2 مايو، 2024

في سبيل بناء الوطن والدولة

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=804739

اتم إعداد هذا النص ليقدم إلى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني باسم المعارضة الحزبية ولم ينشر لتعذر اتفاقها عليه

إن للبنانيين في تاريخهم وفي الدور الكبير الذي أدوه في محيطهم منذ اختراع الحرف حتى النهضة الحديثة وإسهامهم الفاعل في اليقظة العربية، وصولا إلى إنجازهم الكبير في تحرير أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي، إن لهم في كل ذلك ما يعطيهم الحق وما يملي عليهم واجب بناء الوطن والدولة.
غير أن تركة الماضي المثقلة بمخلفات التاريخ وبتعقيدات السياسة الإقليمية والدولية تجعل تحقيق هذه المهمة بمثابة ثورة حقيقية تنقذ لبنان، في حال نجاحها، من حالة التفكك التي تهدد وحدته على الدوام، ومن التشرذم المذهبي والطائفي الذي يبقيه في مهب مخاطر الحروب الأهلية، ويعرض السلم الأهلي فيه لانتكاسات دائمة كلما اختلت التوازنات الإقليمية والدولية.
لقد قام الكيان اللبناني في خضم حالة الغليان التي شملت الشرق العربي ، واستقرت محصلة التوازنات الدولية والمحلية على الاعتراف بالكيانات الراهنة، و من بينها لبنان، وقد لحقه من الالتباس حول هويته حصة تفوق حصة سواه، نتيجة وجود تيارات سياسية وإيديولوجية متعددة في داخله مع امتدادات لها عربية ودولية.
وإذا كانت الدولة|الأمة بمعناها الحديث قد قامت في سياق مخاض طويل، وصراعات اجتماعية وسياسية، وحروب طاحنة على امتداد القرنين الأخيرين، وثورات علمية واقتصادية استمرت قروناً، فإن قيامها في العالم العربي كان يفتقر إلى هذا السياق التاريخي المعقد والغني الذي توجته الحضارة الرأسمالية بقيام صيغة جديدة على الصعيد الاقتصادي، انتقلت فيها الدول من الحكم الوراثي إلى حكم الشعب والديموقراطية، ومن سلطة الشرائع والأعراف والتقاليد إلى سلطة القانون الوضعي.
إن الدولة|الأمة قامت على مفاهيم الوطن والسيادة والإرادة الحرة لشعب يحكم نفسه ويدير شؤونه من خلال الدولة التي تجسد سيادة الشعب على حدود الوطن وداخل حدوده ، غير آن هذه الأسس لم تكن راسخة في جذور هذا الوطن الحديث النشأة، ولذلك عصفت بلبنان هزات كبيرة، وأثبتت تجربة الاستقلال أن هشاشة بنية الدولة ناجمة عن إمعان السلطات المتعاقبة بالتفريط بالسيادة الوطنية، فقد اعتمدت للدفاع عن حدود الوطن شعار ” قوة لبنان في ضعفه” فغدا الوطن، بموجب هذا الشعار، ضحية الاستسلام لموازين القوى الإقليمية، كما اعتمدت، بديلا من سيادة القانون، سياسة المحاصصة، فوزعت سيادة الوطن والدولة إلى سيادات حظي بها زعماء الطوائف والمناطق، حتى بداية الحرب الأهلية، ثم شاركهم بعدها أمراء الحرب وممثلو المذاهب. كل ذلك أدى إلى عدم تأصيل شعور وطني لدى اللبنانيين بالانتماء إلى وطن واحد وشعب واحد ودولة واحدة.
أما على المستوى الشعبي فقد استمرت التقاليد الموروثة عن مرحلة ما قبل الاستقلال شديدة النفوذ، وشهد لبنان صراعات حول هويته، أضعفت وحدته الوطنية. وقد شاركت كل التيارات، على تعارض منطلقاتها الفكرية والسياسية، في هذه العملية، انطلاقاً من عدم اعترافها الضمني بالكيان اللبناني كوطن نهائي، ومن رغبتها في تحقيق مشاريع يكون فيها لبنان جزءاً من كيانات أشمل عربية او إسلامية أو أممية أو غربية|مسيحية. لذلك ظل الولاء للوطن أوهى من الولاء للطوائف والمذاهب وللتيارات القومية والدينية، وظلت القضايا الوطنية موضوعاً للصراع بين القوى بدل أن تكون أساسا لوحدتها الوطنية

من ناحية أخرى بدا أن طرح شعار الوطن القومي المسيحي وما قابله من شعارات تعريب لبنان وأسلمته قد عزز الشعور المضمر لدى اللبنانيين بأن هذا الكيان ليس وطنا نهائيا لجميع أبنائه. وقد شارك الشيوعيون في المعركة حول هوية لبنان، ولئن تميزوا بصدق نضالهم من أجل الاستقلال و انتمائهم إلى شعبه من موقع علماني غير طائفي، غير أن انتماءهم إلى أممية اشتراكية جعلهم يتساوون مع سواهم من القوى الأخرى بالتعامل مع الوطن ككيان عابر ومرحلي.
هذه العوامل الداخلية كانت سببا ونتيجة في آن واحد في تشجيع القوى الخارجية على توظيف الانقسامات بين اللبنانيين لصالح صراعات إقليمية بين الدول العربية أو بينها وبين إسرائيل فضلا عن الصراعات الدولية بين المعسكرين، وقد بلغ التوظيف ذروته بفعل تداعيات القضية الفلسطينية وتفاعلاتها في الوضع الداخلي اللبناني.
المهمة المركزية أمام الشيوعيين اليوم هي نضالهم من أجل بناء الوطن والدولة بما يتخطى كل صيغ العيش المشترك والتعايش الطائفي والتكاذب المتبادل وطنا للشعب اللبناني ودولة تحمي سيادته هي دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية والعدالة والحريات الفردية والعامة، دولة تستعيد ما منحته السلطات أو ما صودر منها بالمحاصصة الأمنية والإنمائية والسياسية والقضائية، لأن بقاء الأمور على حالها يشكل أرضا خصبة للمحاصصين ليبقوا جاهزين ويجهزوا معهم البلاد لحروب أهلية جديدة .

في هوية لبنان

لقد حسم الدستور اللبناني انتماء لبنان إلى الأمة العربية، لكن رواسب الصراع حول هذه القضية لا تزال شديدة الحضور، ذلك أن اقتران العروبة بالإسلام ، في نظر البعض، في ظل نهوض الإسلام السياسي في المنطقة، إضافة إلى الوجود العسكري السوري، قد جعلا الهوية تبدو كأنها مفروضة فرضا على اللبنانيين ، لاسيما في صيغتها السائدة في أنحاء العالم العربي، أي عروبة الحكم الوراثي وغياب الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان.



إن الشيوعيين اللبنانيين يرون في العروبة انتماء طبيعياً إلى تاريخ هذه الأمة وحضارتها وثقافتها وإلى المصالح المشتركة لشعوبها، وهي خيار حر للبنانيين جسدوه في نضالهم البطولي ضد المشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي، وفي تضامنهم الصادق مع كل الشعوب العربية في كفاحها من أجل التحرر والاستقلال، وفي احتضانهم جهاد الشعب الفلسطيني في سبيل قضيته العادلة للعودة و تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على أرضه. من موقع هذا الخيار الحر يؤكد اللبنانيون على أهمية معالجة العوامل التي تقحم عروبة لبنان في التباسات ثلاثة
1- العروبة ليست قرينة للإسلام، بل هي انتماء تاريخي لكل شعوب المنطقة على اختلاف شرائعهم وعقائدهم الدينية، كما أن العلاقات بين الأديان في لبنان محكومة بالتفاعل الإيجابي الضروري للوحدة الوطنية والقومية على حد سواء، ولهذا فإن دور أحزاب الإسلام السياسي ينبغي أن يخضع للمعايير السياسية وحدها ، وذلك من موقع الفصل الضروري بين آليات النشاط السياسي وممارسة الطقوس والشعائر الديني

2- تبدو العروبة في ظل الوجود العسكري السوري وكأنها ليست خياراً لبنانياً حراً، بل مفروضة على اللبنانيين مع صيغتها المعتمدة في سوريا، في حين يتمسك اللبنانيون بعروبة ديمقراطية تجيز الاختلاف وتحميه وتجعل التنوع أساسا للوحدة الوطنية، ولا يقبلون عروبة الحزب الواحد التي انتقلت تقاليدها إلى بنية النظام اللبناني وبات اختيار السلطات والحكومات وممثلو الشعب، بموجب هذه التقاليد، محكوماً بآليات المركزية المعتمدة في الأنظمة التوتاليتارية.
إن المدخل إلى حل هذا الالتباس رهن بإعادة نشر القوات السورية، تمهيداً لخروجها من لبنان، بعد أن أدت دورها في مساعدة لبنان على تحرير أرضه من الاحتلال الصهيوني، على أن يكون ذلك في سياق خطة تعزز العلاقات المميزة بين الدولتين وبين الشعبين على قاعدة السيادة والاستقلال والحرص المتبادل عل المصالح المشتركة والتنسيق الكامل لتحرير كامل الترابين اللبناني والسوري.
3- ينطبق على الأحزاب المسيحية السياسية والمؤسسات الدينية المتحالفة معها ما ينطبق على أحزاب الإسلام السياسي والمؤسسات المماثلة بحيث لا تبقى العروبة مجرد التزام تكتيكي يخدم المصالح الآنية ثم لا يلبث أن ينتفي لصالح مشاريع مضمرة مضرة بوحدة الشعب اللبناني وانتمائه القومي العربي

في إطار معالجة هذه القضايا لا تكون عروبة لبنان نقيضا للانتماء إلى الأمة، ولا يكون التمسك بالكيان اللبناني خطرا على نزوع الأمة إلى وحدتها القومية، ولا القطرية رديفا للتفكك، بعد أن صار لأقطار الأمة تاريخ وبعد أن غدا الدفاع عن وحدة كل قطر مهمة مقدسة في مواجهة التفتيت العولمي الجاري على قدم وساق. فوق ذلك وقبله، تبقى الوحدة العربية ضرورة قومية لا تمليها مصالح الحكومات بل إرادات الشعوب ومستوى تطور علاقاتها الاقتصادية والثقافية والإعلامية ومستوى معيشتها ودرجة تطور نظمها السياسية

أما واجب لبنان حيال القضية الفلسطينية فهو جزء من الستراتيجية العربية، فيضطلع لبنان بدوره في المواجهة، مثل سائر دول الطوق، ولم يعد جائزا أن يتحمل وحده عبء القضية عبر حدوده، ولا يجوز أن تبقى أرضه مجرد ساحة توظف في خدمة الصراعات الإقليمية ،بمعزل عن إرادة الدولة وسيادتها الكاملة على أرضها وحدودها، ولا يجوز ذلك، خاصة بعد الدور الريادي الذي قام به لبنان بمقاومته وشعبه ودولته، لا دفاعاً عن أرضه فحسب، بل عن كل الأمة العربية وباسمها ونيابة عنها، وعن الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في العودة وبناء الدولة.

بين التغيير الداخلي والانتماء القومي

شكل المؤتمر الثاني للحزب نقطة تحول هامة في سياسته وبرنامجه النضالي وذلك استنادا إلى جهد نظري أطلق من خلاله موقفاً جديداً من القضية القومية ومن التغيير الداخلي وعلاقته بهذه القضية، وبنى على أساس ذلك تحالفاته الوطنية والقومية، انطلاقاً من الترابط العضوي بين مهام التحرر الوطني والثورة الاجتماعية.
وفي المؤتمر الثاني أيضا ربط الحزب ربطاً عضوياً قضايا التحرر القومي بالثورة الاشتراكية، وعلى أساس ذلك انخرط في صفوف حركة التحرر الوطني العربية الرسمية والشعبية في مواجهة الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية محاولاً التمايز عنها في مواقفه المعلنة من أزمة القيادة والبديل الثوري، وفي ممارسته الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني. ومن هذا الموقع بالذات انخرط في الدفاع عن القضية الفلسطينية وثورتها المسلحة، وأطلق مع تنظيمات شيوعية أخرى المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي .
لقد وضع الحزب في تمايزه هذا أسساً كافية للعب دور طليعي على الصعيدين العربي واللبناني، غير أن نقاط اللقاء مع الخط الرسمي المهيمن في حركة التحرر الوطني غلبت على نقاط التباين، لاسيما في ما آلت إليه الأمور من غلبة القومي على القطري، بعد هيمنة القرار الفلسطيني خلال الحرب الأهلية، والسوري فيما، بعد على القرار اللبناني .
لقد كان دوره طليعياً في نهج المواجهة مع العدو الصهيوني، فكان من الطبيعي أن يرتب عليه ذلك أعباء مواجهة أخرى مع الخط الرسمي لحركة التحرر، وهو ما لم يكن مهيأ له ولا قادراً عليه وحده، ولا كانت الظروف الموضوعية ناضجة في العالم العربي لمثل تلك المهمة التغييرية الكبرى.
وقد استنتج الحزب، وهو في غمرة التجربة، أن التغيير في لبنان رهن بموازين القوى في العالم العربي التي لم تكن مؤاتية في ذاتها، ثم تفاقمت سلبيتها بعد انهيار التجربة الاشتراكية .
أما الآن ، وبعد اكتمال تجربة المؤتمر الثاني، وهزيمة الخط الرسمي لحركة التحرر الوطني، و”سباحة الحزب ضد التيار”، وانهيار المنظومة الاشتراكية، وانهيار المشروع الوطني اللبناني، وسيادة العولمة وهيمنة القطب الواحد ودكتاتورية السوق، وبعد توقف الحرب الأهلية وتفاقم الأزمة اللبنانية، فماذا يمكن للحزب أن يستنتج؟
1- لا تناقض بين الانتماء إلى الوطن والانتماء إلى الأمة. غير أن أقطار الأمة العربية باتت من الرسوخ في تمايزها وتنوعها بحيث لا يمكن بلوغ الوحدة القومية إلا بإجراءات تمهيدية تقرب بين هذه الأقطار، في مستويات نموها وأنظمتها السياسية والاقتصادية والمالية والنقدية والإعلامية والتعليمية، الأمر الذي يتطلب على مستوى الحكومات علاقات من التعاون والتنسيق والتكامل تتجاوز صيغ التناقض التي هددت تلك الأقطار بالحروب، وتتجاوز أيضا صيغ الحماس الشوفيني تغنياَ بتاريخ الأمة وأملاً بوحدتها المستحيلة في الشروط الراهنة.
2- إن تطور كل قطر عربي هو عنصر إيجابي وهام وضروري في سياق تحضير أقطار الأمة للوحدة، لكن ذلك يحتاج إلى صيغ من التنسيق المتدرج على كل الصعد وفي جميع الميادين، ومفتاح هذا التطور هو اعتماد الديمقراطية أساساً في بنية الأنظمة السياسية، ما يعني أيضا أن الوحدة القومية لايمكن أن تقوم بغير الديمقراطية .
3- إن حماية الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي هي المهمة الأساس في مواجهة مخاطر التفتت المستفحلة بضغوط العولمة وهيمنة المؤسسات الاقتصادية المحلية والعالمية . واستنادا إلى ذلك لا شيء أمام الشيوعيين أسمى من الحفاظ على وحدة الوطن أرضا وشعبا ومؤسسات، ومن ترسيخ هذه الوحدة بقيام الدولة التي تجسدها.
4- يكون الحزب الشيوعي رائدا في عروبته إذا كان رائدا في لبنانيته، فيقدم النموذج لما ينبغي أن تكون عليه الأحزاب الشيوعية والتقدمية واليسارية الديمقراطية على امتداد الأمة، ويصوغ معها أشكالاً من التحالف النضالي في سبل تقدم الأمة وتطورها باتجاه الوحدة القومية، ويجري معها تقويماً للمرحلة السابقة من النضال، توصلاً إلى خلاصات مفيدة ووضع برنامج مشترك للمستقبل.
5- تحتل العلاقات مع سوريا ومع الفلسطينيين المقيمين في لبنان ومع فلسطين موقعاً أساسياً في سياسة الحزب والدولة اللبنانية، نظراً لعلاقات التاريخ والجغرافيا والتداخل الديمغرافي والوجود المدني والمسلح، ويكون تنظيمها على قاعدة الحرص المتبادل على سيادة كل شعب على أرضه ومؤسساته ومقدراته، واستناداً إلى التعاون المشترك والروابط المميزة في مواجهة العدو الصهيوني ً، لتحرير الأراضي العربية المحتلة في لبنان وسوريا وفلسطين.

من دولة المحاصصة إلى دولة الوحدة الوطنية

إما بناء الوطن والدولة إما سياسة المحاصصة. هذه هي المشكلة التي رافقت تطور لبنان الحديث ، حيث اعتادت السلطات اللبنانية على توزيع سيادة الدولة فكان للإقطاع السياسي حصة وأخرى لزعماء الطوائف الروحيين ، ثم اقتطع الفلسطينيون حصة داخل المخيمات ما لبثت أن اتسعت خلال الحرب ،وكاد النفوذ السوري يطغى على دور الدولة، لاسيما بعد الطائف إلى أن نعمت قوى الأمر الواقع بجزر أمنية وإنمائية وقضائية وإدارية في المناطق وفي أجهزة الدولة، بالتواطؤ الكامل بين أهل السلطة والأجهزة السورية وأمراء الحرب وسلاطين المال.

بديلا عن سياسة المحاصصة هذه لا بد من قيام سلطة الدولة، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والديمقراطية والعدالة الاجتماعية . وفي سبيل ذلك ينبغي أن تستعيد الدولة كل الصلاحيات المصادرة منها والموزعة على قوى داخلية وأخرى خارجية، وذلك من خلال المهمات التالية:

1-ارتفاع أداء السلطة إلى المستوى الذي يجسد سيادة الدولة كاملة على الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة، وذلك بنشر الجيش اللبناني في المناطق المحررة ، واستكمال إشرافها الإداري والإنمائي عبر اجهزة الدولة وحدها وإلغاء كل الأجهزة الرديفة والبديلة التي استولت على دور الدولة وصادرته، لا بغفلة عن السلطة أو بعيداً عنها، بل بمعرفتها ومباركتها، على غرار ما تساهلت بتوزيعه على قوى الأمر الواقع في سائر المناطق اللبنانية.

2-إلغاء الجزر الأمنية اللبنانية والفلسطينية على كل الأراضي اللبنانية، دون أن يتناقض ذلك مع استمرار الجهود السياسية والعسكرية من أجل استكمال تحرير الأراضي اللبنانية في مزارع شبعا وسواها وتحرير الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، ولا مع كل عمل عربي مشترك دعما لنضال الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة .

3-معالجة المسألة الطائفية على قاعدة التعامل مع الطوائف بصفتها جزءا عضوياً من النسيج الاجتماعي اللبناني ومن المجتمع الأهلي، مع ما يمليه ذلك على الدولة والأحزاب السياسية من تفاعل مع عاداتها وتقاليدها من موقع الاحترام وحماية حرياتها في ممارسة طقوسها وشعائرها، على أن يترافق ذلك بحزم ضد نزوعها للعب دور سياسي أو لتحولها إلى بنى سياسية رديفة تنمو على حساب الدولة والوحدة الوطنية .

إن لرجال الدين حقاً مشروعاً، كحقوق سائر المواطنين، في أداء دورهم كأفراد في المجتمع، غير أن استخدام المنابر الدينية في غير العبادات، ومصادرتها في معظم الأحيان وتوظيفها خارج إطار الطقوس والشعائر الدينية، يشكل تجاوزاً للدور الثقافي والاجتماعي المنوط بهم، واعتداء صارخاً على سلطة الدولة، لأنه يوظف جمهور المؤمنين في المساجد والكنائس في عمل سياسي مباشر، من غير الخضوع لقوانين النشاط الحزبي المعمول بها في لبنان، وينقل الطوائف من الحيز الاجتماعي الطبيعي إلى ممارسة دور سياسي مباشر تغذيه الغرائز والنعرات الطائفية والشحن المذهبي المهدد للوحدة الوطنية، ولأنه يشكل وسيطاً في العلاقة بين الدولة والمواطن مما ينتقص من سلطة الدولة ويشوه مفهوم المواطنية.

لقد اكتنف موقف الشيوعيين اللبنانيين من المسألة الطائفية التباس، لم يكن كافياً إعلان الهوية العلمانية لتبديده، بل على العكس، ساعد في تكريسه بسبب تصنيفات مشبوهة ساوت بين العلمانية والإلحاد، وبسبب موقف خاطئ وسلوك غير صحيح مارسه الشيوعيون اقتداء بالتجربة السوفياتية

غير أن الشيوعيين حسموا في مؤتمراتهم الأخيرة موقفهم ووضعوا حدا لهذا الالتباس وأعلنوا أن الانتماء إلى عضوية الحزب رهن بالموقف من القضايا السياسية والوطنية فحسب، وأن الحزب ليس حزباً فلسفياً بل تنظيم سياسي يلتزم بما تمليه عليه قوانين الدولة وأعراف المجتمع وعاداته وتقاليده، ويناضل لتحقيق برنامج في رأس أولوياته حماية حرية المعتقد والتفكير والتعبير وحرية ممارسة الطقوس والشعائر، لكنه، في المقابل، يناضل بلا هوادة ضد كل انتقاص من سيادة الدولة وانتهاك لها ومقاسمتها ومحاصصتها من جانب الأفراد والجماعات، سياسيين كانوا أم دينيين.

إن التواطؤ بين معرقلي قيام الدولة وظف شعار إلغاء الطائفية السياسية توظيفاً إيديولوجياً ، فوضع إزاءه شعار العلمنة لكي يلغي أحدهما الآخر، وفي المقابل أخفقت القوى العلمانية، ومنهم الشيوعيون، في وضع تحليل علمي صحيح لظاهرة الطائفية فاستخفت بها واعتبرتها عابرة طارئة.

بينما أثبتت التجربة أنها متجذرة في بنية المجتمع اللبناني، وأن معالجتها بالحلول الطائفية المطروحة أمر مستحيل، ذلك لأنها قضية سياسية بامتياز ولن تعالج إلا بحلول ذات طابع سياسي . إن الطائفية انتهاك صارخ لسيادة الدولة والقانون، ولا يجوز أن يبقى التنازع قائماً بين سلطة الدولة الواحدة وسلطات موازية تهدد بنفوذها السلم الأهلي ووحدة البلاد .

لقد آن الأوان لوضع حد لهذه الازدواجية فتستعيد الدولة سيادتها من مغتصبيها السياسيين والدينيين في كل شأن يتعلق بالمواطنية والمجتمع المدني وقوانين الأحوال الشخصية، وأن تشرف إشرافاً مباشراً على المحاكم الشرعية وتخضعها لسلطة مجلس القضاء الأعلى، وللقوانين اللبنانية التي تحكم استنادا إلى القوانين الوضعية وإلى القوانين الشرعية المرعية لدى الطوائف والمذاهب اللبنانية.

دولة الحريات والديمقراطية

في لبنان كثير من الحريات وقليل من الديمقراطية. هذه المفارقة ناجمة بدورها من معضلة السيادة المفقودة والمستباحة حيث تتضاءل سلطة القانون وتضيق مساحة تنفيذه، ويكون لكل قانونه، ويكون له وحده تعيين هامش الحرية في القول والتعبير والاعتقاد والإعلام والإعلان، استنادا إلى ما يملكه من قوة مالية أو سياسية أو عسكرية، فيصبح من الطبيعي أن تتضاءل عناصر الوحدة بين قوى متنافرة المصالح ومستعدة دوما لإقحام البلاد في حروب أهلية، حماية لمصالحها.

القانون وحده يحمي حرية الأفراد والجماعات، ويصون مبدأ الاعتراف بالآخر . وإذا كان الدستور اللبناني يقر المساواة بين المواطنين ويعترف بالتنوع والتعدد ، وتحمي نصوصه الحريات، إلا أن ممارسة السلطة تتمخض عن صيغ عجيبة ترمي إلى حماية حقوق الأكثرية المصانة حقوقها حكما لأنها أكثرية، في حين يتوجب على السلطة أن تصون بالقانون حقوق الأقلية. إن السلطة اللبنانية تعتمد آليات غير ديمقراطية ومنافية لروح الدستور حين لا تأخذ بالاعتبار ضرورات التغيير والتطوير في بنية النظام اللبناني وفي دستوره وقوانينه ، بما يتلاءم مع التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في لبنان والعالم، وحين ترضخ لابتزاز”النصوص والنفوس”وتقف موقف الريبة والهيبة أمام كل مطالبة بتعديل قانون الانتخاب، وإن فعلت كرست ما ينطوي عليه هذا القانون من صيغ تعيق نهوض الديمقراطية في البلاد.

مفتاح المعالجة لنواقص الديمقراطية في النظام اللبناني هو في تعديل جذري لقانون الانتخاب باتجاه اعتماد الدائرة الكبرى والبطاقة الانتخابية والاقتراع في مكان السكن وتخفيض سن الانتخاب وتطبيق القوانين المتعلقة بالمساواة بين المرشحين في الإعلام والإعلان والنفقات الانتخابية.

هذا التعديل ينبغي أن يندرج في سياق إصلاح سياسي وإداري شامل، يستكمل فيه تنفيذ اتفاق الطائف والدستور الذي انبثق عنه، لاسيما استحداث مجلس الشيوخ على أساس التوزيع الطائفي، وانتخاب مجلس نيابي على أساس غير طائفي، والعمل بالتالي على تعديل ما ينبغي تعديله من مواد أثبتت تجربة تطبيقها ضرورة ذلك.

إلى جانب ذلك ينبغي السهر على تطبيق القوانين القائمة، من قانون السير حتى الإثراء غير المشروع، وذلك لمحاربة الفساد وسوء استخدام السلطة وهدر المال العام، وإعطاء الدور اللازم للرقابة الشعبية وإطلاق مبادرات المجتمع المدني ومؤسساته.

* تم إعداد هذا النص ليقدم إلى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي اللبناني باسم المعارضة الحزبية ولم ينشر لتعذر اتفاقها عليه.