لايزال عدنان ابراهيم هو الأقدر على تقديم نفسه , من غير تكلف ولا افتعال ولا مبالغة , أي بالبراءة ذاتها التي سكنت إلى طفولته ولم تغادر .
بعضكم , إن لم أقل أكثركم , يعرفه أفضل مما أعرفه .
إذن ماذا عساني أفعل إن جاورت مقامه ؟
ربما لأقدم له التحية ،باسمكم وباسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي.
ربما لأشارك أترابي مشاعرهم اللعينة أو الجميلة إزاء الذكريات والمذكرات , ووقوفهم على مشارف أرذل العمر.
ربما لأنعش ذاكرتي وذاكرتكم ببعض الذي لو كان سرا لما توانى عدنان ابراهيم عن فضحه ، فالأسرار عدو لدود لصفحة نفسه البيضاء كالثلج ولسجيته الشفافة كالفجر.
ربما من أجل كل ذلك ، ولكن أكيدا لكي أقدم له تحية الإحترام والتقدير والمحبة من تلميذ لأستاذه ، على طريقة تلامذة الأمس وأساتذتهم . وإن أنس لن أنسى ما طلبه منا ، نحن طلاب المتوسط الرابع (البروفيه) في مدرسة جباع ، ولم أكن قد بلغت الرابعة عشر من العمر , أن نكتب في فرض الإنشاء رسالة إلى الأمم المتحدة وأمينها العام نحث فيها على وقف التسلح النووي وحماية السلام على الأرض . وما زلت منذ ذلك التاريخ أنعم بما منحني إياه أستاذ من آل إبراهيم من نعم البحث في أسرار لغتنا الجميلة , ولم أكن أعرف في حينها أصول هذه العائلة الكريمة الراسخة في العلم والشعر واللغة .
بعدها التقينا كثيرا ، على تباعد في المواعيد ، وكان يتدرج في سلم الدراسة و الإدارة مع زميله وشقيقي عاطف. ثم غمرني بنعمة الصداقة ولم أقبل بهذه العلاقة الجديدة إلا متأخرا ، تعلقا مني بعلاقات الاحترام بين التلميذ والأستاذ .
لم يقف الأمر عند هذا الحد من تدجين العلاقة حتى تشابكت علاقات الصداقة بين عائلاتنا , فتداخلت الأعمار ولم نعد نميز في بيتنا وبيته بين الزميل والصديق والأستاذ والرفيق.
*****
من الصدف التي تصنعها الأيام ، وبعد أن صار التلميذ يحمل مسؤولية ما في الحزب الشيوعي اللبناني ، عرض عليه أن يدرس طلب انتساب إلى الحزب مقدم من الأستاذ عدنان إبراهيم .
ربما كان علي أن أحتفظ بهذا السر مع اثنين غيري , شريك له في تقديم الطلب وشريك لي في درسهما ، وما كان أمامنا إلا الموافقة .
لكن السر الذي أبوح به أمامكم هو أن المناضل عدنان إبراهيم ، في تقديمه طلب الانتساب ، لم يكن يرغب في الانتساب إلى الحزب بمقدار رغبته في الانتماء إلى القضية , فقد تقدم بطلبه غداة العمليات الأولى التي نفذها مناضلون من جبهة المقاومة الوطنية ضد جيش الاحتلال . فهو لم يحضر اجتماعا حزبيا ولم يدفع اشتراكا شهريا ، لكنه لم يتخلف عن اجتماع ولم يبخل بتضحية مهما غلا ثمنها. وكنت أرى بأم العين بعض هذه التضحيات يوم عاش ، لسنوات ، مشردا ، يبيت كل ليلة في منزل ، خلال الاحتلال وبعد تحرير مدينة صيدا , ليعود في أول النهار إلى مزاولة عمله الإداري في محافظة الجنوب.
*****
لم ينتم إلى القضية فحسب ، بل كان جزءا منها . طفولته من طفولتها ، وشبابه من شبابها . نشأ مع نشأة الأحزاب القومية وشب معها وربما انتمى إليها ، وفي الخمسينات كانا معا في عز شبابهما . وحين تقاعد تقاعدت الحركة القومية كلها ، وهي اليوم تستعد لكتابة مذكراتها . وهي إذ تعيش اليوم على ذكرياتها الجميلة , الناصرية والبعثية والشيوعية , نحيا مع عدنان ابراهيم لنحول الإحباط والمرارة إلى أمل جديد ، نسبح ضد التيار ونبحر إلى المستقبل , نحمل ماضينا على أكتافنا وسط صخب الأصدقاء الفارغ ، ووحوش الخارج وأصحابهم صغار وحوش الداخل .
*****
تعلمنا من عدنان ابراهيم ، وتعلمنا معه قيم الفلاحين . تركنا الفلاحة حين رمانا أهلنا في نعمة العلم وحافظنا على قيمها : الشهامة والمروءة والاستقامة والصدق والنزاهة والوفاء . ولم نكن نعلم أن أتون الحضارة الجديدة سينتهي بنا إلى زمن سماه لي أستاذي بزمن الرويبضة ، وهي عبارة حفظتها عنه , نقلا عن كبير علمائنا السيد علي مهدي إبراهيم ، نقلا عن صحابي جليل ، والرويبضة حسب رواية الصحابي ، هي الزمن الذي يسوس فيه العامة سفهاء العامة . وكيف لو علم الصحابي أن سفهاء اليوم لصوص ، فماذا كان سيسمي زمننا ؟!
من قيم الفلاحين ذهبنا إلى الإدارة لنبني وطنا ، وها نحن يرمينا الدهر في زمن تباع فيه الإدارة والوطن والشعب مثلما تباع السلع في سوق الدلالين . وما بناه عدنان ابراهيم بالكفاءة والعصامية والجد والاجتهاد يغتصبه مارقون جهلة بقوة المال والتشبيح .
مع أننا لم نكن متحمسين لتلك الدولة الطائفية ، كنا على نموذج عدنان ابراهيم مثال النزاهة والاستقامة معها ، لكنهم يبيعونها أمام أعيننا .
لست أدري حقيقة شعوره حيال إدارة ودولة ووطن بذل في سبيلها كل صدقه وأمانته وهو يراها اليوم تترنح بين أيدي السفهاء واللصوص ؟؟؟
مقالات ذات صلة
محمد حسن الأمين مُفرد بصيغة الجمع
سنابل محمد فرحات
التوتاليتاريا في كتاب للدكتور حسن يونس