27 كانون الأول 2021
يؤرخ إريك هوبزباوم في أربع مجلدات تاريخ الرأسمالية، فيقول إن الاستعمار، في الفترة بين عامي 1876 و1915 كان قد وزع أو أعاد توزيع ربع مساحة المعمورة كمستعمرات بين ست دول كبرى، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وإسبانيا. أما المؤرخ فرناند بروديل فيحدد، في كتابه الضخم، عن المتوسط ومحيطه، تاريخ النزوع الاستعماري للرأسمالية بسقوط غرناطة واكتشاف أميركا، أي في العام 1492.
طيلة أربعة قرون ممتدة من التاريخ الأقدم، بداية القرن السادس عشر، حتى الأقرب، بداية القرن العشرين، لم يخضع المشرق العربي للسيطرة الاستعمارية، بل كان جزءاً من السلطنة العثمانية. ومن صدف التاريخ أن المرحلة الاستعمارية، وهي وليدة الحضارة الرأسمالية، تزامنت بولادتها وموتها مع حكم السلطنة، فلم يترك التاريخ لبلدان المشرق العربي فسحة للوقوع تحت سيطرة الاستعمار، بل إن هذه المنطقة انتقلت من السيطرة العثمانية إلى الاستقلال مباشرة بمساعدة الانتداب الفرنسي الذي أسس الدولتين السورية واللبنانية، والإنكليزي الذي أشرف على تأسيس الكيان الصهيوني. ففي لبنان تم الإعلان عن لبنان الكبير عام 1920، وعن الدستور اللبناني عام 1926، وعن الاستقلال عام 1943.
الحرب العالمية الثانية أعلنت نهاية الصيغة القديمة من الاستعمار بالاحتلال المباشر، باستثناءات قليلة على الكرة الأرضية من بينها في العالم العربي تونس التي استقلت في الخمسينات والجزائر في الستينات من القرن العشرين. إذن ما هي العناصر التي استندت إليها بعض التحليلات لتتخذ موقفاً سلبياً من اتفاقية سايكس بيكو ثم من لبنان الكبير في ما بعد؟ لا شك في أن ذلك ناجم عن تفسير مغلوط للظاهرة الرأسمالية وعلاقتها بالاستعمار، وعن فهم مغلوط لما حصل من تطورات هامة وخطيرة في تطور الرأسمالية وفي التنافس التجاري والعسكري بين الدول الاستعمارية، الذي بلغ ذروته في الحربين العالميتين.
من بين الحجج التي استخدمها المعترضون على لبنان الكبير اعتقادهم أن لبنان هو صنيعة استعمارية. مئوية كاملة والمشرق العربي، ومنه لبنان، يعيش التباساً مزدوجاً، فهو، من جهة، يطالب بالتحرر من الاستعمار، مع أن نهاية الاستعمار في العالم تزامنت مع استقلال الدول العربية، ومن جهة أخرى، يظن أنه أنجز استقلاله بجلاء القوات الأجنبية الغربية، مع أن فترة الانتداب القصيرة ساعدت الولايات في المشرق العربي على التحرر من سيطرة السلطنة العثمانية، واستحدثت فيها ثلاثة أوطان وثلاث دول، لبنان وسوريا والعراق، على غرار ما حصل في أوروبا بعد الثورة الفرنسية.
هذه الحقائق عن تاريخ الاستعمار لا تلغيها جريمة الانتداب الإنكليزي الذي تولى حل المشكلة اليهودية في أوروبا على حساب الشعب الفلسطيني. ذلك أن بناء الأوطان الثلاثة في المشرق العربي، مضافاً إليها تمويل الاستيطان في فلسطين وتنظيمه وحمايته وإقامة دولة في شرق الأردن، كل ذلك هو صنيعة الانتداب. فما الذي صنعته اتفاقية سايكس بيكو، وهل هي مؤامرة على الأمة، وهل كان لبنان خطأ تاريخياً أو جغرافياً؟
صحيح أن الانتداب استحدث أوطاناً لم تكن موجودة من ذي قبل، ورسم لها حدوداً. لكن الجديد فيها لم يكن تعديلاً على حدود قديمة ولا كان تجزئة لكيانات كبرى موحدة، بل هو تعامل مع هذه المنطقة مثلما سبق للحضارة الرأسمالية أن تعاملت مع الكيانات والأوطان والحدود المستحدثة بين الدول في أوروبا غداة الثورة الفرنسية. فما الذي فعلته الرأسمالية في أوروبا ثم تعاملت معنا به بالسوية ذاتها؟
يقول هوبزباوم في ثلاثيته الضخمة عن تاريخ الرأسمالية إن الحروب داخل القارة، بعد الثورة الفرنسية، أفضت إلى نتائج حاسمة، فأعيد رسم خارطة الكيانات القائمة، وانتقلت السيطرة على النرويج من الدنمراك إلى السويد، وتوحدت هولندا وبلجيكا، بعد أن كانت خاضعة لمملكة النمسا، ودخلت تحت السيطرة الروسية فنلندا وجزء كبير من بولندا وعدد من المقاطعات الإيطالية، ونالت اليونان استقلالها بدعم روسي بريطاني وتحولت إلى مملكة يحكمها أحد الأمراء الألمان. وتمكن نموذج الثورة الفرنسية من القضاء على الكثير من الكيانات التي كانت معروفة في ظل الحضارة الإقطاعية، وتوحدت المدن|الدول الإيطالية كما توحدت المقاطعات الجرمانية واستقلت المجر عن مملكة هابسبورغ وتشيكيا عن النمسا واستقلت اليونان وبلغاريا عن السلطنة العثمانية وتحولت بعض المقاطعات إلى دول، مثل رومانيا التي تشكلت من مقاطعتين كانتا تحت السيطرة العثمانية، أو بولندا التي كانت السيطرة عليها محل تنازع بين بروسيا وروسيا، أو سويسرا وبلجيكا اللتين تضم كل منهما أكثر من قومية. ويختم هوبزباوم عرضه بالقول، إن “الدول” الأوروبية كلها، ما عدا بريطانيا، تغيرت تغيراً جوهرياً وتغيرت رقعتها وأراضيها أحياناً بين عامي 1856 و1871
صحيح أن اتفاقية سايكس بيكو رسمت حدوداً لدول وأوطان لم تكن موجودة من ذي قبل. لكنها نقلت التجربة الأوروبية بشكل شبه حرفي، فتعاملت مع هذه المساحة الجغرافية الممتدة بين المتوسط والخليج العربي بالطريقة ذاتها التي صورها هابزباوم. فقد كانت أوروبا كلها في عصر الأنوار تشبه، إلى حد ما، بلاد الشام التي تضم سوريا ولبنان وبعضاً من فلسطين والعراق. كانت أوروبا ما قبل الثورة الفرنسية موزعة على إمارات ومحكومة من ثلاث ممالك كبرى، إسبانيا وهابسبرغ وفرنسا، فضلاً عن بريطانيا خارج القارة والقيصرية الروسية في الشرق.
بتعبير آخر، كانت علاقة هذه الممالك بالإمارات أو المقاطعات تشبه علاقة السلطنة بالولايات الخاضعة لها في العالم العربي. وحين قررت أوروبا الانتقال من عصر الممالك والإمارات إلى عصر الدولة الحديثة، أعادت رسم الحدود لتبني كيانات جديدة حمل كل منها إسم الوطن، أخذاً بعين الاعتبار، إضافة إلى اللغة والعادات والتقاليد والبنية الاقتصادية، الإمكانات البشرية المتوفرة لإدارة شؤون هذه الأوطان، بما يخدم عملية الانتقال من حضارة الزراعة إلى الحضارة الرأسمالية، وبما يؤمّن استقرار التوازنات بين مراكز القوى في أوروبا. وقد أدى اختلالها إلى دخول تلك القوى في حربين عالميتين.
في لبنان، تحديداً في لبنان، الدعوة إلى النضال ضد الاستعمار تضليل ثقافي مقصود قومي وأممي ضد الرأسمالية. في لبنان تحديداً وفي سائر المشرق العربي، الكلام عن الاستعمار خطأ شائع.
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله