17 أبريل، 2024

في تكريم الحاج قاسم نجده

 

أيها السادة الكرام

لم يتسن لي أن أعاشره عن قرب. لكنني عرفته , عرفته جيدا

كان كأنه أبي  ، رحمة الله عليهما .

وكنت كأنني واحد من أبنائه الستة رفاقا لي وأصدقاء .

كان كأنه أبي ، خرجا  مع من خرج من أترابهم , في أوائل القرن الماضي  من الرحم إلى الحقل .

واليوم حين نرثيهم  ونفتقدهم  ، نرثي حضارة غبرت , ونحنٌ إلى تراب القرى .

حين خرج جيلهم إلى النور  ، رمته الحياة في بيوت من طين ومن بيوت الطين إلى  طرقات موحلة وإلى تراب الحقول , يحملون  زوادة الفلاحين ، ويترعرعون مع شتلة التبغ  وبين شوك الصبار

تلك كانت قرانا , تلك كانت حضارتنا ، حضارة القرى والزرع والضرع .

حضارة القرى قلة وبساطة . حضارة القرى أرض .  أرض هي الحسب وهي النسب ، هي الأصل والفصل.  حضارة لم تكن أرضا فحسب بل قيم وعادات وتقاليد .  حضارة الأرض شرف وكرامة ، الاعتداء  على حبة منها اعتداء  على العرض .

من قيم الفلاحين غرفنا وفي بيوتها تربينا  . بيوت قليلة غرفها وشاسعة ، في كل زاوية منها تنشأ عائلة , شفافة علاقاتها كالدمع ، والسر الذي لا نعرفه من الزوايا يتصاعد مع دخان الموقد ليأتينا من الجيران في اليوم التالي .

تعلمنا من أهلنا قيم التضامن , بالعونة نبني البيوت ونزرع الحقول ونجني المحاصيل .

تعلمنا منهم كيف نتقاسم الحزن وكيف نتقاسم الفرح ، وها نحن نرث منهم طقوس الموت ، نجتمع كلنا أهل القرية وكل القرى لنواسي أهل الفقيد , لنحمل معهم وجع الغياب وآلام الموت.

لكننا نعترف لهم أننا نشوه تقاليدهم ونخون وصاياهم .

كان أهل القرى يفتحون بيوتهم للقادمين ، وكل قادم ضيف على مآدب الفلاحين السخية ، ولسنا ندري أي ميسور متباه بيسره أفسد على قرانا التباهي بكرم القرى وسخاء الفلاحين .

وبقوة الحرب الكريهة في بلادنا, حشرت السياسة نفسها في  المآتم فاستجبنا ، وجعلنا  منها  مناسبات للاستبداد نخطف فيها المعزين  ونصم آذانهم بدروس في السياسة ، وعظات في الدين ، خطبا رنانة وبرقيات, ومجالس عزاء سياسي ، ولا نفك أسرهم إلا بفدية الاستماع القسري , في غالب الأحيان . فصبرا علينا أيها السادة.

وخرجنا على تلك القيم ، يوم غادرنا القرى إلى المتاجر والجامعات والوظائف, وذهبنا إلى حضارة المدن  ، إلى بيوت كثيرة غرفها قليل ساكنوها, تخرج الأسرار من جدرانها بالتنصت العصري ومهارة المخبرين .

وخرجنا على طاعتهم يوم غادرنا حقول الزرع إلى حقول النضال , وانخرطنا في أحزاب على غير طريقتهم في الولاء , وكم وكم حاول آباؤنا إقناعنا بأن بيكهم أفضل من الرئيس والأمين العام والمرشد الروحي, لكن حضارتنا كانت أقوى حجة منهم ، فاحتضنوا نضالنا وفرحوا لفرحنا ، وقدموا لنا الحماية في الأوقات الحرجة ، وحين اشتد الحصار على أعناقنا تحت الاحتلال جعل آباؤنا فؤوسهم والمناجل بنادق في وجه المغتصب ، وجعلت أمهاتنا من حناجرهن رصاصا في صدره وصنعنا وإياهم من الطحين متفجرات ومن ثمار الحقول قنابل ، واندحر العدو.

 فتحية للمقاومين .

 يغادر أهلنا والأسئلة المرة مصطفة في حناجرهم ، ونعترف لهم ولكم أن أسئلة مشابهة مصطفة في حناجرنا نحن , نحن الذين زرعنا أحلاما بحجم الكون ، ولم نحصد في نظرهم غير الدخان .

نعم يا أبي ، سنبقى ممسكين بأحلامنا بكل القوة التي تعلمناها منكم ، وسنبقى نناضل من أجل هذا المعقول الذي  إسمه الخبز والعلم والحرية .

ما نناضل في سبيله هو وحده المعقول . لكن الذي يجري في أحزابنا وأوطاننا وأمتنا هو وحده من عالم الخيال .

تخيل يا أبي

في هذا الكون المترامي حيث يسعى الطغاة إلى إحكام قبضتهم بالقهر على مصائر الشعوب , ينهض حكام أمتنا ويعدون العدة ورباط الخيل ، ويجيشون الشعوب والأحزاب , فيتصدرون المظاهرات في وجه الحرب على العراق مرة ، ومرة يمشون بالنظام المرصوص خلف العسكري الأمريكي من أجل الحرب على العراق

آه يا أبي كم هي شعوبنا مغلوبة على أمرها ، فالحاكم يبقى هو الحاكم يفعل الشيء ونقيضه  ، ويبقى دائما على حق , والشعوب مطيعة.

تخيل يا أبي

في هذا الكون المترامي ، حيث يسعى الطغاة إلى حكم العالم بالنار والحديد ، تتضاءل هموم حكامنا حتى حدود السمسرات الصغيرة والاستغابات والقال والقيل , وينتهي أمرهم بمشوار على طريق الشام

نعم  يا أبي , دخان كثيف تلبد على زرعنا ، زرعنا دماء لكي يكون لنا وطن كسائر الأوطان ، فإذا به ولايات أين منها ولايات الزمان الغابر !

بددنا حياتنا على المظاهرات والبيانات السرية والاجتماعات المغلقة من أجل أن  نعيش في رحم شعب إسمه الشعب اللبناني ، فوجدنا أنفسنا في حمأة انقسامات ترعاها الأحزاب  ، أين منها انقساماتكم أيام البكوات والخواجات , ما ترضى به منطقة لا ترضى به أخرى وما يثير غريزة طائفة لا يثير غرائز سواها .

كلما انهزمنا نرفع راية النصر ، بانتظار هزيمة أخرى ، وكلما فاحت رائحة مفسدة نطلق اللعنات في وجه الإمبريالية ، وكلما تواجه زاروب بزاروب وخلية بخلية , أو سطا لص على مال عام نرجم الصهيونية والاستعمار ونهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور .

مع ذلك سنبقى على أحلامنا يا أبى

سنبقى نناضل من أجل الخبز والعلم والحرية

من أجل أن نعيد بناء الوطن فنخرجه من مغاور المحاصصين الذين ينهبون الخير العام باسم الطوائف التي يمثلونها ، الذين يغتصبون النضال الوطني ويكمون باسم المصالح القومية العليا أفواه الأحرار في بلادنا ، ويقمعون التظاهرات التي لا تخدم محاصصاتهم , الذين يعرضون الوطن بالمزاد العلني, أمام الشركات الأجنبية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي .

من أجل أن نبني وطن العدالة والمساواة بين المواطنين ، فنخرجه من دهاليز المحسوبيات وقيم الاستزلام  والتزلف التي جرفت بسيلها علية القوم ورعاعهم  بالسوية ذاتها .

من أجل أن نبني وطن العروبة الأصيلة التي جسدها اللبنانيون في نضالهم الطويل دفاعا عن حق كل عربي في الحرية من الجزائر حتى العراق ، ومن احتضان الثورة الفلسطينية وشعبها المشرد في المخيمات حتى حماية انتفاضتها المجيدة .

من أجل أن نرسخ علاقات مميزة مع سوريا فنمنع الطعن بالعروبة ونمنع بالسوية ذاتها الاستقواء  بالشقيقة والتزلف على أعتابها .

من أجل أن نعيد مجدا للعروبة لا يستقيم في ظل الاستبداد , المخيم على الأمة من المحيط إلى الخليج ، فالعروبة إما أن تكون عروبة ديمقراطية أو لا تكون , والأمة لا تكون أمة حرة إذا استمر يعشش فيها الاستبداد.

منذ قرنين من الزمن ونحن ملزمون ، يلزمنا حكامنا  ، بالاختيار بين السيئ والأسوأ ، وقد آن لنا أن نختار بين الصالح والطالح .

 منذ قرنين من الزمن ونحن مرغمون على أن نكون مع وحش من وحشين ، وحش التسلط الاستعماري  ووحش الجهل والتخلف والاستبداد ، وكنا نختار وحشنا ، نختار وحشا عربيا ، نختاره لأنه عربي ، فيملأ السجون بالمناضلين وأصحاب الرأي المختلف , يحشد الطاقات ضد العدو الخارجي  فإذا بهذه الطاقات تنفجر فينا ، حروبا بين العرب ، وحروبا أهلية وتفتيتا لأقطار الأمة ، من لبنان إلى الجزائر والسودان والعراق ، حروبا إذا كان من دور للصهيونية والاستعمار فيها  ، ولا شك أن لها دورا ، فدورنا في هذه الحروب أكبر مما نحب أن نتصور .

شمس هذه الأمة غابت منذ ألف عام , وآخر نقطة مضيئة فيها كانت صلاح الدين ، وما زلنا نعيش على ذكريات عبد الناصر , نعيش على الذكريات فحسب ، وندور حول تحدياتنا ولا نواجهها ، فالطريق إلى فلسطين كان ينبغي أن تمر من جونية ، ثم صار ممرها  الإلزامي  من الشيشان , بعدها ذهبنا لنحررها من أفغانستان, و كانت أقصر الطرق لتحريرها احتلال العراق الكويت , وعلى القياس ذاته سيقنعوننا غدا بأن تحريرها سيتم باحتلال الولايات المتحدة الأمريكية العراق .

والصحيح أن تحرير هذه الأمة لا يكون إلا بتحريرها أولا من الاستبداد ، من استبداد حكامها بشعوبهم ، بحيث يقبل بعضنا بعضا من غير تخوين أو اتهام بالعمالة والتبعية وكل النعوت التي أتحف بها البارحة أهل القمة بعضهم بعضا, وما رووا غليلهم .

نعم سنبقى متمسكين بأحلامنا الجميلة متسلحين بإرث كبير من القيم الأخلاقية التي تعلمناها من أهلنا ومن وهج أحلامنا ، ومن تاريخنا الزاخر بالتضحية في سبيل شعبنا من غير حساب ، يحفزنا إلى ذلك رغبة صادقة في حل أزمة الحزب العميقة بما يتجاوز الجمود المعشش في بعض القيادة والسطحية المهيمنة على سلوك المعارضة .

نعم يا أبي  سنستمر .

 سنبقى بذكراك متجذرين في هذه القرى

ومن تراثكم أيها الآباء سنرسم مستقبلا لأطفالنا وللوطن