19 مارس، 2024

الثورة والتسديد الخاطئ

29 نيسان 2020

https://www.nidaalwatan.com/article/19841

للذين أصروا على الطابع الطبقي للثورة، قلنا إن لقمة العيش ليست سوى صاعق، والانفجار حصل ضد الفساد السياسي. جواب أكثر بلاغة “الوجع اقتصادي والمرض سياسي”. هذا هو لب الموضوع، ولا تتوضح حقيقته إلا بمعرفة السياق الذي أفضى إلى إنهاء الحرب الأهلية والذي تشكلت خلاله سلطة “الثلاثين عاماً” الفاسدة المفسدة.

معارك كثيرة مهدت لوقف الحرب الأهلية ولاتفاق الطائف: حرب بين “أمل” و”حزب الله”، ولم تكن في حقيقتها سوى حرب بالواسطة بين النفوذ السوري والنفوذ الإيراني في لبنان. كلمة رئيس “أمل” في حينه معبّرة “الجنوب عربي لا فارسي”؛ حرب بين القوات اللبنانية وميشال عون قائد الجيش في حينه، لكن المستتر منها يخفي صراعاً على النفوذ بين صدام حسين وحافظ الأسد؛ قبلها بسنوات حرب الجبل بين الدروز والمسيحيين، قدم فيها النظام السوري، لتدعيم نفوذه، دعماً للدروز، فيما انتظرت القوات اللبنانية دعماً إسرائيلياً لم تحصل عليه؛ حرب المخيمات التي شنتها حركة أمل ضد مخيمي عين الحلوة في صيدا وصبرا وشاتيلا في بيروت، وهي في حقيقتها حرب سورية على إلغاء أي احتمال لعودة النفوذ العرفاتي إلى لبنان. في كل هذه المعارك المنتصر الوحيد هو النظام السوري، وفي ظل انتصاره عقد اتفاق الطائف، وكانت جميع بنوده تتطلب موافقة القيادة السورية قبل إقرارها من جانب المؤتمرين من أعضاء البرلمان اللبناني.

اتفاق الطائف قضى، في جوهره، بإعادة تشكيل السلطة السياسية. وقد حصل المنتصر، أي النظام السوري، على وكالة عربية ودولية بالإشراف على تنفيذ الاتفاق وعلى إعادة بناء الدولة اللبنانية. غير أنه تصرف بهذه الوكالة بما يضمن مصالح نهجه المعتمد في إدارة كل شؤونه الداخلية والخارجية. من نتائج هذا الإشراف رعايته قيام نظام أمني مخابراتي أدى إلى إلغاء مقومات الدولة والديموقراطية في النظام اللبناني. وقد تجلى ذلك في تنظيم انتخابات بمحادل التعيين وإلغاء مبدأ الفصل بين السلطات من خلال الترويكا وإلغاء مبدأ الكفاءة وتكافؤ الفرص وتعميم قيم الزبائنية وتعزيز سلطة الميليشيات في أجهزة الدولة وتدمير السلطة القضائية وإلغاء المؤسسات ولا سيما الرقابية منها. أما في الشأن الخارجي فقد ألغى سيادة الدولة وناب عنها في إجراء المفاوضات مع الدول ووظف بطولات المقاومين اللبنانيين لا بهدف تحرير الأرض المحتلة بل لتحسين شروط التسوية.

وجه ميليشياوي للوكلاء

لقد درّب النظام السوري وكلاءه اللبنانيين على إدارة شؤون الدولة بهذه الطريقة، موفراً لهم غطاء عسكرياً بوجود جيشه، حتى إذا خرج الجيش، بعد اغتيال الحريري، انكشف الوجه الميليشياوي العسكري والسياسي للوكلاء وانحدرت ممارساتهم السلطوية، فبدوا كأنهم عصابات فالتة لا يردعها رادع عن انتهاك الدستور والقوانين وعن سرقة المال العام وممارسة كل أنواع الفساد والمقامرة بثروة البلاد المالية والعقارية والبشرية وتوزيعها بالتحاصص، والاعتداء على الحريات العامة وكم الأفواه، وبلغ الانحدار حضيضه حين تحول أركان السلطة إلى أدوات داخلية توفر تغطية لانتهاك السيادة الوطنية من قبل القوى الخارجية.

نظام الوصاية وضع أسس الانهيار، وأوكل إلى أتباعه المحليين استكمال تدمير الدولة والتمهيد لسيطرتهم عليها على حساب الدستور والقانون وعلى حساب السيادة الوطنية. النظام السوري كان يتصرف بخلفية عدم اعترافه بالكيان اللبناني، فما هي خلفية أتباعه؟ أغلب الظن أن السعي وراء المصالح الشخصية الضيقة هو ما عملت جوقة المستفيدين على تحقيقه، عبر مناورة ناجحة تقضي بالتغطية على مكمن الخلل وسبب العلة. وقد أفشلت الثورة خطتهم حين واجهتهم بشعار “كلن يعني كلن”، إلى أن تخفّوا وراء وباء الكورونا وراحوا يقصفون في كل الاتجاهات، إلا باتجاه الأسباب الحقيقية لهذا الانهيار التي أسسها نظام الوصاية.

أن تفعل ذلك قوى منضوية في جبهة الممانعة، وذات مصلحة في تدمير الدولة فهذا أمر طبيعي. أما أن تشترك معها في هذه المناورة قوى انخرطت منذ البداية في مواجهة نظام الفساد والإفساد فهو أمر يهدد وحدة الثوار ومصير الثورة، ولا سيما بعد أن تحول إلى ظاهرة تتكرر على ألسنة الكثيرين ممن تشهد لهم ساحات المواجهة مع النظام وأعوانه وأدواته.

بعبارة أخرى، ليس صعباً تفسير موقف قوى الممانعة. الصعب هو تفسير موقف من هم في صفوف الثورة حين يعبرون عن أوجاعهم. هي أوجاع حقيقية لكن أشكال التعبير عنها قد تكون غير مناسبة، لا لأنها تلتقي مع مواقف الثورة المضادة فحسب، بل لأنها تخرج عن برنامج الثورة الأساسي الذي تمت صياغته بالأحرف الأولى منذ البداية بعناوين واضحة تركز كلها على أن الإصلاح يبدأ بإعادة تشكيل السلطة وتحرير القضاء من سيطرة الطبقة السياسية.

بهذا المعنى ليس من مصلحة الثورة أن تصوّب على أعراض المرض بدل التصويب على أسبابه، فتساير من يرى أن الفساد محصور بالرشاوى والفساد الإداري، أو تشن هجوماً على رجال الدين تحت شعار الدفاع عن لبنان العلماني، أو تصوب على النظام المصرفي وخصوصاً المصرف المركزي، متهمة إياه بسرقة أموال الشعب، أو ترى في اللجوء إلى البنك الدولي استدراجاً لتدخل القوى الأجنبية؛ وليس من مصلحتها تحميل المسؤولية للتدخل الخارجي، حتى لو كان أبطاله سوريا وإيران ومن معهما، لأن العطل داخلي أولاً ومتمثل بسلطة المافيا الميليشياوية؛ وليس من مصلحة الثورة اعتبار كل صاحب ثروة شريكاً في نهب المال العام، لأن بين الأثرياء ضحايا لهذه السلطة، وحلفاء طبيعيين للثورة؛ أو تطبيق شعار “كلّن” بمعنى الإدانة المسبقة، لأن أصل المعنى فيه هو إخضاع الجميع للمحاسبة أمام القضاء. كل ذلك لأن الثورة أعلنت هويتها سلمية تحت سقف الدستور، لا ثورة عنف وانقلاب يعلنه عسكري من الإذاعة في البيان رقم واحد.

لا شك أن هذه الأعراض صحيحة وحقيقية، وأن التعبير عن الوجع أمر طبيعي، فيحق للمواطن أن يشكو تعرضه للإهانة على باب المصرف وكأنه يستجدي، وأن يرفع الصوت في وجه المصرفيين والصيارفة اعتراضاً على التلاعب بأسعار الصرف، لكن من غير المنطقي أن يجعل الصرخة برنامجاً للإصلاح والوجع وصفة للعلاج.

قد تكون مشكلة رياض سلامة والمصارف أكبر مما تتصورون، وكذلك مشكلات رجال الدين والقوى الخارجية والمال والمتمولين، وقد لا تكون. لكنها، في جميع الحالات، ليست هي المشكلة التي يعاني منها لبنان الآن. المشكلة الآن هي خطر انهيار الدولة لا بسبب الديون بل بسبب انتهاك الدستور والقوانين، وأبطالها هم مافيا الميليشيات الحاكمة. “من هنا تبدأ الخريطة والكلمات”. كل كلام آخر هو تغطية على المجرم.

مثل الثورة كمثل فريق كرة القدم. لا تحسب من تسديداته إلا ما يدخل المرمى.