26 شباط 2022
صحيح أن لبنان الكبير كان له مؤيدون ومعارضون. بعد مئوية التأسيس يحق طرح السؤال عن صوابية ما فعلته سايكس بيكو، ونقترح أن يكون السؤال من شقين على الشكل التالي. الأول أيهما كان أفضل للبنان الحالي، أن يكون جمهورية مستقلة تحمل اسم لبنان أو أن يكون محافظة من المحافظات التي تشكلت منها الجمهورية السورية؟ والثاني عن مضمون الاستقلال وظروفه.
عن الشق الأول، أثبتت أحداث القرن أن الأمر لا يتعلق بالحجم ولا بالمساحة الجغرافية ولا بالتاريخ، بل بطبيعة الإدارة السياسية للكيان المستحدث أياً تكن مساحته. كما أثبتت أن السلطات التي تولت إدارة الشأن السياسي في المرحلة الأولى من الاستقلال في كل من البلدين وفي معظم البلدان العربية، كانت أكثر دراية ومعرفة وحرصاً ممن توالوا على إدارته بعد ذلك.
ففي لبنان نظمت الإدارة السياسية بعد الاستقلال، بيسارها ويمينها، حرباً أهلية مستدامة وأشرفت على تدمير مؤسسات الدولة، وها هي اليوم تدفع البلاد نحو الانهيار. أما في سوريا فقد تولت الإدارة فتح الحدود أمام كل القوى الأجنبية لتقضي على الاستقلال وتدمر البلاد بالبراميل المتفجرة وبحرب أهلية وعالمية على أرضها.
بتعبير آخر، مصير وطن اسمه لبنان، كبيراً كان بمساحته أم صغيراً، مستقلاً أم محافظة من محافظات سوريا الكبرى، مرتبط بطبيعة السلطة السياسية والنظام الذي يحكمه لا بوسع المساحة التي تديرها هذه السلطة، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث عما هو مشترك بين أنظمة عربية بمساحات مختلفة رمت أوطانها في أتون حروب أهلية من العراق شرقاً حتى الجزائر غرباً ومن اليمن حتى لبنان وسوريا. كما يدفعنا إلى السؤال عما إذا كانت ثورة الربيع العربي ستتوقف عند حد معين أم أن قطارها متجه نحو محطة خالية من أنظمة الاستبداد؟ أما الشق الثاني من الجواب فهو يتعلق بمضمون الاستقلال.
يحتفل الشعب اللبناني، وكذلك الشعب السوري، بمناسبتين، الاستقلال والجلاء. وقد تركز في الوعي السياسي العام اعتقادان الأول صار من البديهيات، ومفاده أن الاستقلال يعني التحرر من الوجود الأجنبي، الفرنسي على وجه التحديد، وأن الجلاء يعني جلاء القوات الفرنسية، وهو اعتقاد خاطئ لأنه يجافي وقائع التاريخ. فالولايات التي تشكل منها كل من لبنان وسوريا، كانت خاضعة منذ العام 1516، على أثر معركة مرج دابق، للسيطرة العثمانية، وأنها شهدت حالات تمرد فاشلة على تلك السيطرة، خصوصاً أيام فخر الدين المعني الذي توسعت حدود ولايته حتى تدمر شمالاً والجليل جنوباً، وكذلك أيام الشهابيين والحملة المصرية بقيادة ابراهيم باشا. خلال الحرب العالمية الأولى طلبت هذه الولايات التعاون مع الدول الأوروبية المشاركة في الحرب من أجل الاستقلال عن السلطنة، وهو ما فسرته السلطنة خيانة لها وتآمراً عليها فنصب جمال باشا السفاح المشانق، في السادس من أيار عام 1916 وأعدم بضعة عشر مثقفاً من لبنان وسوريا، بتهمة التعامل مع الغرب ضد السلطنة. بعد عامين سقطت السلطنة وحلت القوات الفرنسية والإنكليزية محل الجيش الإنكشاري، وبعد ثلاثة أعوام أخرى تم الإعلان عن لبنان الكبير. فهل يعقل أن يكون المقصود بالاستقلال التحرر من ثلاث سنوات من الانتداب الفرنسي لا من أربعة قرون من حكم السلطنة العثمانية؟ الاعتقاد الأول خاطئ أما الثاني فهو تضليلي لأنه لا يحدد طبيعة الحالة التي يخرج منها الكيان السياسي، ولاية أو إمارة أو مملكة، ولا طبيعة الحالة التي يتجه إليها. الولايات الخاضعة للسيطرة العثمانية كانت تبحث عن حاكم جديد لا عن نظام جديد، فيما تشير الوقائع في تلك الفترة إلى أن العالم كان يمر بمنعطف تاريخي كبير يتجاوز حدَّ تغيير الحاكم إلى تغيير النظام، وحدَّ التحرر من سيطرة أو من احتلال إلى التحرر من منظومة حضارية كاملة.
لقد ظل العالم العربي، المستعمر منه وغير المستعمر، خاضعاً لنمط الحضارة الزراعية، حضارة الأرض، بكل قيمها الاقتصادية والثقافية والسياسية، وشكلت السلطنة العثمانية حاجزاً أعاق انتقال الحضارة الرأسمالية إلى الولايات الخاضعة لسيطرته، باستثناء المناطق التي أتيح لها أن تحتك بالحضارة الرأسمالية، ولا سيما جبل لبنان ومصر محمد علي باشا، حيث بدأت منهما طلائع النهضة الثقافية (المدارس والإرساليات) والاقتصادية (الصناعات الزراعية، الحرير في لبنان والقطن في مصر)، تطل على العالم العربي.
هذه الحقيقة تؤكد أن التحرر من الاستعمار أو من الاحتلال ينطوي على معنى التحرر من علاقات الإنتاج الاقتصادي والثقافي والسياسي السابقة، تمهيداً للانتقال من حالة الولايات الساعية إلى الانفكاك عن السلطنة أو عن الانتداب إلى حالة الدولة الحديثة بالصيغة التي بشرت بها الثورة الفرنسية. فهل ورد هذا المعنى في قاموس الشريف حسين المطالب بالاستقلال عن السلطنة العثمانية بحثاً عن ملك له ولذريته؟ إن جائزة الترضية تؤكد أنه كان يسعى وراء الملك لا وراء التحرر. وهل تعتبر «ثورة» سوريا بقيادة سلطان باشا الأطرش ضد الفرنسيين عام 1924 امتداداً طبيعياً لـ»ثورة» الشريف حسين ضد العثمانيين عام 1916؟ لقد اقتصرت مطالب الثورتين على استبدال الحاكم الأجنبي بحاكم عربي. الانتداب الذي تخيله الشريف حسين حليفاً له للاستقلال عن السلطنة صار عدواً في بيان سلطان باشا الأطرش الذي اتهم المستعمرين (وهو يقصد الفرنسيين) بأنهم «نهبوا أموالنا واستأثروا بمنافع بلادنا، وأقاموا الحواجز الضارّة بين وطننا الواحد، وقسّمونا إلى شعوب وطوائف ودويلات، وحالوا بيننا وبين حرية الدين والفكر والضمير وحرية السفر حتى في بلادنا وأقاليمنا»، مع أن السنوات الثلاث لم تكن كافية لارتكاب كل هذه «الجرائم».
في لبنان، تحديداً في لبنان، النضال ضد الاحتلال الفرنسي خطأ شائع.
مقالات ذات صلة
هل يكتب التاريخ الحديث بمصطلحات طائفية؟
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله