19 أبريل، 2024

نص هجائي في أقرب أصدقائي

12 كانون الأول 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/35758

جيل الثورة من شباب لبنان وشاباته كان أكثر وضوحاً وأعمق ثقافة من خرّيجي الحرب الأهلية. عبقريته السياسية مبنية على معادلات غير معقدّة. على عكس الجيل السابق، لم يتفلسف ولم يغُص عميقاً في النظريات حول الثورة والتغيير، ولم يبدأ تحليله من الصراعات الدولية والإقليمية. لم يتنطّح لحلّ المشكلات الكبرى القومية والأممية، ولا لمعالجة قضايا السلم والحرب في العالم.

في الثورة جيلان وربّما أكثر. لا تقاس الأجيال بالأعمار أو بالسنوات، بل بالثقافة والوعي وطريقة التفكير. بقايا من ثقافة الحرب الأهلية تسلّلت إلى برامج الثورة، من بينها مفهوم التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار حمله بعض اليسار، وتسلّقت عليه الممانعة، أو مفهوم الحرب على الغرباء القادم من غضب محقّ على النظام السوري وعلى مشروع ولاية الفقيه، أو مفهوم بولشفي سوفياتي عن الرأسمالية المتوحّشة والطغمة المالية وحيتان المال أحياه بعض المتمركسين ليستأنفوا بواسطته حروبهم الخاسرة.

الأخطر من بين كلّ هذه المفاهيم المدسوسة على الثورة، حرب على المصارف قادتها أوركسترا متنوعة الهويات السياسية والإيديولوجية، تحالف فيها اليسار والإسلام السياسي والتيار العوني، وتقاطعت فيها مصالح سوريا وإيران وإسرائيل.

استشعرت الخطر على الثورة من أيامها الأولى، لأنني كنت بانتظارها حتى “يبست قدماي بانتظارها” بتعبير محمد الماغوط. وحين أشرقت شمسها في 17 تشرين الأول 2019، كتبت لها في مقالتي الأولى رسالة حبّ، كما نبهت إلى ما يهدّدها من مخاطر في مقالات عديدة منشورة في “نداء الوطن”، من بينها خطر حرب يشنّها الاستبداد وأنظمته وأحزابه على الديموقراطية من بوابة الهجوم على القطاع المصرفي. نعم، الثورة ليست ثورة إلا لأنّها تدافع عن الديموقراطية ضدّ الاستبداد. النظام المصرفي هو العمود الفقري في الرأسمالية. ثورتنا ليست ضدّ النظام الرأسمالي، بل ضدّ إدارة هذا النظام، وبالتحديد ضدّ فساد هذه الإدارة. ثورتنا لم تنشد بناء الاشتراكية ولم نقرأ في بياناتها كلاماً عن المال الحلال والمال الحرام والربا. ثورتنا انفجرت في وجه لصوص السطو على المال العام، لا في وجه النهب الرأسمالي الذي تحدّث عنه ماركس.

نبّهنا إلى ذلك في مقالات بعناوين شتّى “لا تدعوهم يهربون”، “لا هي ثورة ماركس ولا أبي ذر”، “أين المال المنهوب”، “الخبراء يتبعهم الغاوون”،”خريطة طريق للهجوم على المصارف”، “ثورة على الثروة أم على مختلسيها”، “رفع الدعم الآن وليس غداً”، وكان يأتينا من أصدقاء حقيقيين أو افتراضيين، دعابة خجولة فيها خشية من توظيف كلامنا دفاعاً عن المصارف وعن حاكم البنك المركزي. من أكون أنا لأدافع عن المصارف؟ لا أنا منها ولا عالمها عالمي. لم أطلب منها غير استبدال الكلمة التي وقّعت تحتها عشرات المرّات، لأنها تحيل إلى معنى غير محمود في السياسة. برّرت طلبي بالقول إن من يودع أمواله عندكم ليس “عميلاً”. ضحكوا من سذاجتي، فصرت أوقّع على أوراق يتكدّس فيها الكلام، من غير أن أقرأ شيئاً منها، وحين أحتاج إلى المال أستخدم بطاقة توطين معاشي التقاعدي. فمن أنا لأدافع عن المصارف؟ لست خبيراً في شؤون المال والاقتصاد، ولا أحبّ أن أكون، خصوصاً بعد أن قلت عنهم في مقالتي، والخبراء يتبعهم الغاوون! لكن من تكونون أنتم لتدينوها؟

أعرف أنّ بعض من يهاجمونها لا يمثّلون فريقاً واحداً، وأنّ بعضهم قد عضّه الجوع بنابه، وبعضهم يخشى على جنى عمره من مدخرات ائتمن المصارف عليها. وأعرف أنّ المصارف ليست جمعيات خيرية ولا هي “ذات نفع عام”، بل هي مؤسّسات استثمارية غايتها الربح، الحلال منه والحرام، وأنّ النظام المصرفي العالمي هو من أوقع الكرة الأرضية في أزمة قبل عقد ونيّف، لأنّه حوّل العمليات المصرفية في البورصة والتأمين وإعادة التأمين إلى ما يشبه المقامرة بأرزاق الناس. لكنّني أعرف أيضاً أنّ الدول الرأسمالية الكبرى أنفقت الغالي والنفيس لإنقاذ المصارف من الانهيار، لأنّ تدمير المصارف لا يعني سوى تدمير النظام الرأسمالي على رؤوس أصحابه، وهو ما لن يقبل به، لا سياسيو الرأسمالية ولا اقتصاديوها.

سياسيو لبنان القادمون من عالم الطوائف والمذاهب والعائلات الروحية المقدّس منها والمدنّس، أي من عقلية ما قبل الرأسمالية، لم يتأقلموا مع المفاهيم الديموقراطية في إدارة شؤون الناس، وفضّلوا العودة إلى علاقات الراعي والرعية والقطيع وكلاب الحراسة، بدعم “السجن العربي الكبير” ورعايته، فحكموا البلاد بقوة الميليشيات المسلّحة وبعقلية الميليشيات غير المسلّحة المعادية بالتعريف للدستور والقوانين، وبأسلوب المافيات البارعة في السطو على طريقة البلطجة وقطاع الطرق.

كلّ من تولّى السلطة مسؤول، سياسيون ومصرفيون ونقابيون، بمن فيهم نحن المتحدّرين من أجيال الحرب الأهلية. الثورة وحدها، ولا سيما جيلها المولود بعد الحرب الأهلية، هذا الذي أعلن البارحة فوزاً صارخاً في الجامعات، يحقّ لها أن تتّهم، لكن لا يحقّ لها أن تحاكم. هي تعهّدت بذلك يوم أعلنت نفسها منذ اللحظة الأولى ثورة تحت سقف الدستور. الكلّ إلى المحاسبة، لكن القضاء هو الذي يحاسب. ولست على علم بأنّ ثورتنا شكّلت محاكمها الميدانية، ولم يكن للمشانق التي نصبتها إلا دلالتها الرمزية.

الكلّ مسؤول، هذا هو شعار الثورة الأوّل، بل ابتكارها الأول. “كلّن يعني كلّن” وضع الجميع في قفص الاتهام، واستكملته بشعار استقلالية القضاء. من دون قضاء مستقلّ لن تصل الثورة إلى برّ الأمان الدستوري. من دونه قد تصل إلى الفوضى أو إلى الحرب الأهلية أو إلى شريعة الغاب، أي إلى ما قبل الدولة، إلى ما قبل الرأسمالية وحضارتها، إلى ما قبل الديموقراطية وما قبل النظام المصرفي.

يخطئ أصدقاء الثورة إن لم يلتزموا بمبادئ الديموقراطية في العلاقة في ما بينهم. الهجوم على المصارف واستخدام العنف ضدّ مقرّاتها ليس العلامة الوحيدة على الاستفراد. الاستبداد، بالتعريف اللغوي، ليس سوى الانفراد والاستفراد. فعل استبدّ يعني، بحسب قواميس اللغة، حكم بأمره، وتصرّف بصورة مطلقة غير قابلة للاعتراض. فهل يحقّ لثورة تناضل من أجل الديموقراطية أن تمارس قوة منها الاستبداد على قوة أخرى؟

هل يحقّ لفريق أو لمفكّر في الثورة أن يتفرّد ويضع موضع التنفيذ أفكاره وقراراته، حتى لو كانت صحيحة وصائبة، خصوصاً إذا كان التفرّد سبباً لشرذمة الثورة وتفريق صفوفها؟ هل يحقّ له أن يقف في خندق واحد مع “يعقوب” الذي يشنّ الهجوم على المصارف “لغاية في نفسه”؟ وآخر اليعاقبة الاتّحاد العمالي برئيس تنحّى لعيب أخلاقي، وهيئات استقوت بنظام الوصاية على العمل النقابي فاستولت عليه وأمعنت في تخريبه.

الثورة اللبنانية ليست ثورة الطبقة العاملة ولا هي طبعاً ثورة مثقّفين. هي ثورة الشعب على فساد الحكم والحاكم، وهي نهر جارف تعدّدت روافده. من روافده غير المرئية من يضمر شراً ويصنّف في خانة الثورة المضادة التي تتولّى تشويه صورة الثورة وحرفِها عن مسارها وشقّ صفوفها بكلّ الوسائل، ومن بينها التيئيس والفوضوية وتشتيت الجهود والتسديد، بلغة كرة القدم، خارج المرمى، مع أنّ المرمى تحدّد بفضل الثورة، بين قائمتين من الثنائية الشيعية وعارضة من “التيار الوطني الحر”.

أهم إنجازات الثورة أنها فتحت باب التغيير السياسي على مصراعيه. لكنّها قد تخطئ. من دون الرجوع إلى إحصاءات أو دراسات ميدانية أو دراسة حالات، أقول وأنا مرتاح الضمير، إن أخطأت، فلأنّ أحد المتحدّرين من الانقسامات القديمة وعقليتها قد جرّها إلى الخطأ. حركة وطنية وجبهة لبنانية، مقاومة وطنية أم إسلامية أم لبنانية، عدو سوريا أم عميلها، 8 و14 آذار. جيل الانقسامات اعتاد أن يكون موالياً أو معارضاً، مع هذا الفريق أو ضدّه. أما جيل الثورة، فإنجازه الأوّل رفضه كلّ أنواع الفرز القديم، وتوحيده اللبنانيين حول قضية هي وحدها الصحيحة والجامعة، هي قضية الوطن والدولة والسيادة والدستور.

هذا كلام مؤلم عن خرّيجي الحرب الأهلية، وأنا منهم. لكن علينا، من موقع حرصنا الفِعلي على مستقبل الثورة ومستقبل الوطن، أن نعترف بأنّ الجيل الجديد كان أكثر جرأة منّا على منطق الزعامة والولاء، وأكثر دقّة بالحدس، لا بالتحليل الجدلي والجدالي في تشخيصه أعراض الأزمة، وهو ما اختصرته عبارة للدكتور عدنان الأمين، الوجع اقتصادي والمرض سياسي.

أيها الثوّار، لا تسدّدوا خارج المرمى.