أحزاب الله اليسارية: نقاش في الحتميات مع مهدي عامل
“علمنا مهدي أن المناقشة من الموقع الواحد، وعلى أرض الفكر الواحد، شاقة شاقة”
عصام الخفاجي
نبدأ من المحل الشاق، من نصوص منسوبة إلى قادة ومفكرين في الحزب الشيوعي اللبناني. وهو شاق بنوع خاص لأن أصحاب النصوص أصدقاء تعلمت منهم كيف أخطو خطواتي الأولى في صفوف اليسار وفي مسيرة الثقافة الماركسية، مع تحفظ ذكرته في المقدمة وأعيد التذكير به، وفحواه أن انتماء المرء إلى الحزب الشيوعي لا يمنحه الزعم بأنه صار ماركسياً. وهو شاق بنوع أخص لأن أحد أصحاب هذه النصوص هو مهدي عامل، استاذي وصديقي ورفيقي، وأنا مدين له بالتجرؤ على الكتابة أول مرة، قبل انفجار الحرب الأهلية، نصاً في نقد مجلة شعر ورئيس تحريرها أدونيس، يوم كان الشاعر الكبير محصّنا بهالة من المهابة جعلت المشرفين على مجلة الطريق التي يديرها المكتب السياسي للحزب يمتنعون عن نشر مقالتي فيها.
قد يقول قائل، ماذا عدا مما بدا لنعود، بعد ثلاثة عقود على استشهاده، إلى قراءة مؤلفاته قراءة نقدية في سياق الكلام عن الأصوليات وأحزاب الله. وللحقيقة، أنني بدأت ورشة إعادة النظر قبل ذلك بكثير، منذ لحظة اغتياله الذي أثار أسئلة تتعلق بتجربتنا الحزبية والوطنية، ولا سيما أن ذلك تزامن مع بداية أزمة الحزب واليسار والحركة الشيوعية، فكتبت ما يتجاوز الرثاء إلى رفع صوت الشكوى ملمّحاً إلى ما آلت إليه حال الحزب، ( جريدة السفير، 20-6- 1987)
“غداة موتك اهتزت خطواتنا، وفي ما ترسّب منك في آذاننا وعلى أوتار قلوبنا نستجمع أحزاننا وأحلامنا كاليتامى بحثاً عن كلام تنضح منه الحقيقة… وإذا كنا يا حسن قد فقدنا بغيابك بعضاً من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد”
عام 1994 نشرت في مجلة الطريق بحثاً طويلاً عن الأصوليات اليسارية، وفي عام 1998 أنتقلت من التلميح إلى التصريح في كلمتي أمام المؤتمر الثامن للحزب:
“أيها الشيوعيون
احذروا من تبشير الشيوعيين بأنهم ماركسيون، وإن فعلتم فإنكم تجعلونهم ينامون على حريرالجهل. لا تطمئنوهم إلى ماركسيتهم، بل دعوهم يقلقون عليها، حتى يدفعهم القلق إلى نبش ما في نفوسهم من قيم ومبادىء تشبه ماركس. لا تجعلوا النصوص مقدسة لكن لا تتنكروا لها أو تتراجعوا عنها أو تنقلبوا عليها، فنصوصنا كأولادنا، ليست لنا بل هي للحياة. دعوها تنمو وتكبر برعايتنا وبرعاية الحياة. تحرروا منها ودعوها تتحرر منكم حتى لا نكون عبيداً لها وأصوليين، ولطالما كنا أصوليين، ولطالما أفرطنا في أصوليتنا.”
ثم إلى النقد في تكريمه في الذكرى السنوية لاغتياله، عام 2002
“حسن حمدان أصولي ماركسي بامتياز. هو مفكر ثوري أصيل بامتياز. ولئن كانت الأصولية الماركسية تشبه كل أصولية ، بما هي عودة إلى أمهات الكتب لفك رموز الحاضر، غير أن أجتهاد مهدي في الحقل السياسي أنتج نظرية نمط الانتاج الكولونيالي ، على غرار اجتهاد سمير أمين المتعلق بالتطور اللامتكافئ في حقل الاقتصاد ، واجتهادات سواهما على صعد أخرى، وهي اجتهادات تتوخى دفع عجلات التاريخ إلى الأمام ، لكي تمضي البشرية نحو مستقبلها التقدمي . أما الأصوليات الأخرى ، بما في ذلك أصوليات ماركسية ، فهي تمضي في شد التاريخ إلى الوراء.”
من الواضح أن منسوب الشكوى بدأ باكراً وأخذ يتصاعد مع نمو القراءة النقدية للتجربة. شكوى؟ ممن؟ شكوى منه وعليه وعلينا نحن، عائلته وأصدقاءه ورفاقه وحزبه. فقد بات معروفاً أنه هو الذي حمل إلى عائلته خبر اغتياله منشوراً في صحيفة، وأصر على ألّا يحمي نفسه من موت معلن، وعلى ألّا يغادر “لأنها البداهة في ضرورة أن يكون المثقف ثائراً، أو لا يكون، وفي ضرورة أن تكون الثقافة للفرح الكوني ضد كل ظلامية، أو لا تكون” (محاضرة منشورة بصوته على الأنترنت). ولأن البداهة تقول بتلازم المعرفة والثورة، في نظره، تلازماً لا يساويه تلازم الجفن والعين(فيصل دراج، مجلة الطريق، عدد5-6- 1988ص82)، ما ألزم هذا المفكر الثوري بالمواجهة حتى لو كانت غير متكافئة بين القلم وكاتم الصوت.
شكوى بل صرخة مكتومة استبطنت أسئلة ليست كتلك التي تطرحها أجهزة الأمن والمباحث الجنائية لمعرفة هوية القاتل والجهة التي ينتمي إليها، بل أسئلة سياسية وجدانية نطرحها، نحن أهله ورفاقه وحزبه، عن حصتنا من المسؤولية عما إذا كان وكنا شركاء، من حيث لا ندري، عن عملية اغتياله. وهي ليست من نوع التشكيك أو الاتهام أو التخوين، بل هي بحث في البراكسيس النظري والسياسي، الأثير على منهجه في التفكير، وعلى منهج النقد والنقد الذاتي في الحزب. سيل من الأسئلة احتشد في عقولنا: لماذا مهدي بالذات، ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ لماذا لم يعمل ولم نعمل على تأمين حمايته ؟ لماذا لم يهاجر؟ لماذا لم يتخفّ؟ هل قُتل بسبب أفكاره؟ وهل أفكاره هي ملكه أم هي من الأملاك العامة الحزبية؟ هل هذا هو مصير كل مثقف ماركسي؟ ما مسؤوليتنا نحن، المريدين والمعجبين والمروجين لأفكاره على المنابر؟ هل نتحمل جزءاً من المسؤولية في لفت الأنظار إلى “خطورة” أفكاره؟ هل كان يمكن تفادي موته؟ هل كان ضرورياً أن يوظف “مغامرته” الفكرية في معركة التغيير؟ هل كانت الظروف ملائمة حقاً للتغيير الثوري؟ هل كان ضرورياً أن ننخرط في هذه الحرب منذ البداية؟ إلى آخر سلسلة الأسئلة التي ظاهرها تعبير عن ألم، وباطنها بحث عن حقيقة توهمناها جلية في إجابات مهدي الحاسمة والقاطعة على كل الأسئلة، لكنها إجابات تنطوي على غموض يختصره مهدي بلازمته المعروفة عن الحرب وأزمة “البرجوازيات العربية” وأزمة حركة التحرر الوطني قيادة وبديلاً: إنها طويلة طويلة أكثر مما تتصورون.
اغتيال كمال جنبلاط لم يكن كافياً لتبديد الغموض. فقد اعتقدنا، نحن العامة من المناضلين، أن قائد الحركة الوطنية ذهب ضحية اختلاف على نهج المواجهة مع العدو الخارجي، غير أن اغتيال مهدي وضعني وجهاً لوجه أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن الحروب الداخلية أكثر خطراً على الوحدة الوطنية من أي عدو خارجي، وأنها المولود الطبيعي لسياسة الاستبداد الشامل، استبداد الأنظمة بالأحزاب والأحزاب والميليشيات بالشعوب. ثم صارت الإجابة أكثر إيلاماً بعد أن دخل الحزب والحركة الشيوعية مرحلة “زمان القطع”، بتعبير مهدي، من أزمة عميقة الجذور.
كان من الطبيعي أن تتفاوت الإجابات على السؤال ذاته بين المراحل، إذ لا يمكن أن تكون الإجابة هي ذاتها في لحظة كان فيها الاتحاد السوفياتي في ذروة نفوذه العالمي والحزب الشيوعي اللبناني في قمة دوره القيادي المحلي، أو في مرحلة الأزمة، أو غداة انفجارها وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية وحركة التحرر العربية والحركة الوطنية اللبنانية؛ ومن الطبيعي أيضاً أن تكون عقود ثلاثة كافية لتستقر الإجابات على أعلى قدر من الموضوعية، ولهذا تدرجت الجرأة في النقد من إشارة وتلميحات إلى فرضية متكاملة أعادت النظر بالبراكسيس النظري والسياسي الذي تعلمناه من مهدي، إلى الحد الذي بتنا معه مقتنعين بأن من واجبنا القيام بما كان سيقوم به هو بالتأكيد، فيما لو بقي حياً، رغم اقتناعنا الراسخ بأن مهدي هو الأقدر والأجدر والأولى والأكثر جرأة منا للقيام بعملية النقد والنقد الذاتي، وذلك انطلاقاً من ” أن الأفكار التي بلورها مهدي، مثل كل الأفكار العظيمة، لم تعد ملكه، وأن أفضل طريقة لإبقاء الأفكار العظيمة حية هي مناقشتها” (عصام الخفاجي، مجلة الطريق، كانون الأول 1988، ص127)
لئن كنت أزعم أنني أشرت إلى الأزمة أكثر من مرة وحاولت أن أقدم إجابات غير مكتملة على هذه الأسئلة الصعبة، فإن ورشة القراءة النقدية لأفكار مهدي عامل كانت قد بدأت، في الحقيقة، غداة اغتياله وشارك فيها عدد من كبار المفكرين الماركسيين، تولت نشر أبحاثهم دار الفارابي ومجلة الطريق التي أصدرت عدداً خاصاً في كانون الأول من العام 1988، شارك فيه، تكريماً لمهدي، عدد من أصدقائه ورفاقه اللبنانيين والعرب؛ ونقداً لأفكاره، كلٌّ من هادي العلوي وفالح عبد الجبار وفيصل دراج وعصام الخفاجي ورفعت السعيد وماهر الشريف وعبد الإله بلقزيز وفيصل دراج وأحمد بعلبكي وغيرهم.
لن أكرر ما قاله هؤلاء الأساتذة الكبار في نقد مهدي عامل، لكنني سأستفيد من أبحاثهم في دعم فرضياتي عن الاستبداد وأولية التناقض الداخلي وتصنيف الحزب الشيوعي في خانة أحزاب الله. وسأركز بحثي على الجانب المتعلق بموضوع الكتاب، أي بالأسس الفكرية-السياسية (البراكسيس) في كتابات مهدي والقادة الحزبيين الآخرين التي تبرر هذا التصنيف.
الحتميات
تتكرر في نصوص مهدي مفردات وعبارات يقينية مبنية على مسلّمات سوفياتية الأصل، تحولت على يده إلى “بداهات” ديكارتية لا يرقى إليها شكّه. غير أن الوقائع والأحداث التي تزامن فيها موته مع انهيار التجربة الاشتراكية خلخلت تلك اليقينيات وكل البناء الفكري السياسي الذي شيدته الحركة الشيوعية عليها.
تقول المسلّمة السوفياتية الأم بأن ” ثورة أكتوبر دشنت العصر الذي سمته الأساسية هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية”( يمكن العثور على هذه العبارة أو على ما يوازيها في كل وثائق الحزب الشيوعي اللبناني الصادرة عن مؤتمراته من الثاني حتى التاسع، أي ما بين 1968 و1992 والعبارة هنا وردت في الصفحة العاشرة من تقرير عن النقاشات التحضيرية التي جرت داخل الحزب والتي شارك فيها مهدي وانتخب على أساسها عضواً في اللجنة المركزية).
النقاشات في الاتحاد السوفياتي كانت تدور حول توقيت الانتقال إلى الشيوعية، انطلاقاً من أن مهمة بناء الاشتراكية هناك أوشكت على بلوغ منعطفها التاريخي، فيما وجدت الأفلاك التابعة للكوكب الاشتراكي نفسها أمام ثورة انتقالية التحاقية، “متخلفة” عن تلك التي أنجزتها قيادة الثورة في موسكو، انطلاقاً من “الحقيقة” الثابتة في الأدبيات الستالينية، أي من المسلّمة القائلة بأن السمة الأساسية لهذا العصر هي سمة الانتقال إلى الاشتراكية، السمة التي شحنت مصطلحات الثورة والديمقراطية والدولة ، في بلدان العالم الثالث، بمدلولات جديدة ، بتميّز من داخل الكونية، بحسب تعبير مهدي عن “التميز والكونية في الماركسية اللينينية”
الثورة في بلادنا لا تحمل معنى الانقلاب الجذري على البنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية الثقافية، فهي ثورة انتقالية، وهي “في ضوء ما هو متعارف عليه في الحركة الشيوعية والعمالية، وفي ضوء التعريف اللينيني، ثورة وطنية ديمقراطية، تشكل مرحلة تاريخية انتقالية جديدة ومعقدة، تفصل بين نظامين اجتماعيين متناقضين، متناحرين: النظام الرأسمالي الذي أصبح هو النظام السائد، كعلاقات إنتاج على الصعيد العالمي، وفي كل دولة غير اشتراكية، أية كانت الأشكال الخاصة لهذه العلاقات ولهذا النمط من الانتاج، من جهة، والنظام الاشتراكي الذي يتجه إليه سير التطور التاريخي العام، في عصرنا، من جهة أخرى”(م.ن، ص10-11). وكان الحزب قد حدد معنى الثورة الوطنية الديمقراطية في مؤتمره الثاني عام 1968(في هذا العام باشر مهدي عمله في التعليم في لبنان وانخرط في الحزب الشيوعي من باب النضال الإيديولوجي)، بصفتها ثورة تؤدي إلى “قيام الحكم الوطني الديمقراطي الذي يفسح في المجال للانتقال إلى الاشتراكية” م.ن.ص11)
في الأممية الثالثة توزعت المهمات. للاتحاد السوفياتي منها ثلاث: قيادة الثورة الاشتراكية والتحضير للانتقال إلى المرحلة الشيوعية ومواجهة الأمبريالية الأميركية، ولأحزاب البلدان الرأسمالية التحضير للثورة البروليتارية، أما حركات التحرر في بلدان العالم الثالث فعليها واجب القيام بثورتها، الثورة الوطنية الديمقراطية، التي هي بالتعريف اللينيني- الستاليني، مرحلة تمهيدية تفسح في المجال للانتقال إلى الاشتراكية. وفي جميع هذه المهمات والبلدان تكون القيادة معقودة اللواء للحزب الطليعي، الحزب الشيوعي، حزب الطبقة العاملة، على أن يتشكل من جميع هذه القوى، حركات التحرر والأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية والمعسكر الاشتراكي، تحالف سياسي بقيادة الاتحاد السوفياتي لمواجهة معسكر الأمبريالية والرجعيات المحلية، وتضاف إليها الصهيونية في عالمنا العربي.
الثورة الوطنية الديمقراطية تشكل حيز التمايز العالمثالثي في إطار الكونية الأممية، وهي خاصة “بالبلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة” بحسب التعبير المتداول في الأدبيات الشيوعية، والمعتمدة لدى الأحزاب الماركسية دليلاً عملياً على حسن انخراطها في التحالف الدولي بقيادة الاتحاد السوفياتي. غير أن هذا الشعار لم يكن سهل التطبيق، لأن الظروف التي طرحه فيها لينين لم تكن هي ذاتها في كل بلدان العالم، ذلك أن الصيغة الأولى من الاستعمار المباشر، أي الاحتلال، كانت قد بدأت تتفكك في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، بعد ولادة الشعار، ما جعله يبدو غير ذي جدوى في البلدان التي نالت استقلالها، وما جعل “الثورة الوطنية” تبدو كأنها ليست لخدمة الشعوب المحررة والأوطان المستقلة، طالما أنها أنجزت تحررها واستقلالها، بقدر ما هي حاجة سياسية وعسكرية تخدم مصالح المعسكر الاشتراكي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، في مواجهة المعسكر الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ما خلا بلدين اثنين في العالم العربي، تونس والجزائر، استمر الاحتلال فيهما إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما البلدان الأخرى فلم تكن مستعمرة ولا شبه مستعمرة، بل هي موسومة بالطرفية (سمير أمين) أو بالتبعية(الأحزاب الشيوعية) أو بالكولونيالية (مهدي عامل). (راجع ما ورد أعلاه في مقدمة الكتاب عن الاستعمار).
لم يتطابق تمايز المهمة الثورية( ثورة وطنية ديمقراطية) مع تمايز الظروف المحلية، لأن العدد الكبير من البلدان استقلت بفعل ضغوط الحرب ونتائجها على القوى الاستعمارية، وربما بضغط أيضاً من الاتحاد السوفياتي، فتم استبدال الاحتلال المباشر للمستعمرات بإدارتها عن بعد عبر آليات السيطرة الاقتصادية. غير أن الأصوليات اليسارية رأت أن عدم التطابق هذا ناجم عن كون الواقع السياسي الملموس، لا النظرية، هو المسؤول عن “الانحراف-الانزياح” عن النص “المقدس”، فلجأت إلى التشكيك بالاستقلال لتبرر صحة الشعار اللينيني المتعلق بالتحرر الوطني والثورة الوطنية الديمقراطية. ومن المفارقات الفاقعة أن الحزب الشيوعي اللبناني، على سبيل المثال، يذكّر سنوياً، خلال الاحتفالات بالعيد الوطني، بانخراط الشيوعيين وتضحياتهم في معركة الاستقلال الوطني اللبناني، ثم يعود بعدها إلى ترداد الشعار النضالي، الاستقلال يؤخذ ولا يعطى، في إشارة إلى أن استقلال لبنان كان منّة من الانتداب الفرنسي.
لم يكن التشكيك كافياً ولا مقنعاً، وكان لا بد من تأويل النظرية لتتوافق مع مهمات التحرر الوطني، فظهرت نظرية فك التبعية ونظرية المركز والمحيط ونظرية المتروبول والأفلاك، ونظرية الاقتصاد المتمحور على الذات ونظرية الاستقلال الاقتصادي(عن الاقتصاد الرأسمالي)، وقد وضعت كلُّها على محك التجربة النظرية، على امتداد عقود. غير أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو الذي أثبت فشلها العملي، حين تأكدت بسقوطه استحالة الحل الاشتراكي ضمن المعطيات والظروف التاريخية الراهنة، أي استحالة الخروج من الحضارة الرأسمالية قبل بلوغها حدودها التاريخية غير المرئية في المدى المنظور.
مفهوم نمط الانتاج الكولونيالي الذي أطلقه مهدي عامل يندرج في سياق هذه التأويلات التي حاولت أن تطابق نظرية التحرر الوطني مع الأوضاع الملموسة في بلدان العالم الثالث؛ أو هو محاولة لإنتاج نظرية عن التخلف، لتفسير التخلف بالاستعمار، أي أنه يحيل التخلف إلى عوامل خارجية، فهو يقول: “إن الاستعمار أوجد اختلالاً جذرياً في البنية الاقتصادية للبلدان التي تمت عليها سيطرته. فالرأسمالية، بربطها البلدان المستعمرة بحركة تجارتها الخارجية، استطاعت أن تحدث في نظام الإنتاج السائد في هذه البلدان تفككاً داخلياً ( مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني، القسم الثاني، في نمط الانتاج الكولونيالي، دار الفارابي، 1976، ص242). تأكيداً منه على دور العامل الخارجي، أعاد صياغة الفكرة في مكان لاحق، قائلاً ” أن الاستعمار يظهر لنا كنتاج تايخي لصدام عنيف بين ضرورة تطور تكمن في صيرورة المجتمع الرأسمالي وإمكانية تطور تكمن في صيرورة مجتمع ما قبل الرأسمالية، ولقد تم تحقيق هذه الضرورة بسد أفق هذه الإمكانية” (م.ن.ص251). وفي تفاصيل هذا الصدام يقول مهدي: ” إن الوحدة البنيوية والتاريخية بين الانتاج الكولونيالي والانتاج الرأسمالي تجعل من تطور الأول كإنتاج كولونيالي شرطاً أساسياً للثاني وفي الوقت نفسه نتيحة له، وتجعل تطور الثاني أساساً لبقاء الأول وفي الوقت نفسه نتيجة له ” (م.ن.ص213)
اعتراض أول على هذا التحليل نقدمه في صيغة تساؤل: كيف يمكن أن نفسر، بمنطق التحليل ذاته، انتقال المجتمعات الرأسمالية الأولى، أي الفرنسية والإنكليزية والهولندية وسواها، من إمكانية صيرورتها رأسمالية إلى ضرورة صيرورتها رأسمالية، من غير أن تؤدي الضرورة إلى سد أفق الإمكانية؟ نجيب على السؤال بالقول إن الحضارة الرأسمالية قامت على “أنقاض المجتمع الإقطاعي المتداعي” بحسب تعبير البيان الشيوعي، وأن العوامل الداخلية المتمثلة بحلول المانيفاتورة محل المشغل الحرفي في الصناعة، وحلول الصناعيين المتوسطين محل أصحاب المشاغل الحرفية، كانت أسبق في تأثيرها على تحويل الإمكانية إلى ضرورة من العوامل الناجمة عن التوسع الرأسمالي نحو المستعمرات.
اعتراض ثان مفاده أن تعميم التجربة الرأسمالية بدأ في داخل أوروبا ولم يحل تخلف بعضها من انخراطها في الحضارة الرأسمالية بالاستناد دوماً إلى قانون تفاوت التطور، كما أن تجربة اليابان تؤكد إمكانية عدم وقوع بلدان الحضارة الإقطاعية غير الأوروبية تحت السيطرة الاستعمارية. وكذلك تؤكد تجربة النمور الآسيوية، الحديثة العهد نسبياً، والتجربة الصينية من بعدها، أن العلاقة الكولونيالية البنيوية ليست قدراً يستحيل رده، وأن حل التناقض المأزقي، بحسب تعبيره، لا يكون بهدم تلك العلاقة والانتقال إلى الاشتراكية، خصوصاً بعد أن اختارت الصين الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى ما أطلق عليه اقتصاد السوق الاشتراكي.
نعترض ثالثاً على تحليل مهدي الذي يقرر أن الإنتاج الكولونيالي شرط أساسي لتطور الإنتاج الرأسمالي متجاهلاً القانون الأساس في الماركسية، أي الصراع الطبقي، والمبادئ الأولية في المادية التاريخية الواردة في البيان الشيوعي، ومن نافل القول إن مهدي يعرفها جيداً، ومنه تعلمنا دروسها الإبتدائية، لكن من المفيد، لتفنيد اعتراضاتنا، أن نقتبس العبارات الأولى في البيان الشيوعي التي تؤكد على أن الصراع الداخلي بين الطبقات هو الذي يصنع تاريخ الشعوب. ورد في بداية البيان:
” إن تاريخ أي مجتمع، حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية. حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة، ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة، تارة معلنة وطوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، إما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين”
“… ففي روما القديمة كان ثمة نبلاء وفرسان وعامة وعبيد، وفي القرون الوسطى أسياد وإقطاعيون ومقطعون، ومعلمون وصناع وأقنان…”
والمجتمع البرجوازي العصري الذي قام على أنقاض المجتمع الإقطاعي… “
فاكتشاف أمريكا و الطواف البحري حول إفريقيا أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعا جديدا. إن سوق الهند الشرقية والصين، واستعمار أمريكا، والتبادل مع المستعمرات، وازدياد وسائل التبادل، و السِّلع عموما، وفرت للتجارة والملاحة والصناعة دفعاً لم يسبق له مثيل، وبالتالي وفرت نمواً سريعاً للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي المتداعي و مع الأسواق الجديدة لم يعد نمط الإنتاج الإقطاعي أو المشغل الحرفي في الصناعة يسدُّ الحاجة المتنامية، فحلّت المانيفاتورة محل هذا النمط، و أزاح الصناعيون المتوسطون أصحاب المشاغل الحرفية، وزال تقسيم العمل بين الجمعيات الحرفية المختلفة أمام تقسيم العمل في الورشة الواحدة. بيد أن الأسواق كانت تـتسع و الطلب كان يزداد باستمرار فأمست المانيفاتورة عاجزة بدورها؛ و عندئذٍ، ثوَّر البخار و الآلة الإنتاج الصناعي، و حلت الصناعة الكبيرة الحديثة محل المانيفاتورة، و حل الصناعيون أصحاب الملايين، أساطين جيوش صناعة بأكملها أي البرجوازيون العصريون محل الصناعيين المتوسطين… و الصناعة الكبيرة أوجدت السوق العالمية التي مهد لها اكتشاف أمريكا. والسوق العالمية أنمت، بما لا يُـقاس، التجارة والملاحة والمواصلات البرية. وهذا النمو أثّر بدوره في توسيع الصناعة، فبقدر ما كانت الصناعة والتجارة والملاحة والسكك الحديدية تتوسع، كانت البرجوازية تتطور، وتُـنمّي رساميلها، و تدفع إلى المؤخرة بكل الطبقات الموروثة عن القرون الوسطى و هكذا نرى كيف أن البرجوازية العصرية نفسها، هي نتاج مسار تطور طويل، و سلسلة تحولات في نمط الإنتاج و المواصلات.” وصولاً إلى قوله عن البرجوازية أنها لعبت في التاريخ دوراً ثورياً بارزاً”
استناداً إلى نص البيان الشيوعي، نسوق اعتراضاً رابعاً مفاده أن التحولات الثورية في المجتمع، تنجم دوماً عن حروب متواصلة، معلنة أو مستترة، تخوضها الطبقات داخل المجتمع، أي أنها حروب بين الطبقات، داخل المجتمع الواحد. غير أن التأويل السوفياتي لمفهوم الصراع الطبقي تعمم في على أحزاب الأممية الثالثة، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني، فصار يعني صراعاً عالمياً بين الرأسمالية كحضارة والدول الأخرى التي لم تكن قد دخلت بعد في حلبة هذه الحضارة. والحقيقة الثابتة هي أن أحد طرفي الصراع الطبقي في القرون الوسطى، وهو ما يعنينا هنا، هم الإقطاعيون، وأن الصراع انتهى بانتصار البرجوازية التي قامت بدور ثوري بارز. إن هذا الكلام، معطوفاً على عبارة أخرى في مكان آخر من البيان تقول إن الثورة البرجوازية قادرة على أن تسحب أكثر البدان تخلفاً إلى حلبة الحضارة، لم يحدد ما إذا كان الدور الثوري للبرجوازية محصوراً داخل البلدان الرأسمالية، بل على العكس، هو يعني أن البرجوازية قادرة، أينما حلت، على إدخال المجتمع إلى حلبة الحضارة.
قد نجد من يعترض على هذا الاستنتاج بالقول إن نظرية مهدي عامل لحظت تميّز دور البرجوازية الكولونيالية عن دور البرجوازية الاستعمارية، واستدرك احتمال الاعتراض على تأويله، فناقش هذا الاعتراض الافتراضي مستنداً إلى نص آخر لماركس مقتبس من كتاب رأس المال، لا من البيان الشيوعي، وفيه تفصيل لآليات النشاط الاقتصادي الرأسمالي في البلدان المستعمرة
ماذا يقول نص ماركس وماذا يقول تأويل مهدي؟ يحكي نص ماركس المقتبس من كتاب الرأسمال، الكتاب الأول، الجزء الثاني، ، الطبعة الفرنسية، باريس، المطبوعات الاجتماعية (يشدد مهدي على أنه يرجع دائماً إلى النص الفرنسي) عن تأثير التجارة الخارجية على طرفي العلاقة الكولونيالية، المستعمِر والمستعمَر، فيقول: ” الصناعة الميكانيكية تحوّل الأسواق الأجنبية بالقوة إلى حقول إنتاج للمواد الخام التي هي بحاجة إليها… إن تقسيماً جديداً عالمياً للعمل، فرضته المراكز الرئيسية للصناعة الكبرى، يحوّل بهذه الطريقة قسما من الكون إلى حقل إنتاج زراعي للقسم الآخر الذي يصير فعلاً حقل إنتاج صناعي(ص131-132)… كما أن اتساع التجارة الخارجية التي كانت في بدء نظام الانتاج الرأسمالي قاعدة له، صارت نتيجةً لهذا النظام، بفعل تقدم الإنتاج الرأسمالي (ص250)
ماذا يحمّل تأويل مهدي النص ما قد لا يحتمل؟ يقول التأويل “يمكننا القول بأن الوحدة البنيوية والتاريخية بين الإنتاج الكولونيالي والإنتاج الرأسمالي تجعل من تطور الأول كإنتاج كولونيالي شرطاً أساسياً للثاني وفي الوقت نفسه نتيجة له” (مهدي عامل، نمط الانتاج الكولونيالي، ص213). . لكن الأهم هو استدراك على الاستدراك إذ يقول: “أننا (مهدي عامل) “واعون تماماً للمخاطرة التي نقوم بها في محاولة تحليلنا لنصوص ماركس، وهي أن نحمّل النص ما قد لا يستطيع أن يحتمله، أو بالأحرى ما قد لا يحتمله”(م.ن.ص211)ثم يضيف:” كيف يكون الإنتاج الكولونيالي، إذن، من الوجهة التاريخية، قاعدة للإنتاج الرأسمالي مع أنه في الحقيقة أي تاريخياً، نتيحة له ولأعلى مراحل تطوره؟ يظهر أن في هذا النص التباساً أو في التأويل تحريفاً”(م.ن.ص213). يستبعد مهدي التحريف ويشرح الالتباس الناجم عن أن نص ماركس يتناول دور التجارة الخارجية وعلاقتها بالنظام الرأسمالي فيرى(مهدي) فيها ” قاعدة لهذا الانتاج في بدء هذا الانتاج، والدليل على ذلك استعماله لعبارة في البدء”. ثم يميز بين ثلاثة أطوار مرت بها الرأسمالية، طور تكونها التاريخي وطور تطورها الداخلي وطور تكاملها.
لماذا وقع اختيار مهدي على نص من الرأسمال لا على نص من البيان الشيوعي، مع أنهما يعالجان المسألة ذاتها؟ ربما لأن العودة إلى كتاب الرأسمال، عند الكلام عن “نمط الانتاج”، أي عن العلاقة الاقتصادية في الكولونيالية، هي أكثر جدوى وأكثر دقة، في نظره، من العودة إلى البيان الشيوعي الذي يغلب عليه طابع التحليل السياسي والتاريخي، فيما هو يحتاج إلى تحليل اقتصادي تتلائم مفرداته مع حقل المصطلحات المتعلقة بنمط الإنتاج.
نستعين ببحث عصام الخفاجي لنختار مفردات “اقتصادية” تصلح لتعريف نمط الإنتاج الرأسمالي: “الشرط الأساسي المميز للقول بأن الرأسمالية تسود إنتاج بلد ما، وبدونه لا يمكن الحديث عن سيادة الرأسمالية، هو الفصل الفعلي المعمّم للمنتجين عن وسائل الإنتاج، ووجود رأسمال في صورة نقود، والتقاء هذين في صورة شراء لقوة العمل، أي تحويل قوة العمل بصورة عامة إلى سلعة” (مجلة الطريق،م.س.ص154). السؤال الذي يطرح نفسه على ضوء هذا التعريف هو التالي: إذا ما سلك بلد من البلدان هذا الطريق الانتقالي من نمط إنتاج سابق على الرأسمالية إلى نمط إنتاج رأسمالي، فهل يفعل ذلك خدمة لمصالح الإمبريالية أم أن حاجة المجتمع إلى التطور هي التي تدفعه إلى تفكيك علاقات الإنتاج القديمة لبناء علاقات إنتاج جديدة؟ إن تجربة محمد علي باشا تبين أن الحملة الفرنسية لم تشكل إلا حافزاً على تفكيك العلاقات القديمة، ابتداء بالثقافة وبالبعثة العلمية إلى فرنسا ثم بالإصلاح الزراعي وشبكات الري ثم بمصانع الحديد والصلب ومعامل القطن، واستمرت مصر حوالي ثلاثة أرباع القرن تطور نفسها من غير تدخل إمبريالي مباشر، باستثناء مساعي الرأسمالية الحثيثة لتقصير خطوط الملاحة مع الشرق من خلال شق قناة السويس.
غير أن اللافت هو أن مهدي لا يقدم أي تعريف اقتصادي لنمط الانتاج الكولونيالي على امتداد الكتاب( راجع بحث عصام الخفاجي في مجلة الطريق، م.س. ص145، حيث يقول عن مهدي: “لا نجد عنده تحديداً لمعنى التبعية ولا إشارة إلى العنصر المميز للرأسمالية، ولا لنمط الإنتاج، الذي يستخدمه مرة باسم نظام إنتاج كولونيالي وأخرى باسم نمط إنتاج كولونيالي”، ما يعني أن الدلالة الاقتصادية للمصطلح لم تكن تعنيه بقدر ما كانت تهمه الدلالة السياسية، ولهذا استعمله بمعناه السياسي ووظفه توظيفاً سياسياً ليدفع الصراع، بتحليل منطقي متماسك، لكن بمنطق صوري، إلى النهاية المأمولة في الترسيمة الماركسية اللينينية، إلى الحل الذي لا حل غيره، ألا وهو هدم النظام الكولونيالي بالثورة لإقامة النظام الاشتراكي، والمقصود بذلك، القبض على السلطة، تمثلاً بشعار لينين، غداة الثورة: كل السلطة للسوفيات. ولو كان يقصد الجانب الاقتصادي لاستذكر خطة لينين الاقتصادية بعد الثورة، النيب، (السياسة الاقتصادية الجديدة) التي طالبت البرجوازية بأن تقوم بالدور الاقتصادي الذي لا تقوم به طبقة سواها. من هنا يمكن القول أنه كان أولى بمهدي أن يستند إلى السياسة والتاريخ في البيان الشيوعي، لا إلى الاقتصاد في الرأسمال، فيتفادى مخاطر التأويل، لأن الفكرة في البيان لا تحتاج إلى تأويل، إذ يقول ماركس عن الاستعمار أنه “أوجد للبرجوازية الناشئة مرتعاً جديداً، ووفر للتجارة والملاحة والتجارة دفعاً لم يسبق له مثيل، ونمواً سريعا للعنصر الثوري في المجتمع الإقطاعي”، أي أن الاستعمار لم يخلق للبرجوازية مرتعاً أول، بل أوجد “مرتعاً جديداً”، ووفر لها دفعاً – بعد أن كانت قد انطلقت من قبل- كما وفر لها نمواً سريعاً، بعد أن كان نموها، الموجود أصلاً، بطيئا. هذا ما يؤكد قولنا في المقدمة أن الاستعمار هو شكل طبيعي من تطور الرأسمالية وتوسعها الأفقي، وهو لا يكون إلا نتيجة لهذا التطور وليس سبباً له.
قد نجد في نظرية مهدي رداً قوامه أنه قصد مرحلة تطور الرأسمالية لا مرحلة تكونها. لكن مهدي يعرف حقيقة أخرى، وهي أن مرحلة تكوّنها في البلاد المستعمرة أي ذات النمط الكولونيالي للإنتاج تتزامن مع مرحلة تطورها في بلاد المنشأ ، وبالتالي فإن علينا أن نطبّق، في دراسة هذا النمط من الإنتاج الجديد، وهو نمط رأسمالي، قوانين الصراع الطبقي ذاتها، التي حددت الصراع بين برجوازية ناشئة، ومستقوية بالتوسع الأفقي للرأسمالية، وبين طبقة من الإقطاعيين، أو بالتعبير الإقتصادي، التناقض بين نمط إنتاج زراعي ونمط إنتاج رأسمالي، لم يكن التبادل التجاري مع المستعمرات سبباً، بل حافزاً على ولادته.
هناك فارق كبير جداً إذن بين أن يكون العامل الخارجي، أي الاستعمار في ما يخص موضوع بحثنا، هو السبب في نشوء الرأسمالية في البلدان المستعمرة أو أن تكون نشأتها نتيجة فعل العوامل الداخلية، وأن يقتصر دور الأول على تسريع عملية الانتقال من المرحلة الإقطاعية إلى المرحلة الرأسمالية.
إننا نخالف مهدي الرأي معتقدين بأن عملية الانتقال سلكت الآليات ذاتها، في الرأسماليات الأولى كما في البلاد الكولونياية، أخذاً بالاعتبار تفاوت التطور وخصوصيات كل بلد من البلدان الطرفية، وهي تقضي بتفكيك وتقويض علاقات الانتاج التي تعتمد بشكل أساسي على الزراعة وتحويلها إلى اقتصاد صناعي، استناداً إلى الترسيمة الأوروبية ذاتها واقتداء بها وتأثراً بها، بالعنف أو بالحسنى: تحولات اقتصادية مترافقة مع ثورة ثقافية وتقدم علمي ومكتشفات جديدة وآلات ومطبعة وصحافة وأكاديميات؛ من المكوك وتطوير صناعة النسيج وصناعة الألوان وعلوم الكيمياء وعلوم الفيزياء والميكروسكوب والتلسكوب وصناعة المسننات ومحاور الحركة(axes) والساعات…”طريق واحدة وعناصر واحدة، العقل، العلم، المعرفة، الصناعة، المواصلات والاتصالات واختصار المسافات، عناصر تكاملت الثورة فيها ضمن علاقة جدلية بين أطرافها”( راجع محمد علي مقلد، هل الربيع العربي ثورة، منشورات ضفاف، 2015، ص17-18). ولا نظن أن هناك مجتمعاً واحداً في العالم استغنى عن هذه الأبواب عند دخوله إلى الحضارة الرأسمالية.
يلتقي مفهوم نمط الانتاج الكولونيالي مع شعار الثورة الوطنية الديمقراطية على تحميل الاستعمار مسؤولية التخلف، وكأني ببعض مفاهيم مهدي عامل تتحدر من أصول لينينية فيما يتحدر بعضها الآخر من أصول ماركسية، ذلك أن إضافة “الشعوب المضطهدة” على شعار “يا عمال العالم اتحدوا” هي اجتهاد سياسي، باللغة الفقهية، أو شكل من أشكال التأويل لنظرية الصراع الطبقي. هذا هو بالضبط ما قصده مهدي في كلامه على الممارسة النظرية، أي نقل الفكرة من مستواها الفلسفي إلى مستواها التطبيقي، ودائماً على الصعيد النظري. غير أن مهدي اللينيني في موقفه من الاستعمار عاد إلى ماركسيته عندما رفض أن تشكل الثورة الوطنية الديمقراطية انتقاصاً من الثورة الاشتراكية، ولهذا مضى في تأويلاته المتطرفة، أي الحادة والحاسمة والحازمة والجازمة، ليسوّغ رفضه المرحلة الانتقالية في الثورة، ويوفر تبريراً نظرياً لاختلافه مع الحزب الشيوعي على استراتيجية التغيير واتفاقه معه على البرنامج التكتيكي، إذ ليس يهم في هذه الحالة أن يخلص في تحليله إلى أن الحل الوحيد لمأزق العلاقة الكولونيالية هو الثورة الاشتراكية، وأن يخلص الحزب إلى حل آخر قوامه الثورة الوطنية الديمقراطية التي تفسح في المجال للأنتقال إلى الاشتراكية . لهذا، بدل أن يعلن افتراقه عن الشعار وعن الحزب، عمد إلى صياغة توليفة نظرية أخرى تجمع الثورتين معاً في ثورة واحدة، وتبقيه على التزامه ببرنامج الحزب، وإن تعارضا في تأويل الأسس النظرية لهذا البرنامج. فيقول في كتابه، نمط الانتاج الكولونيالي: “يتحدد التحرر الوطني بالضرورة كتحويل لعلاقات الانتاج الكولونيالية، فوجود الامبريالية، بالنسبة للبلدان المستعمرة، يكمن في وجود علاقات الانتاج هذه بالذات. لذا كانت عملية التحرر الوطني، من حيث هي بالضرورة عملية الصراع الطبقي الخاصة ببنية هذه العلاقات الكولونيالية، هي نفسها عملية الانتقال إلى الاشتراكية” (م.ن.ص111)
شعار الاشتراكية هي الحل يشبه، من حيث الشكل فقط، شعار الإسلام هو الحل أو شعار الوحدة العربية هي الحل، أما الفوارق بينها فهي كبيرة جداً لكن ما يعنينا عند الكلام عن أحزاب الله هو المشترك الذي أسس لتحالف غير وطيد وتعاون غير صادق، أو لمعارك دامية بين رافعي هذه الشعارات.
الحتميات، على تناقضها وتباينها، هي المشترك في منهج التفكير، يضاف إليها الاعتقاد، المشترك أيضاً، بأولية العوامل الخارجية، وتحميلها مسؤولية التخلف، وهو ما جعل أصحاب هذا المنهج يلتقون في حقل نضالي واحد لمواجهة عدو “خارجي” على الدوام، يتمثل على الكرة الأرضية بالإمبريالية أو الشيطان الأكبر، وبالرجعيات المحلية، بصفتها عميلة للأمبريالية، فضلاً عن الصهيونية والمتواطئين معها في منطقتنا العربية. ومن نافل القول أن السلطات الحاكمة عمّمت هذا المنهج من التفكير ورسخته في الوعي العام وحظرت كل فكر نقدي تحت طائلة التخوين والمحاكمة والاغتيال، وفرضت باسم الحقائق المطلقة والحتميات أنظمة تقوم على الأحكام العرفية وتمارس كل أشكال الاستبداد، ولا فرق بين أن تكون هذه الحتميات ذات أصول دينية أو ستالينية أو قومية. على هذا الأساس يكون من المنطقي الظن بأن هذا النوع من الحتميات، دينية كانت أم علمانية، هو المسؤول عن اغتيال مهدي عامل، وبهذا المعنى طرحنا التساؤل الفلسفي والسياسي، أي التساؤل غير الأمني، عن مسؤوليتنا نحن بصفتنا ننتمي إلى مدرسة الحتميات والحقائق المطلقة ذاتها، التي قد تكون غيبية كما في الأديان أو استشرافية كما في الماركسية اللينينية الستالينية، أو شوفينية كما في الحركات القومية.
إن اللغة الجازمة القاطعة في كتابات مهدي مشتقة من الحتمية التاريخية الستالينية المنسوبة زوراً إلى ماركس، وهي التي “تحيل كل مشاهدة من الواقع إلى علاقة سببية بالضرورة”(الخفاجي، م.ن.ص169). لكن المفاهيم المتعلقة بالتبعية والكولونيالية وما هو من حقل الدلالة ذاتها، والتي ربطت تطور الانتاج الكولونيالي بتطور الإنتاج الإمبريالي وعبرت عنه بلغة جازمة يقينية، لم تصمد أمام مفاجآت الثورة العلمية التي أدت إلى ظهور” أشكال جديدة من تقسيم العمل الرأسمالي العالمي، تفضح بؤس مفاهيم المركز والمحيط والمتروبول والأفلاك وعجزها عن تفسير التبعية” لأنها “لا تقدم حلا للقضية حين تكتفي بالقول إن التحرر الوطني هو الثورة الاشتراكية” (م.ن.ص171)، تماماً مثلما لم يقدم شعار الإسلام هو الحل ولا شعار الوحدة هي الحل سوى التمهيد للعنف والحروب الأهلية.
لقد كان مهدي قاسياً مع من حاورهم من المناضلين معه على الساحة الإيديولوجية، فكم من علماني وقع ضحية السجال معه وصار متحدراً من الفكر الديني، وكم من ماركسي ساجله ليثبت له نسباً يعود به إلى هيغل ومنظومة الفكر المثالي. وقد تحدث رفعت السعيد، خلال لقاء تعارف معه، عن “ملاحظاته القاسية والحاسمة” وعن ” طريقة التعبير الحازم الحاد” وعن ” رفضه الحازم والحاسم لطريقتي في التعبير” لأن ” الفكرة عنده متكاملة مع الكلمة … ولا مساومة ” (رفعت السعيد، مجلة الطريق، ك1 -1988،ص180)
إذا كانت نظريات التبعية ومشتقاتها المتحدرة من مصطلحات المؤامرة والاستعمار والعدو الخارجي، ومنها نمط الانتاج الكولونيالي، قد عجزت عن إثبات جدواها العلمية والعملية، فإن وظيفتها الوحيدة اقتصرت على ممارسة نوع من الإرهاب الفكري وتحولت على يد السلطات السياسية، في أنظمة الحكم أو في القيادات الحزبية، إلى سلاح لم يسلم منه كبار المفكرين اليساريين من الذين لم يتجرأوا على فتح باب الاجتهاد الماركسي إلا بعد أن غادروا الصفوف التنظيمية لأحزابهم، أو باب الاجتهاد الديني إلا بعد الانشقاق، أو باب الاجتهاد القومي إلا بعد محاولات اغتيال و تخوين متبادل.
مقالات ذات صلة
جامعة الأمة العربية ومحكمة العدل الشعبية
نقول لحزب الله ما اعتدنا على قوله
الإذعان بعد فوات الأوان