25 كانون الثاني 2020
وصلت الثورة إلى محطة ولم تقف على مفترق. ليس أمامها غير خيار واحد، هو الاستمرار في الاتجاه ذاته، نحو تحقيق نصر مؤكد، لكن لا هو بالسهل ولا بالقريب. هذا ليس من باب التفاؤل ولا من باب التمنيات. فالثورة وضعت الإصبع على جرح الأزمة، بتشخيصها السليم وتحديدها الدقيق لمسببيها: أهل النظام الفاسدون من منتهكي الدستور والقوانين وناهبي المال العام والمتاجرين بالطوائف والأديان والمفرطين بسيادة الوطن. خريطة الطريق التي رسمتها الثورة احتكمت إلى الدستور والتزمت بأحكامه، تحت راية شعار لبناني الصنع: الشعب يريد تطبيق النظام.
تطبيق النظام لا إسقاطه. فالإسقاط هو مطلب ثورات فجرتها الشعوب العربية على أنظمتها غير الدستورية. الهتاف المبتكر المطابق، كالحفر والتنزيل، لمواصفات نظام الميليشيات العسكرية والسياسية ومافيات النهب هو “يسقط يسقط حكم الأزعر”، ذلك أن الميليشيات والمافيات، هي بالتعريف، منظمات خارجة على القانون. والخروج على القانون هو بداية العنف، والبادئ بالعنف هم أهل النظام.
إغتصاب السلطة عنف. فسلطة الطائف هي بنت النظام الأمني اللبناني السوري الذي كان يعين أعضاء البرلمان من خلال انتخابات صورية، فلا ينعم بمنصب رئيس أو وزير أو مدير إلا من يحظى برضى ضابط المخابرات.
الطائفية عنف، ويصر الحاكم على ركوب موجتها واستخدامها مطية لمصالحه الشخصية، أهل الحكم فرقوا بين اللبنانيين، أما الثورة فوحّدتهم وصهرتهم شعباً ومواطنين من الناقورة حتى النهر الكبير.
سرقة المال العام عنف، فكيف إذا دخل اللص منزلك وقيّدك وهدّدك بأولادك وبحياتك إن شكوت أو صرخت، ثم يدينك من غير محاكمة بتهمة الافتراء؟
المحاصصة عنف، فكيف إذا رأيتهم يتوزعون في ما بينهم الدولة والسلطة والإدارة والوزارة كأنها آلت إليهم بالوراثة؟ وكيف إذا رأيت الرئيس المكلف يأخذ علماً بأسماء وزرائه عند طباعة المراسيم.
الاستخفاف بالرأي العام وبكل رأي مختلف عنف. فكيف إذا كان الجواب على مطالب الثورة مزيداً من تمادي منظومة النهب باستنساخ آليات القهر ذاتها في التكليف والتأليف، التي لم يسلم من إذلالها أحد أصحاب الكفاءة والنزاهة المحترم الدكتور دميانوس قطار.
تدمير سلّم القيم السياسية والاجتماعية والأخلاقية عنف ما بعده عنف، خصوصاً عندما ترى الأولوية للمستزلم والانتهازي على صاحب الكفاءة، وحين تشهد بأم العين على انهيار مؤسسات الدولة الإدارية منها والتربوية لغلبة معيار الولاء على معيار القانون.
الجوع عنف والفقر عنف والخوف من المجهول الآتي عنف والموت على باب المستشفى عنف والنوم في العراء عنف.
قمة العنف حين يصادر الحاكم القضاء وينزله من مقام السلطة إلى مقام الوظيفة، وحين يوكل قمع الثورة إلى ميليشيات نيابية تشن غزواتها الجاهلية أو تحاكي حملة الإبل في ميدان التحرير المصري. وذروته حين يحتل رأس هرم السلطة رجال سياسة صغار كأن الشاعر كان يعنيهم في قوله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم… وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها… وتصغر في عين العظيم العظائم، من مآثر الثورة اللبنانية أنها سلكت طريق “السلمية” لمواجهة عنف السلطة السياسية. ومقتلها إن هي انزلقت إلى “الرد على العنف الرجعي بالعنف الثوري” أو إذا أجازت للعنف الرجعي المندس أن يفرق صفها.
الثورة تمتلك من أدوات “العنف السلمي”، العنف الحلال، ما يؤرق أهل الفساد والإفساد ولا يؤذي غير لصوص المال العام ومحاصصي ثروة البلاد ومدمري دستورها. السلسلة البشرية جمعت أطراف الوطن وتلونت بالعلم اللبناني وبسلمية أدهشت العالم، فكانت برداً وسلاماً على المواطنين وسيفاً مسلولاً على المرتكبين. العرض المدني كان عيداً للوطن وفرحاً وأملاً بفجر جديد، وكأنه مأتم عند المفرطين بالوحدة الوطنية وخوف من غد أسود ينتظرهم. الثورة التي احتلت المرأة موقع الطليعة فيها، والتي أخرجت إلى النور أجيالاً شابة مسلحة بمستوى عال من الوعي السياسي المتألق وبابتكارات ثورية غير مسبوقة من بينها السلسلة البشرية والعرض المدني، لن تبخل على الوطن بإبداعات ثورية جديدة لمتابعة مشوارها الطويل، ضغطاً سلمياً على المسؤولين وحشوداً أمام بيوتهم وفي الساحات وتظاهرات ترشد القضاء إلى حيث شبهة الفساد، وعرائض وبيانات وحملات ينظمها الإعلاميون والفنانون والأدباء من أهل الثورة.
في مثل هذا الضغط السلمي ما يفرح قلوب المتعاطفين مع الثورة، وفيه من العنف المركّز ما يقض مضاجع المرتكبين ويرميهم في غياهب القلق والخوف على المصير.
لن تكتفي الثورة بالمحاسبة، بل هي ستنتقم. والثورة لا “تأخذ حقها بيدها” أو بالعنف، فهذا شأن الخارجين على القانون، بل هي تضغط لكي ينتقم القضاء لها بمحاسبة الجناة.
مقالات ذات صلة
طوفان عيوب في حرب الإسناد
حزب الله كمقاومة وحزب الله كحركة تحرر وطني
هل الصمت الدولي مشروع ومبرر؟