” لمكافحـة الإرهـاب”
ضجّت الصحف العالمية ووكالات الأنباء بالخبر الذي انتشر بسرعة هائلة والذي يتعلّق بانفجار بئر العبد في الضاحية الجنوبية من بيروت في مارس الماضي. وتعود أهمية الضجة إلى اتهام المخابرات المركزية الأميركية بضلوعها في الحادث. وتقول الأوساط العليمة في لبنان أنّ هذه العملية الكبيرة كان يُخطَّط لها منذ فترة طويلة. لكي تشكّل ردّاً مناسباً على العمليات التي تعرّضت لها قوات المارينز في لبنان قبل رحيلها في شهر فبراير من عام 1984.
لم يخفّف التكذيب الأميركي من مسؤوليات الجهاز المذكور لأنّ الوثائق التي تركها مسؤولون كبار عن المراحل السابقة في عمل الجهاز تؤكّد لجوئه إلى مثل تلك المحاولات. فقد سبق له وخطّط لاغتيال زعماء كبار في العالم العربي، وكان المقر الإقليمي لجهاز المخابرات في بيروت مركزاً لرسم الخطط، ومن السفارة الأميركية في العاصمة اللبنانية كانت تتوزّع الأدوار والأموال والمكافآت. ويُذكر أنّ رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق كميل شمعون كان قد ورد اسمه في وثائق المخابرات الأميركية في العديد من الحوادث لا سيما قبيل انتخابه رئيساً للبلاد عام 1958، أي في الفترة التي احتدم فيها الصراع حول حلف بغداد والعدوان الثلاثي على السويس.
حادثة مارس الماضي لم تتحوّل بعد إلى جزء من التاريخ. إنّها ما تزال مستمرة في انعكاساتها وذيولها، وما تزال خيوطها تتكشَّف شيئاً فشيئاً، ومن الطبيعي أن يحصل ذلك، باعتباره من أعراض الهزيمة. ويتوقع المراقبون أن تتكرّر الاعترافات وأن تتسرّب الأسرار من أدراج العملاء اللبنانيين في المستقبل القريب بعد أن يتعرّض جهاز المخابرات اللبناني إلى عملية تفكيك وتهديم، في سياق عملية التفكيك التي سيتعرّض لها المشروع الكتائبي الذي دمج بين أجهزته الأمنية وأجهزة الحكم اللبناني بحيث تعدّى الأمر مستوى التنسيق إلى مستوى توحيد الجهود والأدوات في ظل توزيع للأدوار.
كان مقرّراً أن يتحوّل الجيش اللبناني إلى جزء عضوي من الجيش الأميركي يوم أقدمت إدارة ريغان على وضع خطة لتدريبه وتسليحه، وقد سبق لها أن باشرت بتنفيذ تلك الخطة فطبقتها على لواء مجوقل قدّمت له السلاح والثياب والعتاد حتى بات لا يتميّز عن الجيش الأميركي إلاّ بلون البشرة والانتماء الوطني. لكن تلك التجربة ما لبثت أن انهارت في إطار الانهيار العام الذي لحق بالمشروع الأميركي وبقوات المارينز. لكن المخابرات الأميركية كانت قد نجحت في توطيد علاقاتها مع بعض القيادات العسكرية اللبنانية وتمكّنت من الاستفادة من اللواء المجوقل بعد أن انفرط عقده وعاد أفراده إلى معسكراتهم الطائفية والحزبية والإقلمية.
دروس التعليــم
في برامج التعليم العسكري، وفي دورات الأركان التي تعدّها وزارة الدفاع الأميركية لتدريب ضبّاط من العالم الثالث، ومن ضمنهم ضبّاط لبنانيون، دروس خاصة عن أعمال التفجير وقمع المظاهرات ومواجهة حالات التمرد والانتفاضات، ويعتمدون في تفصيل هذه الدروس على تجارب عديدة تستحضر من تاريخ الحروب والحروب الأهلية وقد طبّق الجيش اللبناني هذه الدروس تطبيقاً بارعاً خلال المرحلة الثانية من حكم الرئيس الياس سركيس وذلك باتباعه أساليب متعددة، منها أعمال التفجير العشوائي التي عاشت مدينة بيروت كابوسها في سنوات 1979 وما بعدها حتى الاجتياح الإسرائيلي، ومنها توزيع الأسلحة بعشرات الملايين من الليرات على التنظيمات المحلية وتشجيعها على التقاتل فيما بينها، ومنها زرع الجواسيس في صفوف هذه التنظيمات والتشويش على وحدتها التنظيمية والسياسية.
آخر أعمال التفجير التي خططت لها أجهزة مشتركة من المخابرات اللبنانية والأميركية والكتائبية ما تعرّض له منزل القائد الناصري مصطفى سعد في مدينة صيدا، وقد عمدت قيادة الجيش إلى إجراء تعديلات وتبديلات ومناقلات في أطر قيادة الجيش في الجنوب اللبناني إثر العملية فأبعدت بعض الضبّاط إلى بيروت وآخرين إلى أوروبا، ونقل أحدهم ارتباكه الشديد بعد حادث التفجير لا سيما بعد أن نجا مصطفى سعد من الموت وخسر بسبب الانفجار عينيه وحاسة النظر.
أمّا حادث تفجير بئر العبد فهو مرتبط بعملية ثأر مباشرة من الهزيمة التي تعرّض لها المارينز في لبنان، وهي في الحقيقة هزيمة للدور الأميركي وللنهج الكتائبي اللبناني الذي باع بلده للأجهزة الإسرائيلية والأميركية. من هنا وجدت الإدارة الأميركية نفسها أمام “ضرورات” الانتقام فاختارت منطقة مكتظة بالسكان من شأن أي انفجار أن يحدث فيها أضراراً فادحة، وهذا ما كانت قد نجحت فعلاً في الوصول إليه، فقد سقط في انفجار بئر العبد أكثر من مئة قتيل ومايتين وخمسين جريحاً.
التخريب السياسي
الهاجس الثاني عند الإدارة الأميركية في اختيارها هذا هو أنّها تريد استكمال خطتها في تصوير المقاومة الوطنية اللنانية وكأنّها مقاومة مذهبية، مطلقة عليها اسم الإرهاب الشيعي، في محاولة منها لطمس المحتوى الوطني ولإلغاء حق الشعب اللبناني في تحرير أرضه من قوى الاحتلال، وفي محاولة لإبرازها وكأنّها امتداد إيراني ممّا يقلّل من الأهمية الوطنية لهذه الظاهرة.
هذا الهاجس حاولت استكماله عبر أدواتها المحلية، ومن خلال علاقاتها العضوية بإسرائيل واستخدمت في سبيل ذلك مسألة الدور الإسرائيلي في لبنان ومسألة الانسحاب و”الضمانات الأمنية”، أو الحزام الأمني الذي تطالب به الدولة الصهيونية. وفي هذا السياق لم يجد المسؤولون الإسرائيليون ما يثنيهم عن اعتبار المقاومة الوطنية في الجنوب مقاومة شعبية، وراحت في الآونة الأخيرة تنسب إلى مسؤولين تصريحات تتعهّد بحماية أمن إسرائيل في الجنوب وبوقف تسلُّل المقاومين والأسلحة إلى منطقة الاحتلال مما دفع مسؤول كبير إلى التأكيد على ضرورة استئناف العمليات العسكرية وتكثيفها، وبذلك فقط يمكن تبديد الصور التي شوّشت دور بعض القوى. وقد ساعد على ذلك أنّه خلافاً لما أعلنته إسرائيل ولما سرّبته على لسان مسؤولين شيعة فقد استمرّت أعمال المقاومة ونقلت وكالات الأنباء أخباراً عن استشهاد عدة مقاومين من بينهم فتاة اعترفت إسرائيل بأنّها فجّرت نفسها على أحد الحواجز. غير أنّ بعض الأجهزة بدأت تسرّب معلومات عن أنّ مقتل المقاومين تمَّ على أيدي لبنانيين وذلك في محاولة لخلق فتن وتحضيراً لحالة اقتتال داخلي.
شكّل تسريب الأخبار عن عملية بئر العبد ارتباكاً هائلاً في الجانب الأميركي فعاجلت الجهات المختصة إلى تكذيبه لكن الجانب اللبناني لم يكترث كثيراً لأنّه الغريق الذي “لا يخشى من البلل” ولأنّه متهم بما هو أشد خطورة ألا وهو تفجير الوحدة الوطنية وخيانة الوطن والارتباط بالعدو القومي.
لقد خسرت الولايات المتحدة موقعاً في منطقة الشرق الأوسط. وخير مَنْ عبَّر عن حجم هذه الخسارة تصريح إسرائيلي يعترف بأنّ لبنان هو آخر مَنْ يقيم الصلح مع إسرائيل. إنّهم علموا ولكن بعد فوات الأوان. لكن الأميركيين ما زالوا يجهلون رغم فوات الأوان.
مقالات ذات صلة
خطوة واحدة ويصبح جعجع
منـذ هزيمـة النازيـة
غورباتشيف: أندروبوف الشاب