29 مارس، 2024

عن يوسف جباعي وديوانه

في تكريم د. يوسف جباعي في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي  بمناسبة صدور ديوانه : رحيق التراب

عن يوسف جباعي وديوانه : رحيق التراب

نشر يوسف جباعي ديوانه بعد أن تقاعد من وظيفة البحث العلمي  …وقصائد الديوان كتبت كلها بعد هذا التاريخ

في الإهداء ، يذكر الدكتور يوسف أن أستاذه في المرحلة المتوسطة نصحه بمتابعة تخصصه في مجال الأدب العربي ،   وردت النصيحة عن الأدب عموما  ولم يرد فيها إشارة إلى الشعر على نحوخاص .

هل يعني ذلك أن الشاعر الذي صاره يوسف جباعي ظل كامنا من الطفولة  ، إلى  أن توفرت له ظروف فانبعث من جديد ؟

ويذكر يوسف أن الظروف شاءت أن يذهب إلى البحث العلمي لا إلىالشعر .

هل يعني ذلك أن الشاعر والعالم لا يتعايشان ؟

وهل يعني أن مستقبل الشاعر أو العالم فينا يتحدد بقرار ، نتخذه نحن أو تتخذه الظروف ؟ هل هي مسألة قرار؟

العلم والشعر عالمان يبدوان متناقضين ، غير أنهما ، كليهما بحث عن الحقيقة ، ولكل منهما منهجه 

في العلم القانون هو الأساس ، وفي الشعر الحدس ، أو لنقل الحدس في الشعر كالقانون في العلم ، أو أن الحدس هو قانون الشعر

حين تخصص يوسف جباعي في علم الاجتماع  كان همه التغيير، مثل الكثيرين من ضحايا الانتماء القومي ، ، وكان وكنا ، على ما يقول ، مزودين بقناعة فكرية وسياسية مثالية عن التغيير الاجتماعي ، لم تفض ، في أحسن الأحوال ، إلى تغيير شيء في هذه الأمة ،إلا قلة من أمثال يوسف ، انطووا، في أواخر مسيرتهم ، على كآبتهم الدفينة وخيباتهم المريرة وإحباطهم … ولم يستسلموا بل خرجوا على مايقول يوسف بحصيلة يمتزج فيها الوعي بالخيبة والأمل بالإحباط  

كان وكنا ، ندخل إلى رحاب العلم لنفسر ونحلل ، وأفترى ماركس على عقولنا حين أقنعنا أن الفلسفة والعلم وكل ما ينتجه العقل البشري هو لغاية محددة ، هي تغيير العالم لا تفسيره فحسب ، فوظفنا العلم لنعيش منه قليلا ، ولنغير العالم كثيرا . فلا عشنا كما ينبغي ، ولا غيرنا العالم كما يحلو لنا أن نغيره 

إذن لم يكن الحدس وسيلتنا إلى الشعر وحده ، بل كان أيضا سبيلنا إلى السياسة، بل منهجنا في البحث فيها وفي النضال داخل متاهاتها الشائكة

بعضنا كان ، ومنا يوسف ،  تستغرقه السياسة ، فتستنفد حدسنا الشعري فصارلا يأتينا ولا نأتيه إلا في القيلولة من أوقاتنا ، وهذا هو مغزى أن يدخل يوسف عالم الشعر ، أو على الأقل أن يوليه  المزيد من اهتمامه كتابة ونشرا ، في قيلولته الواسعة بعد التقاعد من الوظيفة ، وبعد وقوعنا ضحايا خيبة وإحباط من علم السياسة وحبائلها ، ومن قناعاتنا المثالية كما يصفها يوسف .

خيبة وأمل ذاك ما انتهت إليه الحكمة اليويسفية ، الخيبة هي الأكبر ، والأمل معقود على الأجيال :

حزينة شمسنا ،،، رهيب مساؤنا ،،، لكنما الحياة تستمر بعدنا

مضيئة ومظلمة ،،، هادئة وصاخبة ،،، هكذا هو الموت ،،، هكذا هي الحياة

لم يبق غير ذؤابة من شجرة …

وما أراه الآن ينتهي إلى فراغ

وكل ما حولي يوحي بالفناء

في اللحظة الأصعب ، إنهض ولا تتعب…

أمامك الحقول ،،، والسفح والذرى ،،، والزهر والندى ،،، وهمةالنسور… إنهض ولا تهلك

ثنائيات تملأ حياة يوسف وديوانه : عزمه واحتشامه أو إن جاز لي ان أعيد تسمية هذه الثنائية ، حازم كحد السيف ومرهف كالزهرة ، فجمع في شخصه العالم والشاعر توأمين يتناكفان ويتناغمان ، يتخاصمان ويتعايشان

ثنائيات هي حياة الشعر ، بل هي الحياة كلها ، على منوال ما قال حسن حمدان : الاختلاف حياة الزمان

أوعلى منوال ماقال الشاعر محمد الماغوط :

هناك نحل وهناك أزهار ، ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي

أو

هم يملكون الشرفات ونحن نملك الحبال والخناجر ،،، هم يملكون العقود واللآلئ ، ونحن نملك النمش والتواليل

ومع ذلك فنحن ملوك العالم

يوسف هذا الذي أمامنا جاء إلى الدنيا وكان من أهل الحبال والخناجر والنمش والتواليل ، ومع ذلك صار، في نظر أصدقائه ،  من ملوك العالم

ويوسف هذا جاء إلى الدنيا مرتين مرة رعته أمه ، ومرة رعته هند المنتشرة عبيرا في فضاء يوسف  و في الديوان

على مشارف التقاعد دخل في غيبوبة طويلة ثم عاد فسلام عليه يوم ولد ويوم غاب ويوم بعث حيا

فاتني أن أتعرف عليه باكرا ، ولست أدري كيف ارتكبت هذه الخطيئة بحقي . عرفته ملكا

ولم أشاهد حوله حبالا ولا خناجر ، ولا رأيت عليه نمشا ولا تواليل  ، عرفته ملكا وإلى جانبه الأميرة هند ، وهند أحبت في الشيعة اثنين: يوسف والفراكه، يوسف دينها ومعبودها ، ويوسف لاينتبه ، بضغط علمانيته ، للانتماء الديني ولا للمذاهب والطوائف ، ولا يحمل غير هوية القومي اليساري التقدمي

تقرأ على وجه يوسف هدوءا كهدوء الملائكة والأنبياء ، وفي جوفه بركان متأجج يطفئه بيديه كلما ثاروانفجر

مصنوع من ثنائية هي من ثنائية الشعر ، هدوء وبركان ، أحتشام وجرأة … ضدان لا يلتقيان … لكنهما التقيا . جمعهما يوسف وخاوى بينهما . رفعه البركان إلى المنابر فكان خطيبا يلتهب الجمهور بين يديه وتخفق الرايات ، وفي أوقات الهدوء كان يرى بحدسه الشعري ونظره الثاقب   .  وحين أصبح الأمل سرابا والنشيد ضجيجا،،، راح يشرب نخب الهزائم النكراء ، يشربها دفعة واحدة مخافة أن يدركه النعاس . وقال عن النسمة :

أجرح جفون الصمت،،، كأنني زهرة في إناء… تقاوم الموت ،،،وتحتمي بالهواء ،،، لو نسمة تعيد لي شهية البقاء!

وجعل يوسف الهدوء والاحتشام سبيلا إلى النظر في التفاصيل الصغيرة ، التي لا ترى إلا بعين شاعر ، وهي التفاصيل التي لا تراها الأمة ولا تبالي بها ، فالأمة رفعت صورا جديدة وراهنت على صمود التماثيل … والأمة المجيدة ستستمر خارج التفاصيل… ستستمر … رسالة خالدة وخطابا لا يضاهيه خطاب

ومن حق يوسف إزاء أمة لا تبالي بتاريخها و تدفع  بأبنائها إلى الخيبة أن يواجه اللامبالاة القومية ويقول:

لو كنت أبالي ،،، لجرحت الماس القاسي بأظافر روحي وإبائي ،،، وكسرت زجاج فضائي ،،، بأنامل من صنع خيالي

وهو في الحقيقة يبالي كثيرا  ويشقى إزاء هذه الأمة الجهلاء، على قول المتنبي :

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله                   وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

يقول يوسف :

ما الهم ،،، إن أتتك الطعنة من هنا ،،، والهلاك من هناك ، ،، حتى وإن هدك التعب،، ، وإن تناءى الضوء ،،، عليك متابعة المسير

شعر التقاعد بدا شعر الخيبة المجبول بالوعي كما يقول ، لقد كنا نلتقي في ماضينا ، وكنا نصنع أوطاننا كما نشاء،،، نجمعها في وحدة واحدة ، ،، سكانها واحدة وجوههم ،،،، واحدة لغاتهم ،،، واحدة جراحهم ،،، ثم افترقنا

… ولن نكون كإخوة يوسف ،،، ولن تبعدنا الأيام عنك وعن هند …

أنت معلمنا  يا يوسف

                                                             26-02-2004