21 نوفمبر، 2024

المفتي الجعفري وتصريحاته

4 أيار 2024

https://www.nidaalwatan.com/article/274892

يكرّر المفتي الجعفري ظهوره الإعلامي كناطق رسمي باسم الثنائي. يقول ما يتردّد مسؤولوه السياسيون في قوله. هم يحتكرون الدبلوماسية في تصريحاتهم ويتفرّدون في استخدام العنف في قراراتهم ويوكلون إلى سواهم استخدام العنف الكلامي، وسماحته حاضر دوماً بكامل شجاعته لحماية الثنائي من أي هجوم بتصريحات محرجة ومثيرة للجدل.

صحيح أن سماحته ليس وحيداً في الميدان. فقد انخرط في المعارك الكلامية كثيرون ممن اعتمر قلنسوة أو عمامة، وأن الأطراف المتصارعة استخدمت، خلال الحروب اللبنانية، كل الأسلحة العسكرية منها والسياسية، وكل الانقسامات الطبقية والدينية والمذهبية والإتنية، وكل التحالفات والجبهات المحلية والإقليمية والدولية، وأنها، بما فيها تنظيمات الإسلام السياسي، اعترفت بوجود السلاح في حوزتها، وبرّرت لجوءها إلى العنف درءاً لخطر “المؤامرة”، إلا أن المؤسسات الدينية لم تعترف بوجود سلاح بالغ الخطورة لديها، هو سلاح “المقدس” الذي يستخدمونه دفاعاً عن “المدنس” من أمور الدنيا.

نعم. الجبّة والعمامة سلاح مقدس في حروب التحرير، كما في الجزائر أو في لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، أما خارجها فليستا كذلك. ربما صار ملحاً أن يناقش رجال الدين الأمر بروحية مختلفة، لا باستعجالهم تكفير الأخرين، على غرار ما كانوا يفعلونه أيام الدولة التيوقراطية، حين كانوا يسوقون الناس بعصا التكفير، التي طالت فلاسفة وفقهاء كما حصل قديما مع الصوفية وشيخها وجملته الشهيرة : “وما في جبتي إلا الله”، وحديثاً مع نصر حامد أبو زيد وآخرين.

لا شك في أن المقام الذي يمثلونه ذو قيمة رمزية. هم يعرفون ذلك، لكنهم يكررون النقاش العقيم القديم حول الدين والدولة فيطالب بعضهم بقيام دولة دينية مقابل مطالبة العلمانيين بمنعهم من التدخل في السياسة.

إن رجل الدين لا يمثل نفسه أو حزبه أو مؤسسته فحسب، بل هو يحمل، فضلاً عن ذلك، شحنة من قداسة الدين لا يحظى بها سواه من السياسيين أو العسكريين أو العاملين في الحقل العام. التصريح ذاته حين يصدر عن رجل الدين يكون تأثيره أكبر منه فيما لو صدر عن سياسي. والخطر يكون مضاعفاً إن كان المستهدف رجل دين من طائفة أخرى.

حين يهدد المفتي أو ينذر مجلس البطاركة أو يرفع الشيخ سبابته ويتوعد، يتجاوز الكلام شحنته الدلالية ليحرك المشاعر ويثير النفوس ويؤجج الغرائز ، حتى لو كانت خلفية الكلام والموقف نقية صافية.

وجود رجل الدين في واجهة الحدث لا يطفئ الحرائق بل يشعلها. وسعيه الصادق إلى التهدئة يحتاج إلى شجاعة تحوّل عمله الاستعراضي إلى عطاء كعطاء الجندي المجهول .

رجال الدين بشر. ليس مستغرباً أن يكون بينهم الحليم والحكيم والهادئ والرصين أو من لا يتمتع بهذه المزايا ويقع ضحية التعصّب لإيمانه ولأفكاره، ولا يعترف بالآخر وبحق الاختلاف ويتصرف دوماً وكأنه في عصر التبشير والتنافس على هداية الناس إلى الدين. لكن حين توكل مهمة التصعيد الكلامي إلى المرجعيات الدينية فمن سيتولى إطفاء الحرائق؟

ليس لنا إلا أن نكرر كلام الإنجيل “أنتم ملح الأرض، ولكن إن فسد الملح فبماذا يملح؟”.