3 ديسمبر، 2024

التكنوقراطي الجاهل

4 تموز 2020

ذكّرني تكنوقراطيو الحكومة بتعريف أطلقه جان بول سارتر عن المُثقّف. فهو الذي، بحسب سارتر، “يتدخّل في ما لا يعنيه”. من المؤكّد أنه لو كان قد تعرّف الى أعضاء حكومتنا، لكان اختار تعريفاً آخر.

هو كان يقصد التمييز بين المُثقّف والمُتعلّم. والمُتعلّم، إن صحّ التعبير، هو التكنوقراطي المُتخصّص في مجال من مجالات المعرفة. أما المُثقّف، فهو الذي يهتمّ بأمور أخرى أيضاً ليست من صميم اختصاصه، هو الذي يهتمّ بالشأن العام.

كما ذكّرني هذا التعريف بالتباسات ترجمة هذا المُصطلح إلى اللغة العربية. في اللغات الأجنبية، المُثقّف كلمة مُشتقّة من جذر لغوي معناه العقل والفكر (intellect) أحد اشتقاقاتها، الأنتليجانسيا، تحيل إلى معنى المناضل في المجتمع من أجل التغيير والتقدّم، وهي صيغة استخرج منها المفكّر الإيطالي غرامشي مُصطلح المُثقّف العضوي. في الترجمة ابتعدت الكلمة عن هذا الجذر، لأنّ الجذر الثلاثي في اللغة العربية “عَقَلَ” يعني ربط وقيَّد، ولا يكون المُثقّف مُثقفّاً إذا كان مُقيّداً بأربطة. لا يكون مُثقّفاً إلّا إذا كان حُرّاً.

أعضاء حكومتنا مُثقّفون بمِعيار التعريف السارتري، لأنّهم مُتخصّصون، كلّ في مجال من مجالات المعرفة، ويتعاطون الشأن العام. التجربة العملية دلّت على عكس ذلك. صحيح أنّهم يتدخّلون في الشأن العام، لكنّهم لا يُطبّقون ما اكتسبه كلّ منهم في مجال تخصّصه، ولا يُجسّدون حرية الفكر التي لا حياة للثقافة من دونها، بل هم أدوات تنفيذية بيد من هُم أقلّ معرفة وعلماً وثقافة منهم.

من بديهيات من يعمل في الشأن العام أن يحسّ بأوجاع الناس، وأن يستخدم المعارف التي اكتسبها لمعالجة هذه الأوجاع، غير أنهّم يتربّعون على كراسيهم بآذان طرشاء وعيون بلهاء. صفّقوا في اليوم الأول إعجاباً بشجاعة رئيسهم حين أدان نهج المحاصصة، وفي اليوم التالي حوّلوا مجلس الوزراء إلى احتفال بميلاد موظف تمّ تعيينه بمعايير المحاصصة. يُقرّرون في اجتماع القصر الحكومي خطة للكهرباء، ثم يقرّرون عكسها في اجتماع القصر الجمهوري. وزيرة الدفاع تعتذر من السفيرة الأميركية، ووزيرة الإعلام تسحب الإعتذار. يستدعيها وزير الخارجية ثمّ يمون عليه وينوب عنه بالتصريح نائب في البرلمان. هذه عيّنة من مجلس سيّد قراره، ولا عجب، فالبرلمان كان القدوة والمثال في السيادة منذ أيام حكم الوصاية.

تمّ اختيارهم ليمثّلوا كفاءاتهم الأكاديمية، وليكونوا بديلاً عمّن كان سبباً في تفاقم الأزمة، فإذا بالكفاءة التي اختاروها تباهياً ليست سوى الولاء الإنبطاحي للأصيل، فكيف إذا كان الأصيل مُتّهماً بنهب المال العام؟ أمّا الوكيل فهو”مُثقّف” لا يتسلّح بعلمه، بل بشهادة ممهورة بخاتم من هو أدنى منه مرتبة في العلم، وليس ضرورياً أن يكون حامل الخاتم زعيماً، يكفي أن يكون واحداً من أزلام الزعيم ومفاتيحه الإنتخابية، وهذا ممّا لا يرقى إلى قيم المُثقّف، ولا إلى شيمه.

نعتذر من تعريف سارتر، لأن أعضاء حكومتنا يتدخّلون في ما لا يعنيهم، لكنّهم ليسوا مُثقّفين، بل هم أكاديميون يجهلون أصول التدخّل في الشأن العام، وعليهم أن يغادروا موقعاً احتلّوه عن طريق الخطأ.