20 أبريل، 2024

طائرة الاستطلاع السياسي

وسقوط مرحلة الاحتلال

        نبأ إسقاط الطائرة السورية، على الحدود الدولية، من قِبَل  العدو الصهيوني يطرح احتمالات وعلامات استفهام، خاصة وأنّ الحادثة وقعت، أو قيل أنّها وقعت، في ظروف يحتدم فيها الصراع السياسي في المنطقة، فتشن القوى المتجابهة هجومات شتى، وبأدوات وأشكال مختلفة.

        عندما أعلنت سوريا عن إسقاط أول طائرة عسكرية إسرائيلية من دون طيّار عام 1981، في أعقاب نصب الصواريخ في البقاع، اعتُبر ذلك حدثاً خطيراً في الصراع الذي كان حامياً يومذاك، ولم تكن الأهمية تكمن في نجاح التصدي للطائرة بل في مبدأ اتخاذ القرار بالمواجهة، في المشروع الذي يختبئ وراءه.

        وعندما سقطت أول طائرة سورية مقاتلة في معركة جوية مع المقاتلات الإسرائيلية فوق الأراضي اللبنانية، بعد الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب اللبناني بوقت طويل، اعتُبر ذلك أيضاً حدثاً خطيراً، لا بسبب فقدان سوريا إحدى طائراتها التي يمكن تعويضها، بل لأنّ مبدأ المجابهة، واتخاذ القرار بالإقلاع الحربي هو الخطير، باعتباره ينطوي على مشروع سياسي.

        ذلك المشروع السياسي لم يكن في الحالتين بالأمر الجديد كلياً. فالقرار السوري بالمواجهة كان متوفراً منذ اللحظة الأولى للنكبة وحتى اللحظة الأخيرة من مشروع التسوية الذي يجري التداول به في هذه الأيام. غير أنّ موجبات هذا القرار لم تكن على الدوام، متوفرة. وقد شكّل غيابها عنصر ضعف كبير في المعادلة الإقليمية كان يقع العرب ضحيته بشكلٍ مستمر، ويبلغ هذا الضعف مداه إذا كان العنصر الغائب ذا طبيعة سياسية، وليست عسكرية.

        القرار السياسي، من حيث المبدأ، كان متوفراً، وكان البحث الأساسي يجري في الأوساط العربية حول إمكانية تأمين موجبات التضامن القومي سياسياً وعسكرياً. وكان ذلك من قبيل النقاش خارج الموضوع، حسب التقدير السوري، والحجّة في ذلك، أنّ مثل هذا المنحى غير واقعي، وأنّ البحث الجدّي في إقامة التوازن ينبغي أن يدور على صعيد الجبهة الساخنة وليس على الجبهات الوهمية. وكم كان معبّراً في تلك الأيام أن تستمر مصر في عملية التسليح رغم القرارات المصرية الساداتية بإلغاء الصراع العربي الإسرائيلي، بعد اتفاقيات “السلام”. كان من شأن ذلك أن يعزّز الاعتقاد السوري بأنّ التوازن العربي الإسرائيلي قد اختزلته اتفاقيات كامب دايفيد إلى توازن سوري إسرائيلي، على الصعيد العسكري، وعربي إسرائيلي على الصعيد السياسي.

اعتـراض الحلفـاء

        وجهة النظر السورية كانت تصطدم يومذاك بعقبات، بعضها عربي وبعضها الآخر سوفياتي. أمّا العربي منها فهو ناجم عن حرص الجهات النافذة على توسيع جبهة الصراع مع إسرائيل، وعدم حصرها، والمحافظة على طابعها القومي، من أجل تجنيد كافة القوى. أمّا السوفياتي فقد كان مستنداً إلى تقدير لحسابات موازين القوى يغاير حسابات السوريين، وقد استمرّت حساباتهم على حالها إلى ما بعد رحيل الزعيم الأسبق ليونيد بريجنيف. غير أنّ الطرف السوري حاول، في إسقاط الطائرة الإسرائيلية، وفي المعارك الجوية المتعددة التي فقد فيها بعض طائراته، أن يدفع الأمور خطوة إلى الأمام،  أي أن يخرج التقديرات السوفياتية والعربية من الجمود، ويضع حلفاءه أمام المسؤوليات، ,أعداءه أمام ضرورة الروية وتدقيق الحسابات. وكان لسوريا ما أرادت. فقد أرغم مناحيم بيغن على إعادة النظر برعباته، وبلجمها، على الأقل، وإرجاء تنفيذها حتى تتوفر الظروف الملائمة، واقتنعت الجهات العربية بضرورة الاستمرار في تقديم المساعدة المادية والسياسية المعنوية لسوريا بانتظار تبلور موقف ومعطيات مختلفة. غير أنّ التقدير السوفياتي لم يتغيّر إلاّ مع مجيء الزعيم الراحل يوري أندروبوف غلى رأس السلطة في الكرملين.

        عندما أعلن قائد سلاح المهندسين الإسرائيلي الجنرال يهودا كوهين أنّ القوات الإسرائيلية تقوم ببناء تحصينات مكثّفة على طول خط المواجهة مع القوات السورية في سهل البقاع، في صيف 84، لم يكن يعلم أنّ حكومتع ستقرر فيما بعد إلغاء هذه الخطوط والتحصينات وتفجير ما لا يمكن تفكيكه، من أجل الإسراع في عملية التراجع، ولم يكن يعلم أنّ قيادة الأركان كانت تحضّر لمناورة تراجعية يتدرب فيها الجيش على عبور الجسر باتجاه الخلف.

الحجـج المقلوبـة

        الإعلان الإسرائيلي عن سقوط طائرة بلا طيّار، يقلب المعادلة، هذه المرّة. إسرائيل تبدو وكأنّها في الموقف الدفاعي، في مواجهة خطر هجوم سوري تمهّد له دمشق بالاستطلاع الجوّي، أو أنّها تبدو في موقع المفتري الذي يختلق أخباراً لتبرير خطوة قد يقدم عليها. أمّا خطر الهجوم السوري، فهو كلام يتردد منذ فترة على لسان أكثر من مسؤول إسرائيلي، دون أن يدعم هذا الكلام ببراهين ووقاءع، وهذا ما تمليه الضرورات الأمنية والعسكرية والطابع السري لعمل أجهزة الاستقصاء، في حين أنّ التظاهر الإسرائيلي بالبراءة هو من الخصائص الصهيونية عامة، لا سيما حيال أمرين: الادّعاء بأنّ اليهود كانوا الضحية الوحيدة والأساسية للنازية، وأنّ الشعوب العربية هي التي تمارس العدوان عليهم في “أرض الميعاد”.

        إذا كانت إسرائيل قد نجحت، في العديد من المرّات، في أن تستعطف الرأي العام العالمي وتجنّده لصالح مشاريعها وحروبها، فإنّها فشلت، في الواقع، في محاولتها الأخيرة عندما اجتاحت لبنان تحت نفس الذرائع والحجج، وكان لسوريا دور أساسي في هذا الإفشال بفضل صمودها السياسي الذي لم يتحوّل بعد إلى موقف يأخذ شكل المبادرة الهجومية، وإنْ كان في منحاه العام ذا طابع هجومي. من هنا يمكن القول أنّ سقوط الطائرة يعتبر، هذه المرّة، أمراً استثنائياً، لا يساويه التذكير بأحداث مشابهة خلال المواجهة السورية الإسرائيلية عام 1982 فوق الأراضي اللبنانية.

الاستطلاع السياسي من الجو

        الحادث مرتبط، هذه المرّة، بالأوضاع اللبنانية، وبالمفاوضات الجارية للتوصل إلى تسوية للصراع العربي الإسرائيلي في ظل استبعاد سوريا، كما هو مرتبط أيضاً بعملية الإنسحاب الإسرائيلي التي توقفت في “الحزام الأمني” المزعوم لتعود الأمور معها إلى نقطة الصفر، أي إلى نفس الوضع الذي كان سائداً قبل السادس من حزيران 1982. غير أنّ إسرائيل تجهل تماماً المستجدات التي طرأت منذ ذلك التاريخ، والتي لا يحتل موت سعد حداد وخلافة أنطوان لحد سوى جانب شكلي وتافه منها. وإذا كان إسرائيل تعتقد أنّ بإمكانها معاودة دورها على نفس الطريقة السابقة ظناً منها أنّ ذات أنّها ذات مردود أفضل وتكاليف أقل، فإنّها، ولا شك تقترف الذنب إيّاه الذي سبق لبيغن أن وقع فيه، وحاول بيريز أن يخلّص بلاده منه. فالعقل الإسرائيلي يرى أنّ الدور الصهيوني الذي أعقب الاجتياح الأول، بقيادة حزب العمل الحاكم حالياً، الذي كان يحكم يومذاك، هو أفضل من الدور الذي جسّده مشروع بيغن، وإذا كانت الحرب اللبنانية قد علّمته فقط أنّ بإمكانه العودة إلى نفس الشكل السابق، فإنّ ذلك مخالف لأبسط قوانين الصراع. ذلك أنّ التاريخ لا يعيد نفسه ولا يتكرّر، وإذا حصل ذلك ظاهرياً، فإنّ جوهر الأمور لا بد أن يكون مختلفاً.

        هذه المرّة سقطت الطائرة السورية على الحدود الدولية، بينما كانت الطائرات الأخرى تسقط في عمق الأراضي اللبنانية، وليست حدود الجغرافيا أمراً تفصيلياً. وهذه المرّة أعلنت إسرائيل النبأ بعد أنباء أخرى، بل مخاوف، من أن تكون سوريا قاب قوسين أو أدنى من التوازن الستراتيجي مع إسرائيل، وبعد الانتصارات السورية – العربية المتلاحقة والهزائم الإسرائيلية الأميركية المتعاقبة، وبعد أن غدت الزيارات السرية التي يقوم بها الرئيس الأسد إلى موسكو، عندما تدعو الحاجة، حدثاً عادياً غير محفوف بالمحاذير المتبادلة ولا بالضجيج الإعلامي. بالإضافة إلى ذلك يبدو أنّ الطائرة السورية لا تستطلع مواقع عسكرية فحسب بل هي تستكشف أبعاد المشروع الإسرائيلي للتسوية، وللتدخل في لبنان، وبالتالي فهي تحاول تحديد ما يمكن أن يصل إليه المشروع السوري في لبنان، وأشكال المقاومة الناجحة للأحلاف العربية المتهمة بالاستسلامية.

        الاستطلاع السوري، هذه المرّة، استطلاع هجومي، وسقوط الطائرة يعني ارتفاع اللهجة العربية في وجه التسوية.