16 أبريل، 2024

الأحزاب مع الثورة أم ضدّها؟ 5 – (اليسار)

6-2-2021

الحكم على موقف اليسار من الثورة هو الأصعب، ولا سيما بعد أن اختلط حابل اليسار بنابل اليمين غداة انهيارات كبرى في بداية تسعينات القرن الماضي، “الحركة الوطنية اللبنانية” سلمت سلاحها لحكام الطائف، “حركة التحرر الوطني العربية” استقالت من النضال ضد “العدو الامبريالي” وشاركته في الهجوم على العراق، المنظومة الاشتراكية استسلمت للقدر الرأسمالي، واستقرت بقايا اليسار العالمي على جزر متباعدة معزولة بين القارات، فيما اختارت الصين نمط إنتاج جديداً حمل اسم اقتصاد السوق الاشتراكي.

فيما توزعت الأحزاب بين دينية وقومية، احتكرت الأحزاب الشيوعية صفة اليسار، لأنها حملت الهمّ الاجتماعي ورفعت راية الاشتراكية استناداً إلى اعتقادها الماركسي بأولوية الاقتصادي على ما عداه. اليسار الشيوعي في لبنان لم يتعامل بواقعية مع المتغيرات واستمر متمسكاً بأولويات ما قبل الانهيارات.

انخرط اليسار الشيوعي في الثورة اللبنانية، لكن على غير الأسس المعتمدة في الثورة، منها اعتقاده أن الفقر والجوع هما الدافع إلى اندلاعها (من فقري ومن جوعي بدي أعمل شيوعي)، وأن الفساد المالي ظاهرة مرتبطة بسلطة البرجوازية، وأن نهب المال العام ليس إلا ما أشار إليه ماركس في كلامه عن النهب الرأسمالي للقيمة الزائدة. كان دوره أساسياً في منطقة الجنوب، حيث كاد أن يكون وحيداً في المواجهة، وردّ بالعصي على راشقي الحجارة ولقنهم درساً قاسياً على دوار كفررمان.

إنها أسس صحيحة من دون شك، استند اليسار إليها في تنظيم احتجاجات متتالية على كل السلطات المتعاقبة ونجح في حشد مناصريه ومحازبيه حولها، في اعتصامات وتظاهرات وانتفاضات تمهيداً لإحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي والاقتصادي، انطلاقاً من اعتقاد سائد ومعمم في الأدبيات اليسارية يرى أن هذا العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية.

كان قلب اليسار مع الثورة وقالبه مع خصومها. تباين في الأهداف والوسائل. هي تقارع سلطة الفساد اللبنانية، وهو يخوض معركته ضد الرأسمالية العالمية وعملائها المحليين، ليجد نفسه في قلب جبهة الممانعة متوهماً مناصرتها له في مواجهة الإمبريالية، “أعلى مراحل الرأسمالية”، وفي مواجهة الصهيونية مع أنها استبعدته من جبهة مقاومة الاحتلال.

هي اتجهت لتبديل السلطة فحسب وهو لتغيير النظام. هي تقول بثورة تحت سقف الدستور وهو يناضل ضد “الحكم والحكومة والنظام”. هي تحارب الاستبداد المقنّع في النظام وهو ينشد إقامة نظام شمولي سقطت تجربته المحققة بسبب غياب الديموقراطية.

كان يمكن لهذه التباينات أن تبقيه خارج الثورة، بل أن تجعله على عداء معها. غير أن الثورة تضم في صفوفها من يشبهونه في صدق انتمائهم لعملية التغيير، لكنهم يشبهونه أيضاً في النظر إلى الثورة كحركة تحرر وطني من الاستعمار، فيما ركزت الثورة على إعادة تشكيل السلطة بما يساعد على تعزيز الديموقراطية في النظام السياسي والالتزام بأحكام الدستور.

وفي الثورة مكونات تشبه اليسار من حيث التمسك بمفاهيم مغلوطة عن الطائفية، ليس النظام طائفياً بل الحكام، وعن العلمانية، فالعلمانية ليست نقيض الدين بل ضد تسييس المؤسسة الدينية، وعن الفدرالية والكونفدرالية لأنهما بمثابة دعوة إلى تعميم الكانتونات. هذه المكونات التي تتكاثر كالفطر تجعل التمايز مبرراً لتغليب الثرثرة على النقاش المجدي، وحائلاً دون توحيد القيادة.

اليسار حاجة للثورة، لكنه يحتاج كسائر مكوناتها إلى قراءة نقدية للتجربة، بما يساعد على رص الصفوف وتوضيح خريطة الطريق من أجل إنقاذ الوطن وإعادة بناء الدولة. فالثورة في سبيل الديموقراطية في عالمنا العربي هي الأكثر كلفة على الكرة الأرضية.