28 مارس، 2024

لايزال عدنان ابراهيم هو الأقدر على تقديم نفسه

لايزال عدنان ابراهيم هو الأقدر على تقديم نفسه , من غير تكلف ولا افتعال ولا مبالغة , أي بالبراءة ذاتها التي سكنت إلى طفولته ولم تغادر .

بعضكم  , إن لم أقل أكثركم  , يعرفه أفضل مما أعرفه .

إذن ماذا عساني أفعل إن جاورت مقامه ؟

ربما لأقدم له التحية ،باسمكم وباسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.

ربما لأشارك أترابي مشاعرهم اللعينة أو الجميلة إزاء الذكريات والمذكرات , ووقوفهم على مشارف أرذل العمر.

ربما لأنعش ذاكرتي وذاكرتكم ببعض الذي لو كان سرا  لما توانى عدنان ابراهيم عن فضحه ، فالأسرار عدو لدود لصفحة نفسه البيضاء كالثلج  ولسجيته الشفافة كالفجر.

ربما من أجل كل ذلك ، ولكن أكيدا لكي أقدم له تحية الإحترام والتقدير والمحبة من تلميذ لأستاذه ، على طريقة تلامذة الأمس وأساتذتهم . وإن أنس لن أنسى ما طلبه منا ، نحن طلاب المتوسط الرابع  (البروفيه) في مدرسة جباع ، ولم أكن قد بلغت الرابعة عشر من العمر , أن نكتب في فرض الإنشاء رسالة إلى الأمم المتحدة وأمينها العام نحث فيها على وقف التسلح النووي وحماية السلام على الأرض . وما زلت منذ ذلك التاريخ أنعم بما منحني إياه أستاذ من آل إبراهيم من نعم البحث في أسرار لغتنا الجميلة , ولم أكن أعرف في حينها أصول هذه العائلة الكريمة الراسخة في العلم والشعر واللغة .

بعدها التقينا كثيرا ، على تباعد في المواعيد ، وكان يتدرج في سلم الدراسة و الإدارة مع زميله وشقيقي عاطف. ثم غمرني بنعمة الصداقة ولم أقبل بهذه العلاقة الجديدة إلا متأخرا  ، تعلقا مني بعلاقات الاحترام بين التلميذ والأستاذ .

لم يقف الأمر عند هذا الحد من تدجين العلاقة حتى تشابكت علاقات الصداقة بين عائلاتنا , فتداخلت الأعمار ولم نعد نميز في بيتنا وبيته بين الزميل والصديق والأستاذ والرفيق.

                            *****

من الصدف التي تصنعها الأيام ، وبعد أن صار التلميذ يحمل مسؤولية ما في الحزب الشيوعي اللبناني ، عرض عليه أن يدرس طلب انتساب إلى الحزب مقدم من الأستاذ عدنان إبراهيم .

ربما كان علي أن أحتفظ بهذا السر مع اثنين غيري , شريك له في تقديم الطلب وشريك لي في درسهما ، وما كان أمامنا إلا الموافقة .

لكن السر الذي أبوح به أمامكم هو أن المناضل عدنان إبراهيم ، في تقديمه طلب الانتساب ، لم يكن يرغب في الانتساب إلى الحزب بمقدار رغبته في الانتماء إلى القضية , فقد تقدم بطلبه غداة العمليات الأولى التي نفذها مناضلون من جبهة المقاومة الوطنية ضد جيش الاحتلال . فهو لم يحضر اجتماعا حزبيا ولم يدفع اشتراكا شهريا ، لكنه لم يتخلف عن اجتماع ولم يبخل بتضحية مهما غلا ثمنها. وكنت أرى بأم العين بعض هذه التضحيات يوم عاش ، لسنوات ، مشردا ، يبيت كل ليلة في منزل ، خلال الاحتلال وبعد تحرير مدينة صيدا , ليعود في أول النهار إلى مزاولة عمله الإداري في محافظة الجنوب.

                                *****

لم ينتم إلى القضية فحسب ، بل كان جزءا منها . طفولته من طفولتها ، وشبابه من شبابها . نشأ مع نشأة الأحزاب القومية وشب معها وربما انتمى إليها ، وفي الخمسينات كانا معا في عز شبابهما . وحين تقاعد تقاعدت الحركة القومية كلها ، وهي اليوم تستعد لكتابة مذكراتها . وهي إذ تعيش اليوم على ذكرياتها الجميلة , الناصرية والبعثية  والشيوعية , نحيا مع عدنان ابراهيم لنحول الإحباط  والمرارة إلى أمل جديد ، نسبح ضد التيار ونبحر إلى المستقبل , نحمل ماضينا على أكتافنا وسط صخب الأصدقاء الفارغ ، ووحوش الخارج وأصحابهم صغار وحوش الداخل .

                          *****

تعلمنا من عدنان ابراهيم ، وتعلمنا معه قيم الفلاحين . تركنا الفلاحة حين رمانا أهلنا في نعمة العلم وحافظنا على قيمها : الشهامة والمروءة والاستقامة والصدق والنزاهة والوفاء . ولم نكن نعلم أن أتون الحضارة الجديدة سينتهي بنا إلى زمن  سماه لي أستاذي بزمن الرويبضة ، وهي عبارة حفظتها عنه , نقلا عن كبير علمائنا السيد علي مهدي إبراهيم  ، نقلا عن صحابي جليل ، والرويبضة حسب رواية الصحابي  ، هي الزمن الذي يسوس فيه العامة سفهاء العامة . وكيف لو علم الصحابي أن سفهاء اليوم لصوص ، فماذا كان سيسمي زمننا ؟!

من قيم الفلاحين ذهبنا إلى الإدارة لنبني وطنا ، وها نحن يرمينا الدهر في زمن تباع فيه الإدارة والوطن والشعب مثلما تباع السلع في سوق الدلالين . وما بناه عدنان ابراهيم بالكفاءة والعصامية والجد والاجتهاد يغتصبه مارقون جهلة بقوة المال والتشبيح .

مع أننا لم نكن متحمسين لتلك الدولة الطائفية ، كنا على نموذج عدنان ابراهيم مثال النزاهة والاستقامة معها ، لكنهم يبيعونها أمام أعيننا .

لست أدري حقيقة شعوره حيال إدارة ودولة ووطن  بذل في سبيلها كل صدقه وأمانته وهو يراها اليوم تترنح بين أيدي السفهاء واللصوص ؟؟؟