29 مارس، 2024
https://www.nidaalwatan.com/article/57345

11 أيلول 2021

في خطابه بمناسبة يوم الشهيد القواتي، نصح سمير جعجع المعارضة الشيعية أن تكون أكثر شجاعة في مواجهة مشروع “حزب الله” الذي، بحسب قول الوزير القواتي بيار بو عاصي (مقابلة مع محطة mtv)، لا يتناسب مع الصيغة اللبنانية.

النصيحة ليست مقطوعة من شجرة، فهي مضمرة في مخيلة كثيرين من اللبنانيين وغير اللبنانيين، وصريحة على لسان آخرين، وكنت لا أتأخر في الرد على كل منهم في مقالاتي بالطريقة ذاتها التي عرضت فيها وجهة نظري أمام مؤتمر تفكيك شيفرة “حزب الله” في الإمارات، أو في كتابي الذي يحمل عنوان “أحزاب الله”.

سبق للصحافي السعودي خالد الدخيل أن قدم النصيحة في قالب من لوم وتقريع للمتكاسلين من الشيعة عن مقارعة “حزب الله”. ردي على مقالته حمل عنوان، مع “حزب الله” ضد خالد الدخيل. وهو عنوان لا يصح في الرد على طرف لبناني، مع أن النصيحة هي ذاتها والطلب هو ذاته.

النصيحة تعني تحريض فريق لبناني على مواجهة فريق آخر. حصل ذلك ذات مرة حين نفذ المتخاصمان الشيعيان قراراً سورياً بالاشتباك في حرب دارت رحاها بين الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية في أواخر الثمانينات، وذهب ضحيتها آلاف القتلى والجرحى من الشيعة من “أمل” و”حزب الله”، أو حين تواجه المتخاصمان المسيحيان في حرب الإلغاء بين عون و”القوات”، أو حين تولى العالم العربي التحضير، تمويلاً وتسليحاً، لحرب أهلية بين اللبنانيين، بحثاً عن حل أزمته وعجزه عن مواجهة المشروع الصهيوني.

لا للحرب الأهلية. هذا هو الدرس الأول الذي ينبغي أن نتعلمه من كل صنوف الحروب الأهلية، بين المسلمين والمسيحيين أو بين الشيعة والشيعة أو بين الموارنة والموارنة. الحرب الأهلية دمار للمتحاربين، لا رابح فيها والكل خاسر. إذن ينبغي التفكير على موجة أخرى.

لم أتلكأ في الذهاب إلى معراب تلبية للمشاركة في ندوتين ثقافيتين، إحداهما عن الإرشاد الرسولي، وكانت منقولة مباشرة على وسائل الإعلام. ولم أتردد في القول من على شاشة LBC أن تصريحات جعجع بعد اغتيال الحريري كانت الأكثر حكمة ما خلا قوله في خطاب ساحة الشهداء، “البحر من أمامكم والعدو من ورائكم”، مع يقيني أن صدى القول والزيارة لن يرضي رعاع الشيعة ودهماءهم، فضلاً عن حملة الشتائم التي يتولاها ذبابهم الإلكتروني.

ولم أتردد في أي مناسبة من الإشادة ببطولات مقاومي “حزب الله” في مواجهة الاحتلال الصهيوني، مع أنني جهاراً نهاراً ضد سياسته اللبنانية. لكنني أعترض بشدة على تحميله وحده مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في لبنان، مع يقيني أن “السياديين” وكثيرين من رفاق النضال الوطني لا يوافقونني الرأي. معياري في الحالتين واحد: الموقف من مشروع الدولة.

قد تكون أزمة الدولة اللبنانية اليوم في أحلك لحظاتها الحاسمة، لكن “حزب الله” ليس الطرف الوحيد في محاولات الهيمنة على الدولة أو في محاولات تشكيلها على صورته ومثاله. الأحزاب اليسارية والقومية، والأحزاب المسيحية، ومن بينها “القوات”، والإسلاميون على تعدد تنظيماتهم والميليشيات على أنواعها، الجميع رفض الصيغة اللبنانية وعمل على استبدالها بالوطن القومي المسيحي أو بالدولة الاشتراكية وبالإسلام هو الحل. دولة الولي الفقيه هي آخر السلسلة ولعلها تكون الأخيرة. حتى السنّية السياسية المعتدلة انزلقت البارحة إلى موقف خاطئ من الدولة حين انتهكت مبدأ الفصل بين السلطات ووضعت نفسها في مواجهة مع السلطة القضائية (موضوع مقالتي للأسبوع المقبل).

مَنْ مِن المسؤولين المتعاقبين في السلطة والمعارضة والأحزاب لم يجرب حظه في القراءة خارج “الكتاب”، أي الدستور؟ من منهم لم ينتهك مادة من مواده ولم يضرب به عرض الحائط؟ الميليشيات المسلحة أم النافخون بنار الحرب الأهلية؟ أم الرؤساء والوزراء والنواب الذين يحجون إلى بيوت الطاعة منذ أيام حلف بغداد حتى عهد الوصاية السورية وما تلاها، أو الذين استسهلوا استدراج السوريين والاسرائيليين والإيرانيين ليستقووا بهم على أبناء بلدهم؟ أم الذين يتحاصصون ثروة البلاد ووزاراتها وجمعياتها ومؤسساتها المدنية وكأنها ملك أبيهم؟ أم الذين يقتطعون من السلطة مزرعة لكل منهم يتوارثونها ويتوزعون خيراتها بين الأقارب والحاشية والأتباع؟ وبماذا يختلف نهج طائفي عن نهج طائفي آخر؟

إذا كان يؤخذ على “حزب الله” أنه ينتهك سيادة الدولة، فنتائج الانتهاك واحدة وإن تعددت أشكاله وأساليبه وأدواته. سيادة الدولة تعني سيادة القانون على الحدود، وقد تنتهك باجتياز الحدود الجغرافية على غرار ما يفعله “حزب الله”، أو من غير اجتيازها على غرار ما فعلته وتفعله كل القوى السياسية اللبنانية التي تمولت وتسلحت من خارج الدستور والقوانين.

وهي تعني سيادة القانون داخل الحدود، من قانون السير إلى قانون الضرائب. صحيح أن السطو على الأملاك العامة وعلى المال العام فساد لكنه ككل فساد انتهاك للقانون وللدستور. الطائفية انتهاك للمواطنية ودولة القانون، المحاصصة انتهاك لحق المواطنين في المساواة، الاحتكار انتهاك والتهريب انتهاك والامتناع عن توقيع المراسيم انتهاك وإقفال المجلس النيابي وتعطيل المؤسسات انتهاك، توزيع سيادة الدولة إلى سيادات على زعماء الطوائف كل في منطقته هو أبشع أشكال الانتهاك، لأنه يحتكر تمثيل المجتمع بعدد محدود ممن يغتصبون تمثيل اللبنانيين بالاستقواء بالخارج أو بالتشبيح أو باللعب على الغرائز.

نعم “حزب الله” مسؤول وقد تكون مسؤوليته اليوم أكبر من مسؤولية سواه، غير أنه يحمل راية الانتهاك في سباق البدل. سبقه آخرون إلى هذه اللعبة الجهنمية. قد تكون الكلفة عند الوصول إلى خط النهاية باهظة، غير أن الانتقال إلى دولة القانون والمؤسسات والمواطنة يتطلب نهجاً جديداً في التفكير والتنظيم والتخطيط حتى تكون الأولوية للدولة لا للسلطة، وما من أحد بريء من النظر إلى هذه الأولوية من قفاها لا من وجهها.

لقد سلكت المعارضة المسيحية طريق النصيحة هذه منذ بداية الحلف الثلاثي ضد الشهابية حتى اتفاق معراب، فماذا كانت النتيجة؟ لا التفاهم بين الزعماء المسيحيين ولا النزاع أفضيا إلى حل. إن حل الأزمات الوطنية لا يتم إلا في أفق وطني. مواطنون من كل الطوائف في مواجهة منظومة حاكمة من كل الطوائف. هذه مهمة ابتدأت في 17 تشرين، ولن تنجز بحروب بين الطوائف أو داخل كل طائفة. بل لا سبيل لإنجازها عن غير طريق الثورة اللبنانية.