15 تشرين الأول 2022
ظروف التعطيل هذه المرة مختلفة عن سابقاتها. في برلمانات ما بعد اغتيال رفيق الحريري كانت الأغلبية معقودة دوماً لصالح القوى السيادية ويمنع عليها أن تحكم. هذه المرة لا أحد يملك أغلبية ولا مضمون الصراع على السيادة هو ذاته ما كنّا تعلمناه ومارسناه. في المرات السابقة كانت قوى الممانعة، رغم كونها أقلية دائمة، تفرض التعطيل بقوة «القمصان السود» واحتلال «الداون تاون» ودعم لوجستي بمناورات يتقن إخراجها رئيس البرلمان.
في برلمانات 2005 و2009 و2018 لم تكن الأقلية تملك لممارسة التعطيل الرئاسي أو الحكومي غير التشبيح الميليشيوي، وعند حصوله لا يبقى من الشرعية غير البرلمان، ما يمكّن رئيسه من الظهور في دور منقذ البلاد من الضلال وصمام انتقالها من لجة الأزمة إلى شاطئ الأمان.
قبل الترسيم كان التعطيل أداة مفضلة لدى الممانعة لمواجهة ما تسميه نفوذ السفارات وعملائها، ولا سيما منها الأميركية والسعودية، وكانت خطوط التماس اللبنانية واضحة. من جهة، المقاومة الإسلامية وأنصارها والمطبلون لها يميناً ويساراً بمن فيهم ورثة «جمّول»، و»المزمّرون» من خلالها لمقدمي الدعم المالي والدبلوماسي من خارج الحدود، والمستظلون بها من تجار السياسة وسماسرتها الصغار داخل الحدود؛ ومن جهة أخرى، سياديون برأوا أنفسهم من تهمة انتهاك السيادة، مع أن المشاركين في الحرب الأهلية كلهم متورطون في انتهاكها. تفسيرهم الجغرافي لا السياسي ليس دليلاً كافياً على أن جريمة الانتهاك تلك لا يرتكبها عدو أو صديق، إلا إذا كانا مقيمين خارج الحدود.
قبل الترسيم كان التعطيل يرمي إلى الاستحواذ على توقيع الرئاسة الأولى، لأنّ الثانية معقود لواؤها، باتفاق طرفي خطوط التماس، لمن تؤول الرئاسات إلى مؤسسته حين تغيب الشرعية والميثاقية عن المؤسسات الدستورية الأخرى، ولأنّ الثالثة مصانة بتوازنات إقليمية أو بقوة أمر واقع لم ينجح التعطيل في اقتحام ساحته المذهبية.
بعد الترسيم كلّ شيء تبدّل وتغير أو هو لا بدّ صائر إليهما، إلا البطل. بطل الحرب هو ذاته بطل السلم. بطل التعطيل وبطل الترسيم واحد على خشبة المسرح، يأخذ وضعية رامٍ سهمه لا يخيب. اليوم إصبعان علامة نصر لا يحول ولا يزول، والبارحة إصبع واحدة للتهديد والوعيد. اليوم انتصار بالإذعان، اتفق الطرفان على نعته بالتاريخي، فيما هو يشبه صكوك الغفران، بيع الثروة والسيادة والكرامة الوطنية مقابل وعد بالجنة. والبارحة انتصار بالتدمير طال الوطن والسيادة الوطنية والدولة ومؤسساتها الدستورية.
المتغيّرات ستطال الجميع. الرئيس سيغادر القصر في آخر تشرين الأول وعندها سيدخل «التيار الوطني الحر» في لحظة المحاق، وصواريخ المقاومة ستصاب بصدأ المفاوضات الإيرانية مع «الشيطان الأكبر». أما رئيس البرلمان فلن ينسى أحد من اللبنانيين أنه كان أول من دشن المفاوضات غير المباشرة في دارته في عين التينة، وما كان ليقدم على «فعلته» تلك من دون موافقة كبار المفاوضين في دمشق وطهران وصغارهم في لبنان. أفلا يظن الرئيس بري أنه لم يعد سهلاً عليه إقناع اللبنانيين بأنه فوق الصراعات، فمشاركة كتلته في التعطيل يفضح سر مناوراته التى تصوب على التوافق وترمي إلى التعطيل ؟
إن قيل إنّ سوء الظن بعقول اللبنانيين هو من حسن الفطن، فقد قيل أيضاً إن بعض الظن إثم، وفضيلة الثورة، خصوصاً بعدما صار لها ممثلون في المجلس النيابي، أنها كشفت الأقنعة وألغت خطوط التماس القديمة وتجاوزت الانقسامات والاصطفافات التي كانت تغطي الحقيقة بتوافقات برلمانية تحاصصية على حساب الدستور والسيادة الوطنية.
فيما يعبّر اللبنانيون عن إعجابهم بقدرة الثنائي الشيعي على دقة التنسيق والتناغم بينهما في ما هو متفق عليه كالتعطيل أو مختلف عليه كالموقف من «التيار العوني»، فهم ينتظرون تفسيراً لتوقيع اتفاق «يحمي المصالح الأمنية والاقتصادية لإسرائيل» ؟ ويأملون بأن تكون أولى علامات ظهوره نزع الصواعق من الصواريخ والأقنعة عن الوجوه؟
لقد بات من المؤكد أنّ الأقنعة بعد الترسيم لم تعد تكفي لإخفاء الزيف عن الوجوه؟
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان