22 نوفمبر، 2024

حقوق الطوائف أم تجارة الأديان؟

27 آب 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/28413

هذه المقالة تحية إلى أديب الصحافة سمير عطالله.

يا ترى ما هي “حقوق المسيحيين”؟ تتساءل ونتساءل معك، يا ترى ما هي “حقوق الشيعة”؟ تسأل عن حقوق الطوائف ونسأل معك هل من حقوق للجماعات الخارجة من الطوائف أو عليها؟ عن حقوق اليسار العلماني مثلاً، بعثيين وشيوعيين وقوميين؟ كل جماعة تدّعي لنفسها حقوقاً داخل الدولة هي جماعة ضدّ الدولة وضدّ الوطن، هي جماعة تسعى إلى بناء دولة داخل الدولة وعلى حساب الدولة من أجل تدمير الوطن.

المارونية السياسية كانت البادئة. شحنت خطابها بحقوق مزعومة للمسيحيين، لكنّها ليست الوحيدة. الحركة الوطنية استحقّت نعتها بـ”اليسار المسلم” لأنها واجهت “اليمين المسيحي” وحملت الراية بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن المسلمين، وطالبت بحقوق للطائفة السنّية. وافقني الرأي أحد زعماء الطائفة قائلاً، وما حاجتك لأن تطبخ أنت إن كان لديك طبّاخ؟ ربما كان القبول بوجود طبّاخ فلسطيني يساري هو في حدّ ذاته خطيئة، حتّى إذا تولّى المهمّة نظام الوصاية جعل القوى المحلية أدوات تنفيذية طيّعة بيديه، وحوّل الوطن والدولة والقانون والدستور إلى وليمة، ودعاهم إلى فتات المائدة.

السؤال عن حقوق المسيحيين لا يكفي، لا بدّ من سؤال آخر، وربّما أسئلة، عن حقوق مَن مِن المسيحيين؟ عن حقوق من تجعلهم تجارة الطائفية، عاماً بعد عام وأزمة بعد أزمة وانفجاراً بعد انفجار، متحدّرين من أصل لبناني، أو الذين دفعهم تجّار الحرب الأهلية ليكونوا وقوداً لها فرفضوا وهاجروا وتهجروا وتشرّدوا في أصقاع الأرض الأربعة، أم عن حقوق ضحايا هيروشيما بيروت، أو ضحايا حروب التحرير والإلغاء؟ وبأي طريقة يمكن لحاكم عادل أن يوزّع هذه الحقوق على مستحقّيها؟

الحقوق المزعومة تدفع الطائفة إلى الذهاب “بخياراتها دوماً إلى الإثارة بدل العقل، والإصغاء الى دعاة الإنتحار بدل أهل التفكّر” بحسب تعبير سمير عطالله. الحقوق المزعومة تصنع الجماعة المغلقة، تضعها في قفص التعصّب وتُغلق عليها الأبواب. ليست المارونية السياسية وحدها من رفع الأسوار وجعل المقيمين أو المنفيين خارج السور عدواً. شاركها في ذلك من مارس القصف العشوائي من فوق خطوط التماس على منطقة أو قرية في الضفّة الأخرى من الوطن، ومن ساهم في عملية الفرز السكّاني بهدف عسكرة الجماعة. هذا هو معنى حرب المارونية السياسية ضد الغريب، أو المعنى الذي بنى عليه اليسار اعتقاده بوجود طوائف وطنية وأخرى انعزالية.

حسناً فعلت القيادات السنّية حين تخلّت للفلسطينيين وللحضن العربي وللأحزاب عن دورها في إدارة الحقوق المزعومة للطائفة، غير أنّ عملها “الجليل” هذا لم يمنع الجماعة من أن تصير مجموعات ولا الشعور بالغبن من أن يتحوّل عنفاً حمل إسم الإرهاب. إرهاب لامركزي رمى اليأس أصحابه في أحلام الماضي حيث تنمو الألقاب كالفطر فينبت في كل حي “أمير” وتنبعث أوهام السلطنة والدولة الإسلامية.

مع أنّ “حقوق المسيحيين” ليست حقوقاً، إلا أنّهم كانوا يرونها مكتوبة في سجلّ ولادة الوطن وفي سند ملكيته. يزعمون أنهم هم الذين بنوه وبعثوه حياً من تراب التاريخ الفينيقي والكنعاني ومن كتب الدين، وأنّهم فتحوا باب الإنتساب إليه حتى صار “لبنان الكبير”. أما حقوق سواهم، المزعومة هي الأخرى، فليست فحسب بلا حسب أو نسب أو تاريخ، بل هي الغراب يقلّد مشي الحجل، أو تكرار بمثابة المهزلة والمضحكة والتهريج. إنها حقوق الشيعة. حقّهم بوزارة المالية مثلاً ليوقّع الوزير السيادي لا كعضو في حكومة، بل كممثّل لزعيم الطائفة وليس للطائفة، أو بوزارة الخارجية ليدافع عن مواقف الزعيم أو عن مصالح مزعومة للطائفة في المحافل الدولية لا عن المصالح الوطنية؛ أو كوزير بدعة، وزير الخدعة، الوزير الملك، يشرب من البئر ثم يرمي فيه حجر التمثيل الطائفي البغيض.

“حقوق الشيعة” لها الفضل في فضح الكذبة التي تطالب بحقوق الجماعات بدل حقوق المواطن الفرد، القائلة بدولة المحاصصة لا بدولة القانون، بالدولة الزبائنية لا بدولة الكفاءة، بدولة التشبيح الميليشيوي لا بتكافؤ الفرص. “الحقوق” تحوّل الطائفة جماعة مغلقة، مغلقة بالمعنى الثقافي والاجتماعي والسياسي.

قضاء النبطية هو أكثر أقضية لبنان صفاء طائفياً بغلبة شيعية. مراهق من قرية مجاورة طلب أن يأتي إلى قرية مختلطة في القضاء ليتعرّف على شكل الإنسان المسيحي. إلى هذا الحدّ وصل الإنغلاق. لم تكن الشيعة طائفة مغلقة، صارت كذلك بعدما انتقلت إلى عهدة الثنائي. السيد موسى الصدر دعا إلى الإنخراط في الدولة، وجال في الجنوب وفي البقاع مع شريكه الأب غريغوار حداد ليبشّرا بفكرة الدولة والوحدة الوطنية من شبّاك الدين. تولّت الكنيسة محاصرة الكاهن، وتولّى الإستبداد العربي التخلّص من رفيقه. وصايا الشيخ محمد مهدي شمس الدين نصحت الشيعة اللبنانيين بأن يتصرّفوا بصفتهم لبنانيين أولاً قبل أن يكونوا شيعة، غير أنّ الثنائي خاض حرباً مقدّسة، قيل إنها حرب الشيعة والمتاولة، ضحايا بالآلاف وقرى مدمّرة، أحدهما دفاعاً عن مصالح سوريا والآخر دفاعاً عن مصالح إيران.

قد تتعارض أفكار العلمانيين مع المراجع الدينية، إلا أنّ الدعوة إلى التقوقع الطائفي لم تصدر عن رجال الدين بل عن رجال السياسة، يميناً ويساراً. الأحزاب اليسارية فضّلت الإنحياز للثورة الفلسطينية ضد الدولة. الأحزاب القومية اعترفت بوطن واحد وأنكرت وجود أوطان عربية. ولذلك لم يكن لبنان يعني أحداً منها كوطن، بل استخدمته كساحة لتصفية الحسابات الخارجية. كلّ ذلك لم يأخذ الشيعة نحو التشرنق الطائفي، لكنّه أرشدهم إلى طريق الإنفصال عن الدولة وتخريب مؤسساتها، مُستعيداً دور الطفار أيام الإنتداب، الذين اختاروا الاصطفاف وراء أقرب الإحتمالات التي يُمكنها أن تنقذهم من الإنخراط في الدولة، وتحافظ بالتالي على مواقعهم وسلطاتهم المحلية في مواجهة مشروع الدولة.

حقوق الشيعة ليست للفقراء منهم. الشيعية السياسية ضحّت وتضحّي بهم على مذبح مصالحها. وليست للنخب المبدعة منهم في التجارة أو في المهاجر، فهذه كانت بمثابة البقرة الحلوب فحسب. ولا لرجال الدين، بل لمن ارتضى منهم أن يلوي عنق النصوص والطقوس الدينية استجابة لرغبة السياسي ورعاية لمصالحه. الشيعية السياسية تستخدم رجال الدين استخداماً رخيصاً فتجعلهم أبواقاً، وتحوّل المؤسسة الدينية منصة ومنبراً تصدر منه من المواقف ما تخجل أن تصدره من منابرها السياسية. والحقوق ليست للنخب المبدعة في العلوم والطبّ والأدب والفنون، لأنّ الزعيم يتعامل معها كما لو أنّها أداة من أدوات “تويتر” وفيسبوك التي، بحسب الكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو، “منحت حقّ الكلام لفيالق من الحمقى وساوت بينهم وبين من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”. بل هو بالأحرى “زمن الرويبضة”، الزمن الذي، بحسب قول صحابي جليل، يسوس فيه العامّةَ سفهاءُ العامة.

حين تتناول بالكلام المارونية السياسية أو الشيعية السياسية، تتولى فيالق الحمقى رميك بكل التّهم الجاهزة، وتنبري أبواقهم لتدافع عن الموارنة وعن الشيعة. لا يا أخي، اعتراضنا ليس على الدين ولا على الجماعات الدينية، بل على كيانات سياسية تستخدم الدين منصّة. فلا المارونية السياسية هي الموارنة، ولا الشيعية السياسية هي الشيعة، ولا نحن في عصور التبشير الديني. الموارنة والشيعة مع سائر المجموعات الدينية هم عنوان التنوّع والتعدّد، فيما التنظيم السياسي الذي يستظلّ بالدين والطائفة هو عنوان التعصّب والتخلّف والجهل. المارونية السياسية كشّرت عن أنيابها في وجه الدولة مرتين، في الأولى ضدّ التجربة الشهابية، وفي الثانية بتحالفها مع الشيعية السياسية واعتمادهما النهج الميليشيوي في وجه الدولة، بسلاح وبغير سلاح، القائم على انتهاك القوانين والإنقلاب على الدستور.

لا حلّ إلا بالدولة، والحقوق هي حقوق المواطنين الأفراد، حقوق الإنسان الفرد. هذا ما نصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وشرعة حقوق الإنسان. ليس لأي جماعة حقّ على الدولة، بل على كلّ الجماعات الإنضواء تحت سقف القانون، فهو الكفيل وحده بتحويل التنوّع طاقة خلّاقة ومصدراً للثروة والغنى. القانون وحده يحمي التنوّع ويرعاه ويُنظّم الإختلافات، أما التنظيمات السياسية الطائفية فلا تزرع غير الفتن.

مشاعر الجمهور يمكن تفسيرها وتبريرها. في بداية السبعينات، قبل انفجار الحرب الأهلية بقليل، تقابل فريق أرارات من أرمينيا السوفياتية وفريق النجمة اللبناني على ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية. تعاطف اللبنانيون الأرمن مع بطل الاتحاد السوفياتي في حينه. في لقاء آخر بين النجمة وفريق مصري هو إما الأهلي أو الزمالك، تعاطف الجمهور البيروتي مع الفريق المصري. هذه مشاعر يُمكن تفسيرها وتبريرها، وهي لا تشكّل خطراً إلا إذا انتظمت في مشروع سياسي، ولا يشكّل المشروع السياسي خطراً إلا إذا صار مشروعاً ضدّ الدولة ودستورها وضدّ الوحدة الوطنية. هذا خطر لم يتبلور في جسد المكوّنات اللبنانية إلا في مشروعي المارونية السياسية والشيعية السياسية. جماهير الطوائف والمذاهب لها مشاعرها. هذا حقّ، إلا إذا وظّفها مدراء الفتنة في مشروع سياسي فئوي معادٍ للدولة.

ينسب إلى أينشتاين قوله، الغباء هو فعل الشيء ذاته مرّتين بالأسلوب ذاته والخطوات ذاتها وانتظار نتائج مختلفة. المارونية السياسية والشيعية السياسية تكرّران اليوم المغامرة بقيادة “التيار الوطني الحرّ” والثنائي الشيعي. وهي ليست مغامرة إلا لأن المشترك بينهما هو التقاؤهما على ما يهدّد وحدة الدولة ويُدمّر مؤسساتها ويُخرّب الوحدة الوطنية.

يحقّ لك أن تُناصر من تشاء وتتعاطف مع من تشاء من القوى والقضايا في العالم، على ألّا يتعارض ذلك مع انتمائك الوطني، مع انتمائك إلى وطن. أمّا أن تطالب بحقوق على حساب الدولة والدستور والسيادة، فتلك ليست حقوق أفراد ولا حقوق طوائف. إنّها تُصنّف في خانة تجارة الأديان، وهي تجارة تشبه الخيانة العظمى إذا كان التاجر في موقع المسؤولية عن الدولة والدستور والسيادة.