، كتب زملائه ويبيعها ليشتري بطاقة دخول إلى السينما أو قطعة حلوى.

حنين إلى المكان ، إلى الأمكنة ، إلى صيدا القديمة بزواريبها وحاراتها وأسماء حوانيتها والغرف التي سكن فيها سنوات الدراسة ، ومدارسها الثلاث التي تنقل بينها خلال خمس سنوات، وإلى عدلون ، مسقط رأسه ، وإلى سهلها وبحرها وبساتينها والنبي ساري .

حنين إلى صداقات الطفولة . من عدلون شقيقه ابراهيم ، السيد كاظم ابراهيم وأخوه أحمد ، محمد جميل ، حسن وهبة ، حسن مروه  وأحمد حايك وأحمد طحان ونور الدين وقاسم وصبحي ،  ومن خارجها ، أنور يقظان ولبيب عبد الصمد  وعبدالله لطفي وفارس الأشقر وغيرهم وغيرهم.

حنين إلى ماض جميل يتمثله أمامه في شخصية جده الراسخ في ذاكرته كالزيتونة التي تفيأ ظلها ردحا من كهولته وشيخوخته ، أو والده الذي مازال شاخصا في ذاكرة حمزه بقامته الشامخة والعامرة بالمهابة والقوة والبأس والنفوذ، أو في أسماء قليلة بل نادرة لأساتذته في مدارس صيدا (حسيب البزري ومحمد صوفان وصلاح المصري استاذ الرياضة ) .

حنين إلى الكتب الأولى والأفلام الأولى والأغنيات الأولى ومغامرات الحب الأولى . لا يخيب ظن القارئ بشجاعة حمزة في هذا الكتاب . شجاعته التي تتحول في بعض اللحظات إلى تهور . حين راح ، وهو ابن الحادية عشرة أو الثانية عشرة ، يعرض خدماته الثورية على معروف سعد في أحداث 58 ، أو شجاعته حتى في التعبير عن جبنه ( بحسب تعبيره) . أو في وصف استحلامه لأول مرة وصفا دقيقا مستعرضا أمامه كل المفاتن الأنثوية التي تخيلها وتمناها لدى صبايا في مقتبل العمر أو لدى نجمات السينما الجميلات. مشهد بورنو أكثر إثارة من رجوع الشيخ إلى صباه.

حنين جميل . لن نسامحه إذا كان قد استبدل الشعر بالحنين إلى الشعر . ففي الكتاب جمل شعرية ومقاطع قليلة تحيل إلى كتبه الشعرية لا النثرية ،في العنوان : كنت كثيرا لم أكن أحدا، أو حين يتحدث عن الشارع فيصفه بأنه ” دليل المدينة ومفكرة مواعيدها ” ، أو عن المتعبين الذين يغسل البحر شقاءهم اليومي ، أو عن الأمكنة التي تصنع حياتنا وأمزجتنا والتي ليست سوى “الحوادث والذكريات والأحلام التي ننسجها حولها”. أو عن البحر الذي خطر له “أنه يشبه جدي بقمصانه الزرقاء ، أو “أنه يشبه حيوانا قويا وأليفا كثورنا”، أو عن شعوره بالخوف ” من هذه الأمكنة التي تبدو قريبة وبعيدة في الوقت نفسه ، وتشعره بالوحدة ” ما دمت لا أعرف هذه الأمكنة ” التي لا تشبه صورها الآتية إلينا من الحوادث والأزمنة البعيدة . ذلك أن الأمكنة هي ” ما نتعوده أو نتعلمه من الأمكنة ، أو هي كل ما ندركه ونتخيله عنها “

يبدو لي أن حمزة لا يتذكر تلك السنوات الخمس بقدر ما  يحن إليها . فهي ، منذ انطوت أيامها لم تفارقه أبدا . جمعتنا الأيام فتعرفت على حمزة زوجا وأبا وموظفا . . فكان في صوره الثلاث هذه لا يختلف عن تلك التي يحن إليها في رحلاته المكوكية بين صيدا وعدلون ، ولا عن صورته في تلك  ” البهورات” الغرامية التي بدأت مع فتاة الحافلة التي أقلّته من عدلون إلى صيدا في أول مراهقته، ثم مع ابنتي أبي أنطون، جارتيه في الغرفة التي سكن فيها ، سعاد ونيفين ،  ولم تنته حتى بعد سن التقاعد استيهامات وأحلاما ومعادلات وتخيلات ظريفة وطريفة ومحببة في نظر من يتغزل أو يتحرش بهن تحرشا لطيفا ، أو في نظر من يرويها على مسامعهم من الاصدقاء .

هي سنوات خمس من عمر المدينة ، يوم كانت لا تزال مدينة ريفية . غادرها حمزة في أوائل الستينيات وعاد إليها في أوائل السبعينيات أستاذا في ثانويتها . الأسماء ذاتها ، الأحياء ذاتها ، العائلات ذاتها ، المحلات ذاتها ، ربما غيرت واجهاتها أو فتحت فروعا لها خارج نطاق نهرين لا يحملان من النهر إلا إسمه ، القملة والبرغوت ، وخارج الشارع الوحيد الذي كان يسمى الشارع ، الذي يفصل المدينة القديمة عن الجديدة . البوابتان ، القشلة ، الشاكرية ، المطرانية ، دكاكين الجزارين والبقالين ، وميناء السمك ومطعم الشرق ، وسوق القماش ومكتبات الأنصاري وكاعين والبساط ، ومكتبة الجيز لتوزيع الصحف ، وعطارة عزام ، وقصر دبانة وقصر حمود … النادي المعني ، جمعية الأدب والثقافة ، نادي خريجي المقاصد ، دور السينما، القلعة البرية ، القلعة البحرية ، أحياء الزويتيني ورجال الأربعين والسكندراني ، ومعمل الصابون ، وفرن محجوب ، ومطعم الكبي والحمام الجديد وفلافل بديع وحارة اليهود وكنيسة مار نقولا، الخ . الخ .

السنوات ذاتها من عمر القرية ، التي كان حمزة من الجيل الأول من خريجيها من التعليم الابتدائي ومن الجامعة فيما بعد . القرية الممتد مداها في الجغرافيا من مفرق الصلوب حتى الليطاني ، والممتد في التاريخ ،بحسب مبالغات حمزة الغرامية ،إلى ما قبل التاريخ . القرية بالبيدر والمعصرة والنهر والحورات وعش الشوحة ، والمونة وتشميس البرغل ، وتبخير شراب البندورة ، والدست وفلش الكشك وتيبيس البامية ، وصيد المطفحة وصيد السمك ،ألخ ، الخ .

منذ أن جمعتنا صيدا ، أوائل السبعينيات، في نطاق التعليم الثانوي وأنا أسمع من حمزة حكايات عن تلك الفترة العزيزة على قلبه . هي ليست فحسب الجسر الزمني الذي يصل بين صيدا وعدلون ، بل هي تلك المرحلة التي بدأت تتحول فيها صيدا من قرية كبيرة إلى مدينة صغيرة ، وانتقلت فيها قرانا ومدننا من علاقاتها الريفية الزراعية الاقطاعية إلى اقتصاد السوق ، ومن المانيفاكتورة والصناعات الحرفية إلى المعامل ، ومن العلاقات العائلية إلى النقابات والأحزاب ، ومن قبضايات القرى والأحياء إلى أول درجة في صرح الدولة ، دولة القانون والمؤسسات .تلك كانت مرحلة الإياب إلى الدولة ، الدولة التي أتاحت لنا فرص الترقي الاجتماعي والثقافي والوظيفي .

صرنا صديقين في رحلة الإياب ، رحلة الخروج على الدولة . جاء كل منا من مراهقتة الأولى والتقينا معا في مراهقتنا السياسية ، كنا صادقين لكننا لم نكن نجيد قراءة التاريخ ولا حسابات الربح والخسارة . لو كنا نعلم …لصغنا خياراتنا في صورة أخرى .

لكنني أشهد أن حنين حمزة للأماكن والأشخاص والكتب والماضي والطفولة هو تعبير عما يختزنه في داخله من وفاء لمن ولما يعرفه من الناس والأشياء . هو الأليف الذي تشعر من أول  لقاء معه كأنك تعرفت عليه في حي المسالخية أو رجال الأربعين أو في مقام النبي ساري في عدلون . تستلطف زهوه بنفسه وبقريته وبذاكرته ،  وتستلطف مبالغاته وهو يعدد أمامك أسماء معارفه وأسماء نجوم السينما وعناوين الكتب التي قرأها في مرحلة الطفولة الثانية . لا شك في وفائه لتلك الأمكنة مع أنه يريد دائما ” أن يكون خارج حدود الأمكنة ” وأنه كان يفضل اختيار ” الأماكن التي تمنحه فرصة الوحدة أو السفر إلى بلاد بعيدة أو السفر وراء المشاهد” .

  الوفاء بعض من مآثره . هو وفيّ للأماكن كما للمبادئ التي تربى عليها . هو من المثقفين القليلين الذين لم يصب تقلب الظروف والأحوال وموازين القوى قناعاتهم بالاهتزاز. استمر يساريا علمانيا في السياسة ، لم يحن هامته لزعيم ، لأنه كان يعتد بنفسه شاعرا ويعتز بحسبه ونسبه وبقريته وبثقافته وبشاعريته ، ويأنف ممن يستزلمون ويحسب أن من يستحق لقب الزعامة هو الذي يستحق صداقته أولا . واستمر ملتزما بالقضايا الوطنية والقومية والنقابية بعقل نقدي وشجاع .

وهو وفي لأترابه ورفاقه  على مقاعد الدراسة في كل المراحل . أشهد على ذلك ، لأن حمزه الذي عاش طفلا في صيدا القديمة هو الذي حفظ الود لا مع من تعرف عليهم في تلك السنوات الخمس ، بل كذلك مع من صار همزة الوصل بينهم ، في بيته المفتوح بسخاء زوجته سمية وبسمتها الدائمة وحسن استقبالها .

نقرأ حمزة بفرح لا لأنه شاعر فحسب يكتب عن تاريخ المدينة بل لأن مدينتنا صيدا وعدلون  تستحقان أيضا كل الحب