في وسائل الإعلام الأميركي
عندما عثر الصياد الهندي الشاب البالغ من العمر خمسة وعشرين عاماً على جهاز للراديو، في إحدى طرقات العاصمة، لم يكن يعرف ماذا يخبئ له القدر، ولم يكن يعلم أنّ له علاقة سرية بالأوضاع السياسية في بلاده. فرح والتقط الجهاز وعاد لتوّه إلى البيت لكي يفرح مع زوجته وأولاده الثلاثة بهذه الحيازة الجديدة. لكنّه سرعان ما انتهى مع عائلته بمجرد محاولته تشغيل الراديو. فقد انفجر الجهاز به وبعائلته.
هذه الحكاية المحزنة لم تكن الوحيدة في بلاد الهند بعد غياب السيّدة وفوز السيّد راجيف غاندي وريث سلالتها. فقد انفجرت أجهزة راديو عديدة كانت متروكة في الساحات وعربات الباص وعلى الأرصفة وداخل المقاهي. وكان ذلك بمثابة استئناف لرحلة العنف التي لم تبدأ بموت أنديرا ولم تنتهِ بصعود ابنها إلى مركز القرار. وقد قضت أعمال العنف الجديدة “عبر الراديو” على ما يقارب مئة هندي، من بينهم عدد من الأطفال.
طائفة السيخ تتهيّأ لتنظيم احتفالات على مدار أسبوع في ذكرى “المجزرة” التي ارتكبت بحق أبنائها في أقدس المعابد، في أمريشار، على يد جيش السلطة الأنديرية، وقد شكّل موت الزعيم المتعصب جارناي سنغ برندران وال عنصر تحريض جديد ضد الزعيمة الهندية التي قتلتها هذه المجزرة بالذات، وطال التحريض كل ما ترمز إليه السيّدة غاندي، لا سيما السلطة المركزية ووحدة بلاد الهند وتعايش الطوائف في ظل استقلال البلاد، وغدت الانتفاضة السيخية ذات أبعاد انفصالية، شأنها في ذلك شأن كل حركة تقع ضحية خطأ مزدوج، خطأ إرغامها القسري على “محبة ما لا تحب” وخطأ أوهامها الاستقلالية التي لا تخدم مصالحها ولا مصالح شركائها في المواطنية الهندية.
الحزب الرئيسي لدى طائفة السيخ، خيَّب آمال الزعيم الهندي الشاب الذي أعرب عن استعداده للتعاون معه من أجل لملمة جراح الهند ومن أجل تأمين أكبر حد من الانصهار الوطني تحت مظلّة السلطة المركزية. فقد خضع هذا الحزب إلى منطق المتعصبين وسيطرتهم، وباتت الأمور تدخل في نفق مظلم وفي مستقبل ضبابي.
في البنجاب بدأت طائفة السيخ تغني ملاحم الشهداء الذين سقطوا في المعبد والشهيدين اللذين انتقما من رئيسة الوزراء الراحلة، وفي مقاطعتهم حيث يشكّلون الأغلبية، يستعدون، على طريقتهم لإعلان التصعيد ضد الهندوس، وكأنّهم يريدون في ذلك أن يقنعوا أهل السلطة باستحالة المعالجة عن طريق المجازر، فيقعون، هم بدورهم، في وهم الحل عن طريق العنف وإبادة الأطفال والفقراء.
أحـلام انفصاليـة
إنّهم في البنجاب سبعة ملايين من أجل ثلاثة عشر مليوناً يتوزّعون داخل الهند، ومن تلك المقاطعة يعلنون عن نواياهم الانفصالية. وليس مصادفةً أن تكون النزعات الانفصالية، عندهم وعند غيرهم من الأقليات في العالم، مرتبطة بوضع سياسي إقليمي ودولي، وهذا ما يؤكّد المقولة التي تتهم جهات أجنبية بتغذية مشاعر التعصب، ولا شك أنّ الأوضاع في الهند الصينية تستأثر باهتمام دولي، لا سيما بعد خروج القوات الأميركية من فيتنام، ودخول القوات السوفياتية إلى أفغانستان، والفيتنامية إلى كامبوديا.
إنّها المحاولات الأميركية الجديدة للدخول من الشباك بعد خروجها من الباب، هذا يحصل في الهند وما سبق حصوله في قبرص، ومحاولة حصوله في لبنان؛ غير أنّ الموافقة القسرية على تقسيم قبرص لم تتكرر في لبنان، وكان البديل عنها حرباً أهلية قضت على مقومات البلد السياسية والاقتصادية، وساعدها على أن تكون أكثر ضراوة تقاطع أسباب إقليمية ودولية شديدة الاحتدام.
السيّدة أنديرا غاندي جرّبت الحل العسكري، بعد أن سئمت وربما فشلت، في حلول سلمية، فوجّهت جيشها وحكمت بالإعدام على ألف من السيخ مع قائدهم، ثم دفعت الثمن. أمّا خليفتها راجيف فقد أظهر ليونة كلامية منذ اليوم الأول، وأعرب عن استعداده لفتح صفحة ولطي أخرى، ووعد بأن يُحيل إلى القضاء قضية المجازر التي وقعت ضد السيخ في أعقاب مقتل والدته السيّدة أنديرا، كما وعد بإطلاق سراح مئات المعتقلين السياسيين السيخ على يد الرئيسة الشهيدة، وبالإفراج عن تنظيم اتحاد الطلاب السيخ، وكان يأمل، من خلال ذلك تخفيف حدّة التوتر وتهدئة الخواطر.
المتطرفون السيخ يعملون على قيام دولة مستقلة لطائفتهم من أجل إثارة متطرفين من الهندوس ضدهم، بالتأكيد، عملية الفرز السكاني، كما في كل الحروب الأهلية، فيهجر الهندوس مقاطعة البنجاب، ليقصدها أهل السيخ بعد مغادرتهم كافة المناطق الأخرى، ومذا ما يؤمّن لهم الشرط الأول، الشرط البشري، لقيام الدولة المستقلة.
إبحث عن السبب خارج الحدود
دور باكستان في هذه العملية ليس ثانوياً. فعلى أراضيها يتدرب المتطرفون، ومن حدودها ينطلقون؛ وما يزيد الأمر خطورة هو أنّها، أي باكستان، تلعب نفس الدور إزاء أفغانستان، مما لا يدع أي مجال للشك في أنّ الأصابع الأميركية هي التي تحرك، بواسطة أجهزتها، أدوات لها وأجهزة داخل السلطة الباكستانية، وفي أسوأ الحالات، يدفع الزعيم الباكستاني ثمن هذا التورط، وتبقى هي، حسب اعتقادها، في منأى.
وتأكيداً لبراءتها، أعلنت الولايات المتحدة عن اعتقال “متآمرين من طائفة السيخ” كانوا يخططون لاغتيال السيّد راجيف غاندي خلال زيارته المتوقعة لواشنطن، وفي هذه الحال أيضاً، السيخ هم الذين يدفعون الثمن ومن خلالهم كل بلاد الهند. إنّ حسن النوايا الأميركية يترجم، كالعادة، بمجازر على غرار صبرا وشاتيلا عندما سبق لها أن أخذت على عاتقها تسليح إسرائيل “دفاعاً عن العالم الحر” وتعزيزاً لجبهة الدفاع عن “حقوق الإنسان”.
إنّ إعلان هذا الخبر ليس من قبيل الحماية المسبقة لرئيس الوزراء الهندي ولا من قبيل السهر الأمني المضني على حياة الزائرين. إنّه تذكير بكلمة كان أحد رجالات السيخ قد قالها بعد مقتل الزعيمة الهندية: “بقي علينا اثنان” ويعني بهما ابنها راجيف، آخر السلالة التي بدأت بجواهر لال نهرو رمز الاستقلال والوحدة، وزائيل سنغ رئيس الدولة والذي حكم عليه أهل طائفته، السيخ، بخيانتهم.
هل هو السبق الصحافي والحرص الأمني أم هو استكمال مسلسل دموي؟
مقالات ذات صلة
خطوة واحدة ويصبح جعجع
منـذ هزيمـة النازيـة
غورباتشيف: أندروبوف الشاب