27 أبريل، 2024

اتفــاق دمشــق هزيمة الفلسطينيين وحركة أمل

بنود للحل أو للهدنة وأخرى مع وقف التنفيذ

        لا شك في أنّ حاجة كافة الأطراف في التوصُّل إلى حل كانت كبيرة جداً ممّا أوصل المفاوضات الطويلة إلى الاتفاق بين أمل وجبهة الإنقاذ الفلسطيني بمشاركة الجبهة الوطنية الديمقراطية وبرعاية سوريا. ولا شك أيضاً في أنّ هذه الحاجة تتفاوت من طرف إلى آخر، فتبلغ مداها عند الأطراف المشاركة في المعارك العسكرية لتخف عند الأطراف الأخرى، حتى وإن كان دورها السياسي كبيراً.

        حاجة حركة أمل إلى الاتفاق تعبّر عن الرغبة في إيجاد مخرج لهذه الورطة المعقّدة التي لم تحسن الحركة تقدير مجرياتها وتبعاتها مسبقاً. فقد دفعت ثمناً بشرياً باهظاً قدّرته بعض وكالات الأنباء بستماية قتيل وآلاف الجرحى، بما في ذلك طبعاً خسائر اللواء السادس في الجيش اللبناني الذي شارك، جنباً إلى جنب، مع مقاتلي حركة أمل، في كافة معارك الحصار والاقتحامات والتمشيط والقصف الخ. ومن الطبيعي أن يعكس حجم الخسائر المادية إصراراً من جانب حركة أمل على تحقيق مكاسب سياسية تعادل هذه التضحيات، غير أنّ الحسابات النهائية، من خلال الاتفاق لا تشير إلى نجاح الأغراض التي أعلن عنها عند اندلاع المعارك. من هنا يمكن القول أنّه ما أن بدأت تتوضّح آفاق المعارك، وما أن ظهرت الأبواب مسدودة أمام أهداف المعركة كما حدّدتها حركة أمل حتى بات االإصرار نوعاً من المأزق، وبدا أنّ التراجع ضروري، ولكن ضمن شروط تحفظ ماء الوجه.

        حاجة الفلسطينيين، على الأقل الذين يدينون منهم بالولاء لجبهة الإنقاذ الفلسطيني، للتوصل إلى حل، كانت هي الأخرى، كبيرة جداً، ويمكن القول أنّها حاجة معقّدة ومركّبة. فالفلسطينيون هم، من حيث المبدأ، في وضع حرج لأنّهم لا يملكون الحجّة القوية والمقنعة، أمام اللبنانيين، لكي يتمسّكوا “بالامتيازات” التي قدّمتها لهم بعض الاتفاقات، كاتفاق القاهرة، أو وفّرتها لهم ظروف القتال العسكري ضد إسرائيل، في ظل تفكيك أجهزة السلطة في لبنان، والتي تجيز لهم حيازة السلاح، واستخدامه، داخل الأراضي اللبنانية، أو داخل المخيمات. إنّ حجتهم، في ذلك، غير مقنعة، لسبب بسيط هو الشعور العام الذي هيمن على اللبنانيين، وربما على كثيرين غيرهم، باقتراب الحل، بالحد الأدنى، للأزمة اللبنانية، والذي كان من شأنه أن يوقف دورة العنف، ويضع حداً للغة السلاح. لذلك كان يصعب على الفلسطينيين القتال تحت شعار التمسك بأدواة الحرب في ظل موجة عامة شعبية ورسمية تطالب بدخول الردع وتجميع الأسلحة.

        يضاف إلى هذا الحرج أنّ الصراع الفلسطيني الداخلي قد أضعف دور منظمة التحرير، دون أن يعزّز موقع جبهة الإنقاذ، وهذا ما أبقى الفلسطينيين في خطوط الدفاع، وفي ظروف الحاجة الماسة إلى ضرورة حسم خلافاتهم الداخلية أولاً، لكي يتأمّن لهم الحد الأدنى من مقوّمات مواجهاتهم الأخرى، مع أعدائهم، ومع حلفائهم. وهذه المنظمة بالذات كانت تشكّل مرتكز قوة للذين حمّلوا أبو عمار مسؤولية تفجير الأوضاع العسكرية، لأنّه الطرف الوحيد الذي لا يخسر من المعارك، أياً تكن نتائجها الملموسة على الأرض، باعتبار أنّه لا يتحمّل تبعات الهزيمة، بل على العكس من ذلك، فهو يبقى قادراً على اتهام خصومه في التحالف اللبناني الفلسطيني السوري، وفي حال النجاح، فإنّ الانتصار سيكون موجّهاً أيضاً ضد خصومه الذين فتحوا المعركة بواسطة حركة أمل وعلى يدها، حسب تعبير بعض الأوساط المقرّبة من منظمة التحرير. وإذا كان هذا التقدير صحيحاً يمكن القول، أنّ المؤيدين        لياسر عرفات هم وحدهم الذين لا يرون حاجة للتوصل إلى اتفاق.

        ضعف الموقف الفلسطيني هو الذي أملى على جبهة الإنقاذ إذن، أن تقاتل إلى جانب مؤيدي عرفات، وهذا ما كان محرجاً لها، وأن تبقى على خلاف معه، وهو نفسه الذي أملى ضرورة التوصل إلى حلٍّ يحفظ، ولو جزئياً، الامتيازات الفلسطينية، ويفشل بعض أغراض المعارك، لا سيما وأنّ المطالب “اللبنانية” كانت واضحة، وهي تقضي بإلغاء الدور العسكري الفلسطيني في لبنان عامة وداخل المخيمات بشكل خاص، ممّا يهدّد بإلغاء الكفاح المسلّح، وهو أحد أهم الإنجازات التي حققها الشعب الفلسطيني عبر نضاله الطويل والشاق.

        حاجة الجبهة الوطنية الديمقراطية للحل نابع من حرص كافة أعضائها على استمرار القضية الفلسطينية حيّة وقوية، وعلى استمرار علاقات التضامن الكفاحي بين الشعبين اللبناني والفلسطيني وطيدة وعميقة وراسخة، ومن الحرص أيضاً على تعزيز أُطر العمل الوطني اللبناني وتوسيعه ليشمل التنسيق حركة أمل بالذات، باعتباره الطرف الوطني العسكري الوحيد الذي لم ينخرط، تنظيمياً، في أطر الجبهة. ومن هذه الزاوية كانت الجبهة الوطنية تنظر بقلق إلى المعارك بين أخوة السلاح الذين واجهوا معاً الاجتياح الإسرائيلي، وقاوموا معاً جيش الاحتلال. وما كان يثير المخاوف لديها ههو أنّ استمرار المعارك ضمن منطق الإصرار على الحسم كان من شأنه أن ينتهي إمّا بانتصار أحد القريقين على الآخر، إمّا بوقوع الطرفين معاً مهزومين إذا ما استحال انتصار أحدهما. أمّا انتصار حركة “أمل” فقد كان من شأنه أن يلغي أي أمل عند الجبهة في تعزيز التحالف الوطني اللبناني، لأنّ حركة أمل كانت ستتابع، في مثل هذه الحال، مدفوعة بزهو الانتصار، نهجاً تغلب عليه الفئوية، وتحفُّ به مخاطر ومنزلقات قد لا تكون في الحسبان. أمّا الانتصار الفلسطيني فإنّ نهج أبو عمار هو الأقدر على الاستفادة منه، وبالتالي فهو خسارة، من وجهة نظرها، على الصف الوطني، أمّا استمرار حرب الاستنزاف فهو، بلا شك، أسوأ الخيارات، على الجميع، بما في ذلك على مؤيدي ياسر عرفات.

        حاجة سوريا للاتفاق كانت كبيرة أيضاً، وهي نابعة من مسؤوليتها عن الأوضاع في لبنان، خاصة بعد أن أجمع الأطراف اللبنانيون على قبول الخيار السوري، وعلى الدور الذي يمكن أن تلعبه في رعاية اتفاق بين اللبنايين. لذلك بات استمرار المعارك، لا سيما بعد أن فشل منطق الحسم، يشكّل إحراجاً للسوريين أمام كافة حلفائهم اللبانيين والعرب وأمام أصدقائهم في العالم. وليس يخفى أنّ موقف الدول العربية والدول الصديقة كان موقف المطالب بوقف النزف.

        هذه الحاجات أملت الحل، فأعلنت القوى المعنيّة اتفاقاً من ثلاثة عشر بنداً يمكن القول فيه، باختصار، أنّه، مثل كل الحلول التي شهدتها الساحة اللبنانية، عبارة عن تأجيل للصراع العسكري، أو تغيير لأشكاله وأساليبه بانتظار ظروف ناضجة تؤمّن حلاً جذرياً.

        هذا الحكم نابع من الاعتقاد بأنّ حرب المخيمات هي إحدى تجليات أزمة الشرق الأوسط وقضيتها المحورية، القضية الفلسطينية، وأنّ أزمة المنطقة تتجلّى تارة بحرب عربية إسرائيلية وتارة بحروب بين أطراف عربية ترى حلول الأزمة من زوايا مختلفة. لذلك يصح القول أنّ الحل النهائي لحرب المخيمات لن يبصر النور بمعزل عن حل أزمة المنطقة . كما أنّ الحكم نابع من الاعتقاد بأنّ هذه الحرب ناجمة عن الخلل في موازين القوى اللبنانية، وعن انهيار مؤسسات السلطة، وغياب أجهزة الحكم، وبالتالي فإنّ الحل الجذري والنهائي لحرب المخيمات لن يتم بمعزل عن التوصل إلى حل، يتسم بمواصفات الحد الأدنى للأزمة اللبنانية بجانبها المحلي.

        غير أنّ هذا الحكم السلبي على الاتفاق لا يلغي الإيجابيات الهائلة التي انطوت عليها بعض بنوده، حتى تلك التي تتضمن اعترافاً صريحاً بتأجيل الحل، أو تلك التي لا يمكن تنفيذها في المدى المنظور. بالإضافة إلى ذلك يمكن استخراج بعض الاستنتاجات من تفاصيل الاتفاق:

  1. البنود ذات المضمون الإنساني، المتعلقة بالمساعدات، والمهجرين، والخراب والدمار هي من أضعف الإيمان، بل هي الواجب اليومي الملقى على عاتق جهات تقاتل في سبيل قضية الذين يتضررون من الحرب. لذلك لا تصلح هذه البنود كمعيار تقاس على أساسه أهمية الاتفاق.
  2. ينطوي الاتفاق على اعتراف صريح بهزيمة نسبية لحركة أمل. فهو يقضي بأن تنسحب قواتها وقوات اللواء السادس إلى المواقع التي كانت فيها قبل الأحداث، مما يعني أنّها كانت هي المعتدية، وأنّ البيان الختامي للمحادثات في دمشق يدينها بشكل غير مباشر. يضاف إلى ذلك أنّ البند الثالث يدين موقف اللواء السادس ودوره لأنّه يطلب منه العودة “إلى ممارسة المهام العادية التي كان يمارسها قبل الأحداث الأخيرة” مما يعني أنّه خرج على مهماته العادية خلال الأحداث، أو أنّ مهماته خلالها لم تكن “عادية”.
  3. ينطوي الاتفاق على فشل واضح للأهداف التي أعلنتها حركة أمل مع بداية المعارك. فالبند الخامس ينص صراحة على أنّ “أمن المخيمات في بيروت جزء لا يتجزأ من أمن بيروت” مما يلغي الدعوة إلى وضع خطة أمنية للمخيمات في محاولة لتصويرها وكأنّها مسؤولة عن تردّي الأوضاع على الساحة اللبنانية، وهو الأمر الذي حاول حزب الكتائب أن يثبته طيلة الحرب؛ غير أنّ ذلك لا يعني “براءة” الفلسطينيين من بعض أسباب اضطراب الأمن، وهذا ما بدا أيضاً بوضوح في البند الخامس، حيث اعترف الفلسطينيون بحق قوى الأمن الدخلي، لأول مرّة منذ عشر سنوات، بممارسة دورها الأمني داخل المخيمات.
  4. ينص البند الثامن على وضع “السلاح الثقيل والمتوسط خارج المخيمات” مما يعني الإبقاء على السلاح الخفيف “إلى أن يتم جمع شامل أو جزئي للسلاح في لبنان وفق خطط أمنية تتفق عليها الأطراف اللبنانية أو تقررها حكومة الوحدة الوطنية”. وفي هذا البند خسارة للمنطق الذي دخلت حركة أمل من خلاله لمعالجة موضوع سلاح المخيمات.
  5. أكّدت بعض بنود الاتفاق على التحالف المصيري بين القوى الوطنية اللبنانية والفلسطينية وسوريا” في مواجهة الأخطار والمؤامرات التي تهدّد وحدة الموقف بين هذه القوى، أو تلك التي تحاك ضد الموقف الوطني اللبناني، أو القضية الفلسطينية، أو سوريا” (البند التاسع)     . وكان من الأفضل أن تؤخذ هذه المسألة بالاعتبار قبل المعركة، فلربما كان ممكناً تفاديها.
  6. أمّا تأكيد البيان على دور جبهة الإنقاذ الفلسطينية، واعتبارها “الممثل الشرعي الوحيد” للمخيمات الفلسطينية بالعلاقة مع الحلفاء اللبنانيين والفلسطينيين، فهو أمر مع وقف التنفيذ، بانتظار أن يحسم الصراع الداخلي بين مؤيدي ياسر عرفات ومعارضيه، ولا يضيف هذا البند أي عنصر قوة لجبهة الإنقاذ، ولا يمنحها مزيداً من الشرعية، بل إنّه يشكل نوعاً من الضغط المعنوي على سكان المخيمات من أجل الالتفاف حول جبهة الإنقاذ، إنقاذاً للقضية. وعلى غرار هذا البند، يمكن أن تضاف بنود أخرى يمكن القول عنها أنّها “مع وقف التنفيذ” كالقول عن “إجراء المصالحات” واستعادة منظمة التحرير وحدتها، واتفاق الأطراف اللبنانيين على خطة واحدة أو خطط أمنية الخ. وبانتظار كل ذلك فقد خرج الفلسطينيون من هذا الاتفاق بانتصار جزئي، وبهزيمة جزئية. أما انتصارهم فهو في كونهم أثبتوا أنّ قضية المخيمات لا تعالج بمثل السطحية والتبسيط اللذين افتتحت المعالجة بهما، أما الهزيمة فهي في كونهم اعترفوا بضرورة احتكامهم للقوانين اللبنانية، إذا وجدت، على نفس مستوى احتكام اللبنانيين لها، إذا رغبوا. وبانتظار كل ذلك يتطلّع الجميع إلى استئناف الكلام حول مشروع الحل السوري.