19 أبريل، 2024

رداً على محمد علي مقلد إذا لم يكن دفاعاً عن “حزب الله” فماذا يكون؟

6 نيسان 2020

حنا صالح

روى لي يوسف خطار الحلو يوماً أنَّ الشيوعيين في لبنان تظاهروا في خمسينات القرن الماضي ضد إقامة الأوتوسترادات لأنها كانت ستُستخدَم مدارج لطائرات قوات حلف شمال الأطلسي “الناتو” للسيطرة على البلد، وبما يمكِّنه استطراداً من تسجيل نقطة متقدمة على حلف وارسو!

وفي المناسبة نفسها (في سياق حوارات نشرتها في جريدة الأخبار)، سألت نقولا الشاوي عن فهمه لتلك النكتة السياسية عن الشيوعيين التي تقول: “إنه إذا أمطرت في موسكو فتح الشيوعيون في لبنان الشماسي”!… فردَّ ممتدحاً السخرية في النكتة وقال: “كانت الأولوية التسابق على إبداء التأييد السياسي للمواقف التي تصدر عن موسكو عاصمة الشيوعية يومذاك”!

قاطعته: “فقط التأييد السياسي؟”… إبتسم أبو زهير وتابع قائلًا: “من فؤاد الشمالي إلى يوسف إبراهيم يزبك – وكلاهما تأثر بانتصار ثورة أكتوبر- كان الوضع الاجتماعي هو المحرك الأكبر، بالتوازي مع منحى استكمال الاستقلال. وبعيداً من محاولات التأثير أو الرغبات التي كانت تصدر مراتٍ عن موفد الكومنترن (حيث كان هذا الأخير ينتدب موفديه إلى كل البلدان)، كانت أولوية الشمالي ويزبك تحقيق العدالة وإنصاف العامل وضمان الحقوق والتحرر من الأجنبي. ولا شك أنَّ الشيوعيين جذبتهم منذ ثلاثينات القرن الماضي نضالات ومعارك حول العالم، فنظموا حملات التضامن والدعم. وفي حالة فريدة من نوعها التحق الشيوعي البيروتي فؤاد قازان بتلك الفصائل التي شُكِّلت في أوروبا، للقتال مع الجمهوريين الإسبان ضد معسكر الجنرال فرانكو الذي كان يتمتع بدعم كبير من سلاح الجو النازي… لكنَّ كفاح الشيوعيين ضد النازية ومن أجل التحرر كان مؤثِّراً بوصفه نموذجاً، على غرار ما جرى في فرنسا، ولا سيما معركة تحرير باريس وكذلك في إيطاليا. فقد اختفى الشيوعيون تحت الأرض ولم يهاجروا بل تصدروا معركة التحرير، ولم يطالبوا بحصة ثمناً لكفاحهم، بل سلَّموا السلاح وذهبوا إلى صناديق الانتخابات واحتكموا إليها. كل ذلك كان في قلب اهتمامات الشيوعيين اللبنانيين، وستترك تلك التجارب بصمات كبيرة في تجربتهم.

ومنذ ما قبل المؤتمر الثاني لـ”الحزب الشيوعي” في العام 1968 وبعده على وجه الخصوص، بلور الحزب الأشكال النضالية التي نهض بأعبائها. كانت ثمَّة أولويتان طبعتا عمله أكثر من أي أمر آخر: ففي مقابل سياسة “قوة لبنان في ضعفه” ارتأى النضال لحماية الحدود من العدو الاسرائيلي، وفي مواجهة تقدُّم دور قوى الاحتكار في الداخل رفع شعارات النضال الاجتماعي من أجل العدالة وحقوق الفئات الكادحة. ولأن الإسهام في حماية الحدود الجنوبية يشكِّل مؤازرة لنضال الشعب الفلسطيني فقد عمل على بلورة فكرة مزدوجة، حيث شكَّل “قوات الأنصار”، من جهة أولى، بمشاركة شيوعيين عرب تصدِّياً للعدو الإسرائيلي فلم تصب نجاحاً؛ ليليها من جهة ثانية تشكيل “الحرس الشعبي” من أبناء القرى الجنوبية بحث كان هدفه الأول طمأنة الأهالي كي يبقوا متشبثين بأرضهم. ومن أهازيج تلك الفترة: “أنصار تضرب تل أبيب… وحرس شعبي ع الحدود”! وما يثير الاهتمام فعلًا أنه سقط الشهيد علي أيوب في التوقيت نفسه تقريباً على أرض عيناتا الحدودية في مواجهة المعتدي الإسرائيلي، كما سقط الشهيد نعيم درويش في النبطية حين كان على رأس تظاهرة مزارعي التبغ.

بعد حرب السنتين، طرأ الكثير من العوامل السلبية على دور الشيوعيين، ولا مجال في هذه العجالة للتفصيل فيها، بيد أنَّ احتلال العدو العاصمة بيروت كان محطة مفصلية في عملية التحرير. وليس أمراً بسيطاً أن يبادر جورج حاوي بالشراكة مع محسن ابراهيم إلى إطلاق “جبهة المقاومة الوطنية” (جمُّول) من قلب بيروت المحتلة. وقد تمكَّنت “جمُّول” من أن تحرر العاصمة، ولتنجز حتى العام 1985 تحرير ثلثي الأراضي اللبنانية المحتلة… وأظن أنه بعيداً من شعار أطلق من أجل التعبئة: “الأرض لمن يحرِّرها”، لم يطلب الشيوعيون اللبنانيون ثمناً أو حصة لقاء ذلك النضال الوطني، بل إنَّ المحتل السوري استبعدهم وحدهم من التعيينات النيابية بعد الطائف، لأنهم كانوا الفريق الوحيد بين القوى السياسية الذي حافظ على استقلالية مواقفه السياسية، التي لم تتقبلها دمشق، ولم تكسرها الاغتيالات الآثمة خلال الثمانينات.

وسيدور الزمن دورته، وسيكون “اليسار الديموقراطي” في العام 2005 في مقدم الصفوف من أجل تحقيق الاستقلال الثاني، وليدفع غالياً الثمن باغتيال سمير قصير أبرز رموزه، ثم جورج حاوي الذي انحاز باكراً إلى انتفاضة الاستقلال.

طيلة هذه المرحلة احتضن مثقفون كبار نهج الشيوعي مسرحاً وموسيقى وتشكيلاً. من “أعرب ما يلي” يعقوب شدراوي إلى “جحا في القرى الأمامية” جلال خوري، إلى بول غيراغوسيان الذي خلَّد المقاومين في قلعة الشقيف بلوحة “أرنون حارس الجنوب” الشهيرة، ومعهم كوكبة من الموسيقيين والمغنين.هل يشكِّل “حزب الله” سبب أزمات البلد أو أنه واحد من أعراضها؟ لن أناقش صديقي د. محمد علي مقلد، لكن عندما يكتب أنَّ الكل متشابه في خدمة مصالح الخارج، يبتعد كثيراً عن الموضوعية في خلطة لا تقبل الخلط (!). أعرف جيدًا أنَّ الشيوعي تعاطف مع ربيع براغ في العام 1968، ليعود وينتظم موقفه السياسي “في الصف”، لكنَّه لم يرسل فصيلًا من الحرس الشعبي لمؤازرة الجيش الأحمر في احتلاله تشيكوسلوفاكيا. ثم إنَّ الزعم بأن علاقة “حزب الله” اللبناني بإيران تشبه تلك التي كانت للشيوعيين مع الاتحاد السوفياتي، كأني به يفوِّت عن عمد أنَّ الشيوعين – بين كثيرين من المقاومين دفاعًا عن سيادة البلد – سُحقوا أمام دبابات الأسد في العام 1977، عندما كانت موسكو تدعم الغزو السوري.

يعرف القاصي والداني، ويعرف د. مقلد خير على وجه التأكيد أن زعيم “حزب الله” هو من قال صراحةً إنه يفتخر بأنه جندي في جيش الولي الفقيه، وهو من قال صراحةً أيضاً إن سلاحه وتموينه وتمويله من إيران، وإنه إذا كانت إيران بخير فهو بخير… وبالأمس القريب قال السيد نصرالله إنه إذا انهارت الدولة اللبنانية فرواتب أعضاء حزبه وتوابعها مؤمنة (…) ولا شك أنَّ السيد يعلم أن من قاد حرب تموز من الضاحية كان قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وأنَّ ميليشيا “حزب الله” هي قوة الفيلق الضاربة، ولا سيما بعدما تأكد للجميع دورها في حرب إيران على الشعب السوري. كل المقارنات تسقط – ولا أريد صدقاً الدخول في النوايا – ويثبت الواقع مرةً جديدة أنَّ بيروت واقعة تحت الهيمنة الإيرانية، من خلال “الحزب” الذي تغوَّل بدويلته على الدولة. أما بالنسبة إلى سؤال المقال وعنوانه “ليس دفاعاً عن حزب الله!” ألا وهو: “كيف لنا أن نقتنع بأنَّ “حزب الله” ليس إيرانيًا؟”، فهل يملك د. مقلد فعلاً جواباً شافياً أمام وقائع يعرفها كل الناس؟

ردُّ ثانٍ على محمد علي مقلد في أي دينامية ينخرط “حزب الله”!؟ ذلك هو المعيار

8 نيسان 2020

حارث سليمان

اخشى ان نكون نهادن استمرار مرض راهن بالتذكير بوجود امراض سابقة. رغم ان توصيف الوقائع صحيح من خلال منهج تحليلي يفكك الوقائع ويشرحها، لكن المقالة تفتقد الاشارة الى مسألتين غاية في الاهمية؛

* موقع “حزب الله” راهناً كـ”رأس مقرر” لسلطة المحاصصة والفساد وهو يتولى ادارة النظام وضبط موازينه. في حين ان الناصرية والبعث والشيوعيين وحتى منظمة التحرير لم تصل للحظة واحدة الى موقع مقرر في رأس اي سلطة في لبنان.

* المسألة الثانية هي طمس الفارق الجوهري بين (طبيعة ارتباط) حزب الله بايران من جهة وبين اختلاف “طبيعات ارتباط” الشيوعيين والناصريين والبعثيين مع رعاتهم الخارجيين، ويحتوي هذا الفارق الجوهري طبيعة الدور المطلوب من الاصيل الى الوكيل. فماذا طلب صدام حسين من بعث العراق في لبنان وماذا طلب ناصر من ناصريي لبنان وماذا طلب الاسد من بعثييه في لبنان وماذا طلبت موسكو من شيوعيي لبنان، طبعاً كانت هناك مطالب، لكن مجموع الادوار المطلوبة لم تتعد حدود لعبة سياسية اعلامية محدودة التأثير، المشاريع الاساسية التي تشبه الهيمنة الايرانية هي ثلاثة؛ مشروع الاسد وقد نفذه الجيش السوري وليس البعث السوري، المشروع الاسرائيلي وقد نفذه الجيش الاسرائيلي، بتحالف مع بشير الجميل وغيره (وللدقة يجب التمييز بين مشروع بشير الذي يعيد النظر بالصيغة الميثاقية اللبنانية وبين المارونية السياسية التقليدية)، وتمت هزيمة المشروعين، بكلفة فادحة؛ هجرة، ضحايا، اقتصاد، نقد، دين، وفرص اقتصادية ضائعة.

المشروع الثالث هو الهيمنة الايرانية ويتولى مهمة رأس الحربة فيه “حزب الله” ليس في لبنان فقط بل في عموم المشرق العربي وصولاً لليمن.

هذا المشروع، أعاد تعريف المذهب الشيعي وقولبته عقائدياً، وأحدث تغييراً ثقافياً عميقاً في البيئة الشيعية فصلتها عن بقية الشعب اللبناني، ولم يقتطع حصة من مجال الدولة وحسب، كما فعلت الطوائفيات الاخرى، ومنها “حركة أمل”، بل اقام دويلة موازية تماماً للدولة الوطنية، دويلة مكتملة الابعاد من الدفاع والامن الى القضاء وتطبيق الشرع، الى السيادة على المعابر واستيفاء الرسوم وبناء مؤسسات التربية والصحة والاستهلاك والخدمات العامة كافة، وصولاً الى العلاقات الخارجية الدولية والتحالفات الاقليمية، وقلب لبنان من وطن الى متراس اقليمي. فتغيرت وظيفة الكيان في محيطه.

أما نقطة الانطلاق في رؤيتي لتشخيص العوامل المؤثرة في المجتمع السياسي والاقتصادي اللبناني، فهي انني اعتبر ان هناك تداخلاً او تشاركاً بين العوامل الداخلية اللبنانية وبين العوامل الاقليمية – عربية كانت ام ايرانية – والعوامل الدولية.

ولذلك لا بد لي من التصدي ورفض نوعين من المقولات:

الاولى قومجية، قومية، أو اممية تصف لبنان بانه كيان مصطنع لا قيمة له ولا امكان لحياته الا بضمه الى حضن اكبر منه في سورية الكبرى او الوطن العربي الكبير او جمهورية اسلامية عابرة للحدود سواء كانت داعشية او خامنئية، بهذا الموقف فقط من الوطن اللبناني قد يتشابه “حزب الله” مع البعث والناصرية والقوميين السوريين. جوهر هذه المواقف ان لبنان ليس وطناً بل هو كيان مصطنع انتجته مؤامرة استعمارية وخطأ تاريخي تمادى في العيش خلافاً لمنطقهم. كيان كهذا لا يمتلك داخلاً، لان حدوده مصطنعة او هشة، “حزب الله” جزء من هذا المنطق لذلك يعتبر لبنان ساحة.

المقولة الثانية والتي ارفضها ايضاً بنفس قوة رفضي للمقولة الاولى هي اعتبار لبنان وطناً منجزاً وارضاً لتجمع الاقليات الدينية والعرقية في الشرق وملجأ لكل مطرود من ارضه في العالم الاسلامي وان دوره يتأكد بعزل نفسه عن محيطه، وأن استمراره واستقلاله مشروط بضعف دول الجوار ومنعهم من ابتلاعه. جوهر هذه المقولة ان “قوة لبنان في ضعفه” اي أن هشاشة لحمته الداخلية وتفككه الاجتماعي، حصانتهما حماية خارجية مشتهاة من عسف الداخل العربي والاسلامي، وانه يكفي ان تنقطع ازمات المنطقة عن تخريب واقعه السياسي والاهلي، لينعم بحياة داخلية واقتصادية سليمة ومزدهرة.

هذا ما أرفضه اما ما أتبناه ايجاباً وبحكم رؤيتي للعوامل المؤثرة في واقعنا اللبناني فيتلخص بأمور ثلاثة:

الأمرالاول ان لبنان ليس واقعاً لبنانياً داخلياً بحتاً، وليس داخلاً يتأزم فيستدعي خارجاً يتدخل، بحيث نستنتج ان صناعة وفاق داخلي عبر تسويات لبنانية نبيلة، يمكن ان تقلص وتمنع تدخلاً خارجياً قائماً او محتملاً.

الأمرالثاني واعتقد انه جوهر خلافي مع د. محمد علي مقلد، هو ان تثقيل العوامل الداخلية بمواجهة العوامل الخارجية المؤثرة في الواقع اللبناني، هو مسألة دينامية متغيرة ومتطورة، بحيث ان وزن العوامل الداخلية مقارنة بوزن العوامل الخارجية لا يمكن أن يقيم لمرة واحدة في كل زمان ومكان، وعليه فان هذه المسألة ليست شأناً فكرياً نظرياً، بل هي قياس تجريبي في كل مرحلة من المراحل. الداخل اللبناني يمكن صناعته وهذا ما جرى خلال مئة سنة من عمر لبنان حيث ان الكيان الذي ولد هشاً ومرفوضاً، اصبح وطناً لجميع ابنائه، لكن هذا الداخل ايضاً يمكن ان يفكك ويتم تدمير وظائفه ومكوناته ايضاً، بمعنى ان لبنان وطن يمكن بناؤه كل يوم ويمكن تفكيكه وتجزئته كل يوم ايضاً.

وأن قيام الدولة وسيادتها على حدودها وداخل حدودها هي اهم محرك لبناء الوطن، اما المحرك الاساسي الآخر فهو وظيفته الاقتصادية في محيطه.

الامر الثالث وهو استنتاج عياني لما سبق، ويتجلى بالسؤال الجوهري: في أي موقف نحن اليوم من دينامية بناء – تفكيك الوطن اللبناني؟ ولبنانية اي طرف سياسي وكذلك لبنانية “حزب الله”، ليس في بطاقات هوية افراده، بل ان معيار لبنانيته هو مدى انتسابه الفعلي لدينامية واحدة من اثنتين؛ دينامية التفكيك أم دينامية البناء؟.