8 كانون الثاني 2020
أهم ما في الثورة اللبنانية أنها أطاحت، على صعيد الممارسة، تجارة الطائفية الرائجة على امتداد مئة عام، مزيلة الحواجز النفسية بين المناطق. ربما كانت السلسلة البشرية على امتداد الساحل اللبناني أجمل تعبير عن وحدة وطنية بين مواطنين متعددي الانتماءات الدينية والمذهبية والطائفية.
الثورة أعلنت عداءها للطائفية، وجسدت أفضل تجسيد معنى التنوع من داخل الوحدة. الموت في التماثل والاختلاف حياة الزمان، يقول مهدي عامل. أما السلطات المتعاقبة فكانت تسعى إلى تحويل كل اختلاف إلى خلاف، فيما راحت الثورة تستخرج من التنوع إبداعات فصارت، بفضلها، أجمل ثورات الربيع العربي على الإطلاق.
الطائفية ظاهرة اجتماعية تعبّر عن تنوع في الثقافة والمعتقدات واللهجة والعادات والتقاليد والطقوس والعبادات. وهي لا تتحول إلى مرض إلا حين يوظفها أهل النظام في السياسة للتفرقة تعزيزاً لتسلطهم. لكن بعض أهل الثورة، ولا سيما اليساريين منهم، لم يروها إلا بوجه وحيد هو وجهها النقيض للعلمانية، فحمّلوها أوزار نظرتهم الأحادية لها، وجعلوا اعتراضهم على هذا الوجه، وهو وجه كالح طبعاً، بمثابة إدانة لكل مظاهرها وتجلياتها ووجوهها الأخرى، وصاغوا منها شعاراً نضالياً تماهت فيه الظاهرة الطائفية بالدين، فصار العداء لها عداء للدين ورجال الدين، بل عداء التنوع.
العلمانيون واليساريون اللبنانيون حاربوا الطائفية بصدق وتفان، لكنهم لم يصوبوا دوماً على وجهها الكالح ولا على من يوظفها للفتنة. وتخطئ الثورة إن اعتقدت أن الطائفية عاهة النظام، بل عاهة أهل النظام ومرضهم. تعديل ثلاثة بنود في الدستور متعارضة مع الطابع المدني للدولة هي، من غير شك، أقل كلفة من إلغاء الطائفية السياسية وإسقاط النظام بحجة اعتباره نظاماً طائفياً، فضلاً عن أن ذاك النظام، على علاته، أفضل بما لا يقاس، من النظام المافياوي الميليشياوي الراهن.
المارونية السياسية مرض لم يبتلِ به كل ماروني لبناني. فؤاد شهاب الماروني لم يكن الوحيد الذي نظر إلى الوطن بعين وطنية. عدد كبير من ثوار 17 تشرين هم من سلالته. ومن سلالته أيضاً كل الذين ينشدون اليوم قيام دولة القانون والمؤسسات، في مواجهة ناشطين دفاعاً عن دولة العائلة والمافيا والميليشيا. الشيعية السياسية ليست الشيعة، بل هي توظيف الطائفة في خدمة المشاريع الحزبية أو في خدمة الزعيم والأزلام والمحاسيب. الحركة الوطنية اللبنانية بأحزابها اليسارية صادرت السنية السياسية منذ ما قبل الحرب الأهلية، وعجزت الأحزاب الدينية السنية عن أن تتحول إلى أغلبية في الطائفة. أما الأصوليات، على اختلاف مذاهبها الدينية، فهي سلطات أهلية تشكلت على صورة منظمات سياسية استبدادية، لم تكن أحزابنا، كل أحزابنا، أقل منها نزوعاً إلى الاستبداد.
الطائفية، بوجهها السياسي، مرض خطير. غير أن لها وجوهاً أخرى قد تكون “حميدة”. قرع الأجراس ورفع الأذان في ساحة الشهداء في المناسبات الوطنية هما تعبير عن التنوع والوحدة لا عن الفرقة، كذلك هي تلاوة الفاتحة أو رسم شارة الصليب على أضرحة شهداء الثورة، أيا يكن انتماؤهم المذهبي، وكذلك هي أيضاً طقوس العبادات والعادات. موقف البطريرك الماروني من الثورة اللبنانية الراهنة أو موقف المفتي سابقاً من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وجهان للتنوع الطائفي “الحميد” يؤهلان كلاً منهما ليكون في صلب قيادة الثورة والمقاومة.
مواجهة الطائفية أو معالجتها لا تكون بشطب المذهب عن الهوية ولا بإلغاء الطائفية السياسية ولا بإلغائها من النفوس قبل النصوص أو العكس. المواجهة الناجحة هي تلك التي ترغم أهل السلطة من الطائفيين على الالتزام بأحكام الدستور والقوانين.
دولة القانون والمؤسسات هي الحل.
مقالات ذات صلة
سقوط الطغيان والتحرر الوطني
المتضررون من النصر
نعم انتصرنا