3 كانون الثاني 2022
النظرية القائلة بـ”طائفية النظام اللبناني” ليس لها أتباع ومؤيدون فحسب بل هي موضع إجماع المفكرين والسياسيين والأحزاب. مهدي عامل وأحمد بيضون والتيار الوطني الحر والأصوليات الدينية والأحزاب ذات الصفاء المذهبي أو الطائفي، أي حتى “حزب الله” والقوات اللبنانية. كلهم يشخصون العلة بالنظام الطائفي، وكلهم يجمعون على ضرورة الخلاص من الطائفية، ويختلفون على الأسلوب.
علة هذه النظرية هي الإجماع عليها ولا سيما أنه لا يقتصر على النخب الثقافية والسياسية وحدها بل يتعداها ليشمل العامة التي، في الوقت ذاته، تمقت الطائفية وتتأهب بكامل أسلحتها كلما دق النفير.
هذا ليس قدحاً ولا مدحاً. بل هو توصيف لواقع. الحزب الشيوعي، العلماني طبعاً، الذي تحالف خلال الحرب مع الطوائف “الوطنية” ضد غير الوطنية، استمر بعد الحرب صديقاً وفياً لأنظمة الممانعة الاستبدادية، أي غير الديموقراطية أي غير العلمانية. التيار الوطني الحر، العلماني هو الآخر، يتهم أمطار السماء وحرائق الغابات بالانحياز الطائفي. حركة أمل تتعهد بعدم المطالبة بحصة الشيعة في أجهزة الدولة الأمنية والإدارية حالما يتم التوصل إلى إلغاء الطائفية، ناهيك عن الأحزاب التي اكتفت بالدفاع عن “الوجود” المسيحي بعد أن أخجلها كلام عن “الشعب” المسيحي وعن الوطن القومي المسيحي، أو عن تلك التي تطالب بعودة الخلافة الإسلامية أو بعودة المهدي المنتظر من غيبته الكبرى.
الإجماع ليس دليلاً على صحة التشخيص. على الأقل لأنه تشخيص ناقص، الظاهرة تحتاج إلى تشخيص سياسي وفحص بأجهزة سياسية، لا الاكتفاء بتحليل أكاديمي.البعض يكتفي بالوصف بدون الوصفة الناجعة. هذا ما فعله أحمد بيضون حين استوقفته كتابة التاريخ اللبناني بأقلام طائفية فحصر بحثه بالكلام عن “الصراع على تاريخ لبنان”. مهدي عامل، من جانبه، بذل جهداً على امتداد كتابين عن الطائفية ليكتشف أن العلة تكمن في منهج التفكير، وبدل أن تكون وصفته ثورة على المنهج شن حملة على النظام.
“اليسار المسلم” طالب وما زال بإلغاء الطائفية السياسية من النظام. رد عليه “اليمين المسيحي” بإلغائها من النفوس قبل النصوص وبالعلمنة الكاملة. ومعنى هذه العلمنة رئاسة لمسيحي مقابل قانون الأحوال الشخصية. شعاران للحرب لا للسلم. الأول يهدف إلى معاقبة المارونية السياسية لا إلى إصلاح النظام، والثاني تلميح خبيث إلى تعدد الزوجات لدى المسلمين. أما الغلاة فيهربون من الذمية إلى عمليات فرز وضم مآلها التقسيم أو الفدرلة أو اللامركزية المالية، وهذه آخر ما تفتقت عنه عبقرية الرئيس. هذه كلها لنكء الجراح لا لوضع الإصبع على الجرح، ومرد ذلك إلى أخطاء في التشخيص.
الطائفية مشاعر وعادات وتقاليد وطقوس وهذه كلها مخلوقات طبيعية في المجتمعات المتعددة، ولا تصير شاذة إلا حين تتحول إلى مؤسسات سياسية. لبنان ليس وحيداً في العالم على هذا الصعيد. هو نموذج مصغر عما آلت إليه الأوطان في الحضارة الرأسمالية. منبع الأخطاء التشخيصية يكمن في النظر إلى الطائفية في لبنان وكأنها هي ذاتها قبل أن يصير لبنان وطناً ودولة. هي في أيام الجمهورية غيرها في أيام الولايات العثمانية ونظام الملل. غير أن الباحثين السياسيين والمؤرخين خلطوا أوطان الحضارة الرأسمالية بالولايات والمقاطعات والدساكر في حضارة الخراج الإقطاعية. الدستور في الديموقراطيات الحديثة يرعى التعدد وينظمه تحت سقف القانون ويساوي بين المواطنين. هذا ما يحصل في أكبر البلدان وأكثرها تعدداً، في الهند أو في الولايات المتحدة الأميركية أو في سواهما. وإن حصلت صراعات بين المتنوعين فحيث لا دساتير أو حيث تنتهك القوانين. الذين اعترضوا على الطائفية وحاربوها استناداً إلى تشخيصاتهم الخاطئة، إنما فعلوا ذلك من موقع اعتراضهم المضمر على هذا الجديد المتمثل بقيام الجمهورية وإعلان الدستور أو من موقع إنكارهم أهميته الحاسمة في تحويل الولايات العثمانية إلى وطن ودولة. النضال لتعديل مواد ثلاث في الدستور اللبناني هو أقل كلفة، بالتأكيد، من ثورات وحروب أهلية أفضت إلى انتهاك الدستور، أو من مساعٍ دموية لتعطيله أو استبداله بقوانين الطوارئ أو الأحكام العرفية أو أي شكل من أنظمة الاستبداد القومي والديني أو بنظام “إنكشاري” كالذي ابتلينا به حين انتقالنا من نظام جمهوري برلماني إلى نظام التعطيل وحكم الميليشيات.
المخلوق غير الطبيعي في الطائفية هو تحويلها إلى مؤسسة سياسية موازية لمؤسسات الدولة. لذلك لا يحتاج الأمر إلى مئوية طوائفية ولا إلى استعادة أحداث دموية من قرون سابقة ولا إلى تذكر “الذمية” و”إشمل” والأمبراطوريات والممالك والسلطنات. يكفي أن ننتبه إلى إننا في عصر جمهورية ووطن ودولة ذات سيادة فيكون حل المعضلة أبسط بكثير من متاهات أهل السلطة وأهل الثورة على مدار المئوية. وهو حل من ثلاث نقاط.
أولاً: احترام الحق بالاختلاف وحماية العقائد وممارسة الإيمان والعبادات والطقوس والعادات والتقاليد بكل حرية، هذا واجب الدولة. أما حقها ففي ألا ينازعها أحد على السيادة على حدود الوطن، وألا تنشأ داخل حدودها مؤسسات أمنية وإدارية ومالية وقضائية موازية لمؤسساتها، فكل مؤسسة موازية ومنافسة هي، بالتعريف، تنظيم ميليشيوي سياسي أو عسكري أو ديني معادٍ لمبدأ قيام الدولة.
ثانياً: استناداً إلى هذين المبدأين يتم إلحاق المحاكم الدينية بالقضاء المدني على أن يتقاضى المواطنون أمامه، باسم الشعب اللبناني، لا باسم الله الرحمن الرحيم ولا باسم الآب والإبن والروح القدس، وبناء لاختيارهم، على أساس قوانين الطوائف المعتمدة في الأحوال الشخصية، أو على أساس قانون الدولة المدني. وإخضاع المؤسسات الدينية لرقابة الدولة في مواردها المالية ونفقاتها وميزانياتها.
ثالثاً: استكمال التعديلات على الدستور والقوانين، في المجلس النيابي، بما يحقق معالجة جذرية لهذه الأزمة المزمنة.أهل النظام هم الطائفيون، والقول بأن النظام طائفي هو من الأخطاء الشائعة.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان