لم تتعلّم قوى 14 آذار من كارثة اغتيال رفيق الحريري ما تعلّمته ثورة 17 تشرين من كارثة الانهيار العام. الدرس المفيد سابقاً ولاحقاً هو أنّ العطل كامن، بالدرجة الأولى، في آليات عمل النظام، قبل أن يكون في العامل الخارجي الذي يلعب دور المساعد. من ينطلق من غير هذه الحقيقة سيتوه عن الحلول والمعالجات الصحيحة.
هنا مكمن الأزمة ولا حلّ إلا بإعادة تشكيل السلطة السياسية، وهذا ما أحجمت عنه قوى 14 آذار، حين رأت في خروج الجيش السوري إجراء كافياً لوضع قطار التغيير على سكّته الصحيحة.
السلطة التي بناها النظام السوري على صورته ومثاله هي من الصنف الذي يدير شؤون البلاد، بعيداً عن لغة القانون والدستور، بقوة الأحكام العرفية والظروف الاستثنائية وعبارة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». فكيف إذا كانت معركة لا تحول ولا تزول، الشعار المعلن فيها مقاومة المشروع الصهيوني، أمّا الموقف الفعلي فهو يقع في المسافة الممتدّة بين الامتناع عن تحرير الجولان وتأجيل الردّ على العدوان الإسرائيلي اليومي على سوريا إلى أجل غير مسمّى، واستمرار القتال حتى آخر مقاوم لبناني ضدّ احتلال لم يعد موجوداً، وبين عقد مفاوضات واتفاقات والبحث عن تسويات، تحت الطاولة وفوقها على حساب الشعبين اللبناني والسوري والقضية الفلسطينية.
تلامذة النظام السوري اللبنانيون حفظوا الدرس جيداً وطبّقوه وفاقوا أساتذتهم من ضبّاط المخابرات. أما قوى 14 آذار فقد وقعت في شرك العلاقة مع الخارج، ولم تتنبّه إلى أنّ الاستقواء على سوريا بقوى دولية يشبه الاستقواء بسوريا على مواطنين لبنانيين.
الميل إلى الاستقواء بالخارج هو أحد القواسم المشتركة بين المصطفّين على جبهتي آذار، وأحد الدوافع المضمرة لعقد الاتفاق الرباعي الذي صار خماسياً في دائرة بعبدا حيث أعلن أمين عام «حزب الله» تحالفه مع «القوات» و»الكتائب» وتمسّكه بشعار بشير الجميل (10453). لو أنّهم ركّزوا على أولية العامل الداخلي لكانوا استكملوا انتفاضة ساحة الشهداء بالذهاب إلى قصر بعبدا لإزاحة الرئيس الذي، لفصاحته المعهودة، لم يجد في اللغة للتعبيرعن هول كارثة اغتيال رئيس الحكومة، أفصح من كلمة «رذالة».
أحجموا عن ذلك لأنهم لم يولوا أهمّية للعامل الداخلي، ولم يضعوا خطّة لإعادة الاعتبار للدولة والدستور والقانون، ولم يعملوا على تنظيف العمل السياسي من شوائب الاستبداد المخابراتي وإعادته إلى جادة الديمقراطية، بل وقعوا في أشراك استدرجتهم إليها قوى الثامن من آذار.
الاتفاق الرباعي- الخماسي هو الشرك الأول. الثاني تمثّل في الإحجام عن تشكيل حكومة تمثّل الأغلبية النيابية، بدعوى الحرص على الوحدة الوطنية من طرف واحد. تكرّر ذلك مع أغلبيتين برلمانيتين في دورة 2005 ودورة 2009، ومن تبعاته تكريس آليات المحاصصة في توزيع الوزارات ومراكز القرار على القوى بعد تصنيفها بين سيادية وخدماتية ووزارات دولة و»فضلات»، والثالث في زيارة سعد الحريري إلى سوريا، وآخرها انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
حققّت حكومة فؤاد السنيورة، بالرغم من تلك الأشراك، إنجازين كبيرين، إعداد قانون انتخابي جديد أطلق عليه قانون فؤاد بطرس، ما لبثت الممانعة أن رمته في سلّة المهملات، والالتزام بالموجبات المالية لتشكيل المحكمة الدولية. إلا أنّ الحكومة لم تعد تملك المبادرة في إدارة الشأن العام وصارت في موقع الدفاع، بعدما تمكّنت قوى الممانعة من إحكام الحصار عليها بالرئاستين الممانعتين وبمخيّم ساحة رياض الصلح وباحتلال بيروت، حصار انتهى باتفاق الدوحة وبداية تفكّك جبهة الأحزاب والقوى التي تشكّلت منها قيادة انتفاضة الاستقلال.
يمكن للثورة أن تستفيد من الدروس الغنية التي وفّرتها الانتفاضة. لكنّ ذلك مستحيل بغير النقد الذاتي الجريء. من بين تلك الدروس ومن بين أسباب انهيار التجربة تغليب المصالح الحزبية الضيّقة على مصلحة القضية التي حملتها الانتفاضة.
لعلّ من اصطفتهم الثورة لتمثيلها في الشارع أو في البرلمان يتفادون تلك الأخطاء، لأنّ الثورة، كما الانتفاضة، أكبر من أحزابها ومن قياداتها.
مقالات ذات صلة
طوفان عيوب في حرب الإسناد
حزب الله كمقاومة وحزب الله كحركة تحرر وطني
هل الصمت الدولي مشروع ومبرر؟