21 نوفمبر، 2024

ابتكارات الثورة اللبنانية ومغالطات حركة المبادرة الوطنية

11 آذار 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/16565

قراءتي الأولى لبيان حركة المبادرة الوطنية 2020 أوهمتني أن الحركة مولودة من رحم الثورة، وحين دققت في قراءة النص اكتشفت أنها تتبرأ من الثورة عن غير قصد. البند السابع من برنامجها ينص على أن “كافة الحقوق المدنية التي طالما نادى بها اللبنانيون طلباً للحداثة والديموقراطية… حَمَلَها مجدداً ثوار 17 تشرين”. في لاوعي النص أن الثورة لم تقدّم جديداً بل هي تكرر المطالبة بما سبق للبنانيين أن طالبوا به.

لي بين الموقعين على البيان صداقات، وشاركت عدداً منهم في صياغة بيانات مشابهة وفي تشكيل أطر للمعارضة الشعبية كحركتهم هذه. ولا أشك في وطنية أي منهم وفي صدق رغبتهم في إنقاذ الوطن مما هو فيه. لهذا أجدني مدفوعاً إلى مخاطبتهم بصراحة المحب والصديق، مثلما سبق لي أن خاطبتهم حين كنا جنباً إلى جنب في كل مسيرات حركة 14آذار الاستقلالية، التي لم أنخرط فيها بسبب اعتراضات تشبه اعتراضي على حركة المبادرة الوطنية 2020.

لا بد من القول بداية إن ثوار 17 تشرين لم “يحملوا مجدداً مطالب طالما نادى بها اللبنانيون”، بل إنهم، ولأول مرة في تاريخ لبنان، يقدمون جديداً لم يسبقهم إليه أحد، وهو المطالبة بإعادة تشكيل السلطة على غير تلك الأسس السابقة التي كانت تتكرر من عهد إلى عهد، في ظل الوصايات وقبلها. وأهم ما في هذا الجديد أنهم وضعوا أسساً جديدة لجمع اللبنانيين تحت علمهم الوطني على أنقاض انقسامات قديمة من بينها الانقسام الآذاري نفسه. بعبارة أخرى، إذا كان لانتفاضة الاستقلال الفضل في مواجهة الوصاية السورية، فهي قصّرت عن مواجهة العوامل الداخلية التي كانت السبب في استدراج القوى الخارجية، في حين أن ثوار 17 تشرين وضعوا الإصبع على الجرح وصوبوا على هذه العوامل باعتبارها هي المسؤولة عن كل أنواع التدخل الخارجي.

جديد الثوار لم يقتصر على هذا، فهم طووا صفحة الحرب الأهلية التي لم يشهدوا فصولها الدامية، ولم يسعوا إلى إدانة أحد بل تركوا لمن أخطأ بحق الوطن من أهل الوطن خطاً الانسحاب من أخطائه، ذلك أن أزمة انتهاك السيادة الوطنية لم تبدأ العام 1990 بل هي بدأت منذ كان سياسيو لبنان يتقاسمون تلك السيادة ويتحاصصونها في ما بينهم ويوزعونها إلى سيادات على زعماء الطوائف والأحزاب من أبطال الحرب الأهلية. نعم، سيادة الدولة ليست سوى سيادة القانون، ومنتهكو القانون والدستور هم من أهل البلاد الأصليين في السلطات المتعاقبة وفي المعارضات المتعاقبة قبل الحرب الأهلية وخلالها وفي كل عهود الوصايات.

من غير أن تتنبه حركة المبادرة الوطنية، تقع في فخ التعمية على المسؤول الحقيقي أو الأساسي عن الأزمة، فتصوّب على الوصاية الخارجية على غرار ما يصوب آخرون على القطاع المصرفي أو على التدخل الأميركي أو السعودي أو على الحريرية، أو على الجانب المالي من الأزمة دون السياسي، وكلهم مسؤول جزئياً طبعاً، في حين أن المسؤول الأول والأساسي عن هذا الدمار الوطني هو انتهاك داخلي متمادٍ للسيادة الوطنية استدرج كل الانتهاكات الخارجية وشكّل تغطية لها، وهو يتمثل بقوى اعتمدت نهجاً ميليشيوياً، بسلاح وبغير سلاح، دمر الدولة ومؤسساتها وانتهك الدستور وألغى مقومات النظام الديموقراطي.

إبتكارات الثورة اللبنانية ومغالطات حركة المبادرة الوطنية 2020 (2/‏4)

12 آذار 2020

ترى حركة المبادرة الوطنية اللبنانية أن “من المفارقات اللافتة في مشهد الحراك الشعبي العربي ضدّ الفساد والديكتاتورية والهيمنات الخارجية أن يكون في صُلب شواغله البحثُ عن وثيقةٍ دستورية تعاقدية توجّه مساره نحو غاية وطنية جامعة، بينما نمتلك نحن اللبنانيين مثل هذه الوثيقة بعد تعارك الخيارات والآراء والبنادق على مدى عقدٍ ونصف من الزمن، ولكننا نتصرّف اليوم وكأننا من جملة الباحثين!”.

المغالطة الأولى في هذا النص هي أن الحراك الشعبي العربي لم ينطلق ضد “الهيمنات الخارجية” بل هو انطلق تحديداً وعلى وجه الدقة ضد أنظمة الاستبداد في الجمهوريات الوراثية على وجه الخصوص، ولا سيما ما يتجسّد من هذا الاستبداد في انتهاك الدساتير أو إلغائها بالأحكام العرفية أو قوانين الطوارئ أو نظام الأجهزة الأمنية، ولذلك بدت المطالبة بسن الدستور أول بند في برنامج كل حراك، ومنه استحق عن جدارة أن يسمى ثورة بدل حراك أو انتفاضة وغير ذلك من التسميات، ذلك أنه شكل أول ثورة في العالم العربي منذ النبي محمد، متجاوزاً كل الثورات المزعومة التي لم يطالب أيّ منها بإعادة تشكيل السلطة بل كانت تكتفي بانقلاب سلطة على أخرى من الطينة ذاتها.

المغالطة الثانية تكمن في أخذها الثورة اللبنانية بجريرة أخواتها في الربيع العربي، وكأنها، كالثورات الأخرى، “من جملة الباحثين عن وثيقة دستورية تعاقدية، فيما يمتلك اللبنانيون مثل هذه الوثيقة”. لم أجد مبرراً لهذا الحكم بعد أن تباهى العالم باللبنانيين الذين ابتكروا ثورة تحت سقف الدستور، انطلقت مطالبة بـ”تطبيق النظام” خلافاً لما أجمعت عليه الهتافات في ثورات الربيع العربي، الشعب يريد “إسقاط النظام”، ولا ينفي ذلك أن تكون مجموعات من الثورة قد نطقت بهذا الشعار، لكن البرنامج الذي توحدت تحت سقفه كل المجموعات لم يترك مجالاً لأي تأويل: إسقاط الحكومة، تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات استثنائية تكون مهماتها محصورة بمحاربة الفساد واستعادة المال المنهوب وتحقيق استقلالية القضاء ومحاسبة المسؤولين عن كل مظاهر الانهيار ولا سيما المالي والنقدي، كل ذلك تحت سقف الآليات الدستورية المتعلقة بتشكيل الحكومات وبدور المجلس النيابي.

يرد البيان أسباب الأزمة المتفاقمة إلى “عاملٍ سياسيّ رئيس هو استمرار الوصاية على لبنان منذ العام 1990 حتى الآن، أكانت وصايةً سورية أو ايرانية”. الترجمة البرنامجية لهذا التشخيص تجعل الثورة اللبنانية جزءاً من حركة التحرر الوطني، أي عضواً في تجمع الممانعة الذي يعتاش على الصراع مع العدو الخارجي ليطمس الصراعات الداخلية. فضلاً عن أن الثورة اللبنانية حددت في تشخيصها الدقيق أن مهمتها الأولى هي إعادة بناء الوحدة الوطنية وإعادة بناء الدولة. ذلك لا يعفي الخارج من مسؤولياته لكن دوره مستند إلى الركائز الداخلية الميليشياوية التي استدرج كل منها قوة خارجية يستعين بها على أبناء وطنه.

إبتكارات الثورة اللبنانية ومغالطات حركة المبادرة اللبنانية (3/‏‏4)

13 آذار 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/16730

غاب “حزب الله” عن النص (نص حركة المبادرة) غياباً كاملاً لا يشبه غيابه عن خطاب الثورة على اختلاف وسائل تعبيرها. في النص تورية غير بليغة ولعب لغوي يشير إلى “حزب الله” بالكناية. أما الثورة فلم يرد في خطابها أي إشارة إلى “حزب الله” لا بالتورية ولا بالتسمية الصريحة. والفارق بين الغيابين جوهري. في النص أصيل ووكيل، يغيب أحدهما ليحضر الآخر. أما في الثورة فلا وكيل ولا أصيل.

السبب بسيط جداً. حركة المبادرة تنطلق من نظرية المؤامرة ودور العوامل الخارجية، فيما تشدد الثورة على العامل الداخلي. يظهر ذلك جلياً في البرنامج، إذ تشدد حركة المبادرة في برنامجها على أن الوصاية تحمي الفساد والفساد يحمي الوصاية. لكن الكلام عن وصاية إيرانية هو هروب لغوي فحسب من تحميل المسؤولية عن الأزمة بالإسم لـ”حزب الله”. أما برنامج الثورة فهو محدد حصراً ببنود إصلاحية تتعلق بالنظام اللبناني وآليات عمله، كما أن تشخيصها الأزمة لم يتضمن أية إشارة إلى أعداء الخارج من الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، لا ليرفع عن هذه الأطراف تهماً قد تكون مستحقة، بل ليحدد موقع الثورة باعتبارها ثورة ضد استبداد داخلي المصدر بالدرجة الأولى.

إنتفاضة الاستقلال كانت قد انتهت إلى الفشل رغم أنها ساهمت بخروج القوات السورية، ويعود السبب في فشلها إلى أن الخطر في نظرها كان خارجياً، واعتقدت أن زواله كاف لإعادة لبنان إلى سكة السلامة، وعلى هذا الاعتقاد نهض التحالف الانتخابي الرباعي.

الارتباك أمام مسؤولية “حزب الله” المدعوم من إيران تكرار للارتباك أمام مسؤولية نظام الوصاية السوري، الذي تراوحت نعوته وأسماؤه بين الوجود والاحتلال والعلاقات المميزة. ذلك أن القوى ذاتها التي قاومته بصفته قوة خارجية هي التي كانت قد شاركت باستدراجه للاستعانة به على بعضها البعض، وهي التي طالبت برحيله قبل أن تقوم بعملية قطع حساب عن مسؤوليتها في الحرب الأهلية، أي قبل أن تحدد مسؤولية الأطراف الداخلية عن سلوك خيار الحرب لمعالجة الأمور المتعلقة بانتهاك السيادة وبإصلاح النظام.

نعم. “حزب الله” مسؤول لا بسبب قوته العسكرية، فالقوة العسكرية لم تنقذ نظام الشاه ولا النظام الشيوعي في موسكو، بل بسبب مشروعه السياسي الذي لا يؤمن بالدولة ولا بالديموقراطية. ولا لأنه يتلقى تعاليمه وتعليماته من إيران ولا لأنه يعتاش على مساعداتها المالية والتسليحية، بل لأن برنامجه يقوم على عدم الاعتراف بلبنان وطناً نهائياً، شأنه في ذلك شأن القوى القومية واليسارية والاسلامية والمسيحية، التي كانت تريد لبنان وكيلاً لقوى خارجية وجزءاً من صراعاتها وتعمل على إدخاله في محاورها.

لقد أصابت الثورة حيث أخطأ سواها. أصابت لأنها حمّلت جميع القوى مسؤولية انهيار الدولة ومسؤولية استدراج الخارج، وهذا هو مصدر قوة الشعار، كلّن يعني كلّن، لكنها ميزت بوضوح بين “حزب الله” كقوة سياسية وبين جمهوره، تماماً كما فعلت مع سائر القوى الأخرى. خط التصويب عندها هو الخطر المتمثل بانتهاك السيادة من الداخل وتوزيعها إلى سيادات بين زعماء الطوائف والأحزاب والمناطق، وهو نهج مبتكر من الاستبداد يقوم على إلغاء الدولة والدستور والمؤسسات وعلى تقاسم الثروة الوطنية المادية والبشرية بالمحاصصة، بالاستناد إلى دعم خارجي.

إبتكارات الثورة ومغالطات حركة المبادرة الوطنية (4/4)

14 آذار 2020

هل هي صدفة أن تخلو لائحة الموقعين على بيان حركة المبادرة الوطنية من أسماء صانعي الثورة من جيل الشباب، أم أن هؤلاء لم يلبوا دعوة آبائهم للمشاركة في تأسيس هذا الإطار الجديد، أم “إن الطيور على أشكالها تقع”؟

لا. لم يكن ذلك صدفة. نحن، جيل الآباء، خضنا غمار تجربة الحرب الأهلية بالانخراط المباشر فيها أو بالتبشير بها أو بالتهليل لها، وعندما حطت أوزارها اكتفى كل منا بتعداد أخطاء الآخرين. كانت قضيتنا واحدة وإن على جبهات متقابلة. كنا نخوض معارك التحرير، تحرير الوطن من مواطنيه، من “الانعزاليين” أو من “اليسار الدولي” والعربي أيضاً. واستجرنا من رمضاء خصوم الداخل بنار القوى الخارجية القريبة والبعيدة، حملنا سلاحها وصوبناه على أبناء الوطن.

جيل الشباب لم يشهد شرور هذه الحرب، وهو فجر ثورته على السلطة الحاكمة لأنها مصرة على إدارة شؤون الوطن بالنهج الميليشيوي ذاته الموروث من أيام الحرب، وهو نهج نقيض للدولة الدستورية ويتلطى خلف شعارات الحرية والتحرر من عدو خارجي ما، وهي شعارات دخلت في أسماء العديد من الأحزاب والتجمعات والتكتلات السياسية والنيابية. لا يعني ذلك أن “قتل الأب” هو باب الدخول إلى الثورة بل إن الولوج إليها يتم بالتفاعل معه والاستفادة مما في تجربته من دروس مفيدة وجوانب مضيئة، وهو أمر يتطلب إنجازه التعاون والتكامل بين الجيلين، جيل الخبرة وجيل الجرأة والحيوية.

غير أن أمر الثورة لا يتعلق بالأعمار وعدد السنوات، فبين الآباء من هم أكثر نشاطاً وحيوية واندفاعاً من بعض الأبناء، وهذه هي حال الموقعين على بيان المبادرة الوطنية، ما يجعلهم مؤهلين للانخراط في صفوف الثورة بل لتبوؤ مكانة طليعية وقيادية فيها، شريطة خروجهم من بعض ملامح المنطق الذي ساد في تجربتهم الأولى، من بينها تحويل الخصومات السياسية إلى عداوات أو تحويل التنوع والتعدد إلى عامل فتنة واقتتال، وخروجهم من فرضيات التحرر والتحرير وشن الحروب ضد عدو خارجي. مثل هذا التفاعل يمكن بناؤه على قاعدة صلبة قوامها إجماع جيل الآباء وجيل الشباب وجيل المخضرمين على كل البنود المتعلقة بإصلاح النظام السياسي.

من ناحية ثانية، فاجأ الجيل الشاب آباءه بمستوى رفيع من الوعي السياسي، خلافاً لانطباع مغلوط عنه كجيل عرف عنه تعلقه بالهواتف الذكية التي قلصت روابطه المباشرة مع محيطه ومنعت عنه المعرفة عن طريق الكتب وأتاحتها في التطبيقات والموسوعات المحفوظة في الأرشيف الكوني.

هذا الجيل المنخرط بالثورة متنوع يضم بين صفوفه مجموعات تثقفت بثقافة حروب التحرير، وهي بتكرارها معزوفات قديمة عن المسألة الشرقية والثنائية القطبية، تقحم المتحمسين من الجيل الشاب في نضالات فوضوية وترميهم في أحضان أصوليات مرشدها الروحي نصوص عتيقة من كتب السلف الديني أو القومي أو اليساري. إن ذلك يزيد الحاجة إلى جيل الآباء، ولا سيما من غادر ماضيه بنقد ذاتي جريء وخلاصات مفيدة.