21 نوفمبر، 2024

طرائف الشاعر الفيلسوف

                                           تحية إلى مهدي عامل

         كتب النص في  18ايار2002 بمناسبة الذكرى السنوية لاغتياله

قال عنه أحد أصدقائه الظرفاء: أفكاره في رأسه كالمساميرفي فم إسكافي ماهر، ولا تحتاج الفكرة أكثر من ضربة واحدة من شاكوش عقله حتى تنغرس في قلب الحقيقة . إنه يستحضر أفكاره الكثيرة كما يستحضر الإسكافي مساميره الكثيرة من فمه ، ولا يتوقف عن غرز أفكاره إلا حين يتأكد من تثبيت الحقيقة كما يثبت المصارع خصمه بالكتفين.

…ولأن أفكاره شديدة القسوة وموجعة حين تنغرس ، ولأن حقيقته مرة مثل كل حقيقة ، فضل بعض  الأصدقاء الحفاظ على محبتهم له ، وتجنبوا أفكاره وتكاليفها الباهظة . بعضهم انفضّ عن أفكاره “المرعبة ” وأبقوا على حبهم له في حياته وبعد مماته

********************

جملة واحدة تخرج من فم محدثه كانت كافية لتفكيك حقل المفاهيم المختفي وراءها. شعاره السجالي هو : قل لي ما مفاهيمك أقل لك من أنت. فهوية المفكر هي جهازه المفاهيمي، والويل الويل لمن يقع جهازه بين يديه . كان يفككه كما لو أنه يفكك آلة أو جهازا إلكترونيا ليكتشف عطله الداخلي ، فيستبدل الأجزاء المعطلة ، ثم يعيد تركيبه ويسلمه لمساجله آلة جديدة لا علاقة لها بالأولى ، يستغرب صاحبها استخدامها.

والويل الويل لمن يطرح عليه سؤالا: يبتسم قائلا ، سؤالك غلط ! وقصده أن كل سؤال يخفي الجواب في طياته ، وصياغة السؤال هي التي تحدد منحى الإجابة عليه. السؤال هو طريقة في طرح الإشكالية ، ولا بد أن تكون الإجابة مغلوطة إذا كانت الإشكالية مغلوطة. إذن هو يبدأ من إعادة صوغ السؤال على طريقته ويمضي في التفكيك والتركيب وتقليب الموضوع على جوانبه كلها حتى يتعب الموضوع والسائل على السواء من زحمة المحاججة.

******************

روى رفعت السعبد أن محاورته معه طوال ست ساعات في أحد فنادق بيروت لم تنته إلى اتفاق على تحليل الظروف السياسية والمواقف حولها، وكلاهما ينتمي إلى الماركسية سلاحا نظريا. كان تقدير حسن حمدان أن الاختلاف ناجم من تنوع في قراءة ماركس: هو يدعي أن قرأ ماركس من مصادره باللغة الفرنسية في حين قرأه الآخرون بعين سوفياتية.

والصحيح أن مهدي عامل الفيلسوف الذي قرأ ماركس حقا من مصادره الأصلية ، كان على تناقض مع حسن حمدان المناضل الذي قرأ السياسة الحزبية بأحرفها السوفياتية ، من خلال تجربة الحزب الشيوعي الللبناني، وله على هذا الصعيد حكاية طريفة . ففي لقاء ضمه إلى قادة الحزب على مأدبة، اخترق حاجز المهابة وقال لهم : أنتم قادة مبدعون في نضالكم السياسي ، لكنكم تجهلون الأساس النظري الذي تستندون إليه ، ومهمتي هي بالتحديد صياغة النظرية الفلسفية للخط السياسي الذي تعتمدونه في برنامج الحزب.

******************

حين عاد من تحصيله العلمي ، أحيط انتسابه إلى الحزب الشيوعي اللبناني بحذر الحرس الإيديولوجي، بحجة تتلمذه على أستاذ ماركسي فرنسي هو ألتوسير الذي حجر الحزب الشيوعي الفرنسي على أفكاره ، واستنكر اجتهاده الفكري القائل بإمكانية الاستفادة من البنيوية ، أي بإمكانية أن يكون الماركسي بنيويا من دون أن يسيء إلى ماركسيته ، في حين كانت المدرسة الرسمية ترى الماركسية خاتمة العلوم ، وترى في أي اكتشاف علمي أو فلسفي جديد ، بما في ذلك البنيوية الصاعدة في حينه ، عدوانا صارخا على الصرح العلمي للطبقة العاملة .

غير أن الحرس اللبناني كان أكثر تسامحا من شقيقه الفرنسي ، وصار حسن حمدان البنيوي الماركسي عنصرا فاعلا في عملية الصراع الإيديولوجي التي كان يخوضها الحزب ، ثم صار لاحقا عضوا في اللجنة المركزية، في حين انتهى ألتوسير نهاية بائسة بسبب جفاء الحزب، فأصيب بالجنون وقتل زوجته. وحين قررت الشرطة اعتقاله لم يجد من يحتضنه غير الحكومة الفرنسية المنعوتة يمينية والتي قال ناطق باسمها : عيب على فرنسا أن تعتقل عقلها. هذه نقطة مضيئة في حرية الرأي تسجل للحزب الشيوعي اللبناني في فضاء الأحزاب المظلم.

******************

داخل الفيلسوف الجريء مهدي عامل كان يقيم شاعر خجول. حين قرر نشر ديوانه الأول ، تقاسيم على الزمان، طلب من الأصدقاء المساعدة على توزيعه ، كديوان يخص شاعرا جزائريا ناشئا إسمه هلال بن زيتون. حين اكتشف الأديب محمد عيتاني لعبة الفيلسوف قال له : صار يحق لي أن أطلب منك مساعدتي على توزيع رواية لصديق إسمه بدر من ليمون.

وفي أول مناسبة قرر فيها إعلان نفسه شاعرا راح يتلو على مسامع أصدقاء له إحدى قصائده . وقد جرت العادة أن يدور نقاش بين الحاضرين المهتمين بقضايا الشعر والأدب ، وحين جاء دور الشاعر عباس بيضون في إبداء الرأي ، قال ملاطفا : هذه قصيدة كان يمكن تفاديها. لكن حسن حمدان أهمل النصيحة وخلع قناع هلال بن زيتون وأصدر ديوانه الثاني ، فضاء النون، من دون إسم مستعار.

***************

من يقرأ كتبه يتخيله شخصا شديد القسوة ، وذلك بسبب صرامة المنطق في طريقة تفكيره. والصرامة هذه في تعامله مع الأفكار جعلته يدخل علينا مرة ونحن متحلقون حول جهاز الراديو نستمع إلى أخبار حرب تشرين في لحظاتها الأولى ، وهو لم يكن بعد على علم باندلاعها، ولم يكن قد استمع إلى جهاز راديو. كانت تظهر على وجوه المجتمعين ملامح الفرح بانتصار قريب ، ملامحه في أحلامنا لا تتوقف عند حدود سيناء بل تتعداه إلى تحرير فلسطين ونهاية المشروع الصهيوني، لأن البلاغات كانت تزوودنا بأعداد الطائرات الاسرائيلية المتساقطة في سماء مصر، وهي بالمئات . غير أن حسن حمدان زم شفتيه ، غير مصدق ما يسمع ، وحين سألناه تأفف لأن المقام لا يتسع لتحليله الطويل ، ثم قال : يستحيل على أنظمة كأنظمتنا العربية أن تنتصر، وما علينا إلا الانتظار لنرى ما سيؤول إليه تساقط الطائرات.

تكرر ذلك يوم انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية ، واغتبطنا ، نحن مراهقي اليسار ، بقرب التغيير والثورة، فأطفأ غبطتنا قائلا : إنها طويلة طويلة طويلة  أكثر مما تتصورون. وانتظرنا ….وما كان علينا إلا أن نقرأ كتبه عن نمط الانتاج الكولونيالي ، وعن التناقض ، وعن تمرحل التاريخ ، وسواها من الكتب ، لنعرف الأساس النظري الصارم الذي استند إليه وعكر علينا صفو أوهامنا. أو أنه كان علينا أن ننتظر نكبة فلسطين الجديدة لنتأكد من أن صرامة الفكر من ضرورات التقدم ، ولا يمكن أن تنوب عنها خطابات الحماسة كالتي تصم آذاننا .

**************

صرامة التفكير والنطق في كتاباته أخفت جانبا من شخصيته لا يعرفه إلا معاشروه عن قرب . ففي غمرة نهوض الأصولية  وانتشار تقاليدها وطقوسها ، ومنها تعميم الحجاب على النساء ، باعتباره أهم مظاهر الأيمان، عزمت ابنته الصبية ياسمين على الدخول في هذه التجربة الجديدة ، فكان هو الذي يهيء بنفسه عدة الطقوس تلك ، فيستيقظ ليحضر لها طعام السحور في رمضان ، ويعد لها مائدة الإفطار ، نيابة عن زوجته الفرنسية الرائعة التي لم تكن تحسن ممارسة طقوسنا ، لكنها ، لفرط حبها له ولعائلتها ولانتمائها لوطنها الجديد لبنان، لم تقبل أن ترحل إلى فرنسا بعد اغتياله ، والتي كان يطيب له أن يناديها ” لين ” تحببا ، وهو تصغير بالفرنسية ، وترخيم لاسمها الأصلي ، إيفلين.

جاءها ذات يوم ، حاملا معه نشرة أصولية وترجم لها مقطعا رأى فيه قرار اغتياله. عرضت عليه الرحيل ليحمي حياته ، لكنه عزم على البقاء تجسيدا لصمود الفكر الثوري ، حماية لما تبقى من أحلام الشيوعيين في تحرير الوطن وإعادة بنائه حرا عربيا ديمقراطيا وعلمانيا. لم يمض شهر حتى نفذ الأصوليون قرارهم . انتابنا الحزن ، وتذكرنا كيف أحجمت فرنسا عن اعتقال عقلها ، وكيف يقدم الجهل في بلادنا على قتل المفكرين ، من غير أن يرف لجاهل جفن ، وكيف يعاقب القاتل من ينعته بالظلامية ، وهو نعت لا يكفي لوصف الوحش الكامن في العقل الميليشيوي.

**************

حسن حمدان أصولي ماركسي بامتياز. هو مفكر ثوري أصيل بامتياز. ولئن كانت الأصولية الماركسية تشبه كل أصولية ، بما هي عودة إلى أمهات الكتب لفك رموز الحاضر، غير أن أجتهاد مهدي في الحقل السياسي أنتج نظرية نمط الانتاج الكولونيالي ، على غرار اجتهاد سمير أمين المتعلق بالتطور اللامتكافئ في حقل الاقتصاد ، واجتهادات  سواهما على صعد  أخرى، وهي اجتهادات تتوخى دفع عجلات التاريخ إلى الأمام ، لكي تمضي البشرية نحو مستقبلها التقدمي . أما الأصوليات الأخرى ، بما في ذلك أصوليات ماركسية ، فهي تمضي في شد التاريخ إلى الوراء.

*************

نحن الذين نحبه لأسباب تفيض عن السياسة والنضال الحزبي والانتماء الإيديولوجي ، خيم الحزن علينا غداة اغتياله. كان اغتياله سببا كافيا للحزن الرابض على صدورنا في زمن ” الرويبضة” (الرويبضة ، حسب بعض الصحابة، هو زمن يسوس فيه العامة سفهاء العامة) ، ورحنا نشكو آلامنا ونلملم أحلامنا ونجمع في العتمة بعضا من حطامنا ، ومن بين الركام كنا نرفع شارة النصر التي رسمها مهدي عامل.

نظمنا كل الطقوس لتكريمه شهيد الفكر والحرية ، وتهيأ لنا أننا كرمناه ، ولم نبخل عليه بكل صنوف البلاغة ، وقد آن لنا أن نعتذر منه مرتين : مرة لأننا صفحنا عن القتلة وصافحناهم وسميناهم حلفاء النضال في تحرير الوطن من الأحتلال. ربما كان علينا أن نفعل ذلك ، شرط أن يرف جفنهم ، أي أن يعود الصواب إلى رأس تجوف يوم قتله إلا من الحقد على حلفاء النضال من الشيوعيين؛ ومرة أخرى لأن بعض الذين يكرمونه يمعنون في قتله وفي اغتيال نضاله ونضال حزبه وكل اليسار بأسليب الأصولية التي قتلت حسن حمدان، أي بتكفير الآخر وحظر الاختلاف.

**************

تكريمه يعني تجديد الفكر الذي انتمينا معا إليه، يعني فتح باب الاجتهاد من أجل حزب جديد ويسار جديد ووطن جديد.