في طهران، العاصمة التي أصابها الجنون، يتعايش الإرهاب مع مناهضة الثورة. وتتميّز الحياة هناك بقراءة سورة من القرآن، بتمجيد الشهداء وتكريمهم، بعداءٍ للولايات المتحدة “الشيطان الأكبر” ولصدّام حسين “الخائن” هذا ما بإمكان المرء أن يلاحظه عندما يزور إيران ويتحادث مع أطفالها، ويسمع من أحدهم يقول: “أنا أخاف القصف، عليهم أن يوقفوه”.
هذه الحالة تعتبر الأكثر قساوة منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تتوافد من الجبهة، يومياً، توابيت القتلى، وحيث يجري توسيع المقابر بشكلٍ دائم. إنّهم يعتبرون الحرب طويلة جداً، فضلاً من أنّ الأزمات الاقتصادية ترهقهم كثيراً، ويضايقهم الانتظار في طوابير طويلة، للحصول على مواد ضرورية كاللحوم والبنزين والأرز.
إنّهم ولا شك يذكرون حالات الهلع بعد كل غارة طيران، وسقوط مئات القتلى في مختلف أنحاء المدينة، ومنع الصحافيين من الدخول إلى الأحياء المقصوفة. ويذكرون كيف كان يستولي الرعب على المدينة خصوصاً وأنّ السلطات تبدو عاجزة عن حماية فضائها من الغارات العراقية. ويذكرون كيف كانت تتشابك خطوط الهاتف بعد كل غارة بسبب الإقبال الشديد على الآلات للتعرف على الأخبار، وكيف كانت أفواج الهاربين من عنف القصف تفترش الشوارع بعيداً من المدينة حيث يبيتون ليلتهم ليعودوا إلى منازلهم في الصباح.
كان من نتائج حرب المدن أنّها فتحت نقاشاً حاداً بين تيارين: الأول يدعو إلى خوض الحرب حتى نهايتها، ويتزعمه الخميني، وهو يدعو إلى إسقاط صدام حسين كشرط ضروري لإيقاف الحرب، يؤيده في ذلك، ويقاسمه الرأي آيات الله، الذين يدينون بالولاء للثورة، كما ينضوي تحت هذا اللواء كل الذين يعتبرون الثورة الإسلامية مرحلة في إطار الصراع الطويل ضد الأعداء، وفي إطار تحرير كل العالم الإسلامي، بواسطة المسلمين الحقيقيين.
التيار الثاني المناوئ للحرب، يتزعمه قسم من رجال الدين في قم، الذين يتساءلون عمّا إذا كانت إيران مهدّدة بأن تخسر ما قد حققته حتى اليوم. يضاف إليهم الجيش الذي يعارض الهجمات الانتحارية التي يخوضها أطفال في سن الخامسة عشر، فضلاً عن أهل الاختصاص الذين يشكّون في قدرة إيران على الصمود طويلاً، وعلى الاستمرار في تبذير ثرواتها وتبديد احتياطها من أجل شراء الأسلحة. يتعارض التياران ويبقى الخلاف بينهما جوهرياً.
الذين يؤيدون الحرب لا يكترثون ولا يأبهون لإراقة الدماء. وهذا هو التيار الذي يدعم اختطاف الأجانب في لبنان وأخذهم كرهائن، هو الذي يقف، حسب اعتقاد بعض الدوائر الغربية، وراء منظمة الجهاد الإسلامية.
في المقابل، يبدو الرافضون لاستمرار الحرب يحلمون بمستقبل بلدهم وتأمين الاستقرار فيه، ويرى بعض الاقتصاديين، من ذوي الاختصاص أنّ إيران على شفير الهاوية، فبعد أن كانت تربح 13 ملياراً من الدولارات من عائدات النفط يومياً، راحت بعد أعوام تبدّد أكثر من نصف المبلغ على شراء الأسلحة.
مع ذلك لم يصب البلد بالمجاعة. السبب هو أنّ المواد الغذائية الأساسية تباع بأسعار منخفضة جداً، وتُخصَّص بطاقة لكل عائلة تشتري بموجبها ما تحتاجه من الأرز والزيوت والخبز والشاي والسكر وغيرها. غير أنّ ذلك لم يخفِ أزمات اقتصادية هائلة. يكفي أن نعرف أنّ الموظف فقد ثلثي القيمة الشرائية من راتبه منذ تولّي الخميني للسلطة، وأنّ عدد العاطلين عن العمل يقرب من خمسة ملايين، في بلدٍ تعداده أربعون مليوناً، وهي النسبة الأكثر ارتفاعاً في العالم. ينضوي قسم كبير من هؤلاء العاطلين في صفوف حزب الله فيشكّلون جنود الصدام مع الخميني، ويتمركز العدد الأكبر منهم حول المدن.
العديد من الشبّان يتعاطون المخدرات، مع أنّ ذلك من المفارقات الغريبة، ذلك أنّ إيران لم تعرف، قبل الحرب، آفة المخدرات. وحدهم المهرّبون هم المستفيدون الوحيدون من الحرب والسعداء باستمرارها. وبإمكان المرء أن يجد ما يشاء شرط أن يدفع مبلغاً مضاعفاً، وأن يشتري الويسكي مثلاً خمسة عشرة مرّة أكثر من سعرها الأصلي، ولا شيء يمنع، على سبيل المثال، من ارتداء أغلى الثياب وأجملها تحت الشادور.
الرشوة، إحدى آفات المجتمع الشاهي، ما تزال متغلغلة في الإدارة، ممّا دفع أحد الاختصاصيين إلى القول: “ولِمَ كل هذه الأعداد من القتلى طالما أنّ الأوضاع ما تزال على حالها؟
بدأت المخاوف تساور العديد من أعيان الشيعة، فكثرت التساؤلات حول ما إذا كان “الإمام”، بما عُرف عنه من تصلُّب وعناد، سينتهي به الأمر إلى تخويف قسم كبير من المسلمين ودفعهم للكفر بالإسلام والابتعاد عنه.
يظهر الاستياء، بشكلٍ واضح وجلي بين فئة متوسطي الحال والآخرين الميسورين. فقد شهدت الأشهر الأخيرة تظاهرات متنوعة. منها ما جرى جنوب البلاد، أي في المنطقة الشعبية حيث قامت تظاهرة استنكار لتأخر الدولة في ترميم الأبنية المتضررة من جراء القصف والغارات الجوية، ومنها ما جرى في شمال طهران حيث تظاهر البرجوازيون، تلبية لنداء شاهبور بختيار، وارتدى المتظاهرون يومذاك ربطة عنق كانت تعتبر بمثابة شعار أيام الشاه.
القاسم المشترك بين التظاهرتين هو التعبير عن السخط ضد الأوضاع الصعبة. والملفت للنظر أنّ السلطة لم تلجأ إلى قمع هذه التظاهرة أو تلك، ربما يكون ذلك نابعاً من الاعتقاد بسلامة أوضاع السلطة ومتانة دورها ونفوذها.
يظهر الاستياء في أوساط الناس ليس فقط عبر تظاهرات الاحتجاج بل عبر افتتاحيات الصحف وتعليقاتها خاصة ما يتناول منها سلوك أفراد حزب الله الذين أخذوا يتعقبون الفتيات اللواتي يلبسن شادوراً “شاذاً”، أو غير كافٍ، ويلاحقون الشبّان الذين يرتدون لباس السبور من جينز وشورت وخلاف ذلك من الألبسة التي تعتبر تقليداً لصرعات الموضة الأميركية.
إنّ انتقاد حزب الله، على صفحات الجرائد، هو دليل واضح على مدى ما بلغته الصراعات بين التيارات الدينية الموجودة في إيران. بينما يقف خارج هذه التيارات من يقول همساً: “إنّ على رجال الدين أن يعودوا إلى مساجدهم”. وهذا يعني ثورة على الثورة، وهو ما لن يحصل ما دام نفوذ الإمام كبيراً جداً، وما دام تأثيره طاغياً.
مقالات ذات صلة
خطوة واحدة ويصبح جعجع
منـذ هزيمـة النازيـة
غورباتشيف: أندروبوف الشاب