لم تعد تكفي علوم اللغة القديمة لتعريف الاستبداد . فقد ورد في لسان العرب أن لفظة استبد هي فعل مشتق من الثلاثي بدد، وقد يعني استبد أي انفرد بالرأي. وفي كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي ، ورد أن الاستبداد لغة ، هو اقتصار المرء على رأي نفسه فيما تنبغي الاستشارة فيه. غير أن الاستبداد اليوم يتضمن دلالة أشرس من مجرد الانفراد بالرأي.
ولم تعد تكفي دراسات مثل ” في تشريح أصول الاستبداد”، وهو كتاب لكمال عبد اللطيف ، لتفسير فروع ومبتكرات الاستبداد الحديث . ذلك أن الاستبداد القديم ، بحسب ما قال عنه النهضوي إبن مدينة حلب أو الفيلسوف المغربي، كان ذا جذور واحدة في كل الحضارات القديمة . وكان فيه نوع من تقديس الملك أو السلطان إلى الحد الذي كان يبيح الحاكم فيه لنفسه أن “ينفرد” برأيه ، من غير استشارة أحد . وكان يحتاج لهذه القداسة أن يتماهى الملك بالله ، أو أن يحكم باسمه . ولم يكن الغزالي وحيدا بين من رأوا في الملوك اختيارا إلهيا. المستبد اليوم لم تعد تليق به ، بل لم تعد تكفيه قداسة .
ولم يعد يصح حصر الاستبداد بالشرق ، فما يدحض هذه الأطروحة هو أن الحضارات كلها قبل عصر النهضة شهدت أمثلة من أنظمة الاستبداد ؛ كما يدحضها أيضا كون الشرق الحديث هو اليوم موطن أكبر ديمقراطية حديثة على الكرة الأرضية : الهند.
آخر نسخ الاستبداد ما قبل العصور الحديثة هي تلك التي شهدتها الحضارة الاقطاعية ، أو حضارة الخراج ، بحسب تسمية سمير أمين ، أي تلك التي انتهت معها المطابقة بين الملك والإله ، وانتهت تسمية العرش الملكي بعرش الألوهية، ورضي الملوك بلقب ظل لله على الأرض.
كان ينبغي لعصر النهضة العربي أن يشهد ، كمثيله الأوروبي، نضالا مريرا ضد الاستبداد بوجهيه السياسي والديني ، على أن يسلم ، بعد ذلك ، حصيلة نضاله إلى العصر الحديث وإلى البلدان العربية المستقلة عن الاستعمار، عن طريق إقامة حكم الشعب وانتخاب الحاكم بالاختيار الحر والديمقراطية. لكن الأمة العربية خالفت منطق التاريخ وظلت غريبة بين الأمم ، وأغرب ما هذه الغرابة أن الاستبداد صار يمارس باسم الشعب لا باسم الدين ولا باسم قداسة الحاكم ، فكان لنا ابتكار جديد هو الاستبداد باسم الحرية ، ظهر في البلدان التي اختارت الحكومات فيها آلية ديمقراطية(؟) لممارسة السلطة ، ومنها لبنان.
من يقرأ “النمور في اليوم العاشر” لزكريا تامر يعرف كيف يرغم المروض النمور على أكل الحشائش بدل اللحوم . يكفيه أن يحكم إقفال القفص فيتحكم بوجبات غذائها اليومي . إن الجوع كافر، وكفره هذا يطعن بقول الشاعر محمد الماغوط : ” ما من أحد يرغمني على محبة ما لا أحب وكراهية ما لا أكره…” ويؤكد مخاوفه الدائمة من المروضين ومن إقفال الأقفاص بإحكام حين يقول : “أضحك في الظلام ، أبكي في الظلام ، أكتب في الظلام …حتى لم أعد أميز قلمي من اصابعي”
هذان الشاعر والقصاص السوريان لم يعيشا في عصر الحجاج الذي دفن الناس أحياء ولا في زمن محاكم التفتيش . إنهما من أبناء القرن العشرين .
كان من الطبيعي، في معايير ذلك الزمان، أن يكون الحاكم حاكما بإمره هو أو بأمر الله ، مهملا كل صيغ الاستشارة الممكنة ، حاصرا أمر القرار بشخصه . وكان من الطبيعي ، بالمعايير ذاتها، أن يكون رجل الدين في الكنيسة أو في المسجد حاكما ثقافيا بأمره هو أو بأمر الله وممسكا مفاتيح الجنة أوقابضا على صكوك الغفران…
أما أن تكون اليوم محكوما ، في ظل الأنظمة الديمقراطية(؟) ، لمن ليس أهلا لممارسة الحكم ، ولا وصل إليه بالكفاءة ونظافة الكف ووضوح الرؤيا ، بل من نقيضها، فهذا من الاستبداد أشده وقعا وأكثره ظلما ، بل إنه من تجليات “زمن الرويبضة” بحسب أحد الصحابة ، وهو يعني بتلك العبارة “الزمن الذي يسوس فيه العامة سفهاء العامة”.
أن يمثلك في النظام البرلماني نواب قادمون من التشبيح والبلطجية والاستزلام والسطو على المال العام وعلى الأملاك العامة البحرية والنهرية ، ممن لم يتخرجوا من جامعة ولا نجحوا في إدارة مؤسسة ولا استحصلوا على شهادة حسن سلوك من مختار أو مدير مدرسة ولا على سجل عدلي من مديرية الأمن العام …فهو من الاستبداد.
أن يكون أستاذك في الجامعة ممن لا يقرأون كتابا ولا يكتبون بحثا ولا يميزون بين المشكلة والإشكالية ، ولا يحضرون محاضرة ولا يشاركون في نقاش فكري ، ولا يعنيهم من أمر الجامعة إلا الأجر الشهري والتصفيق لزعيم الطائفة والتسكع على بابه والانصياع لأوامر ونواه صادرة عن أزلامه ومحاسيبه … فهو من الاستبداد.
أن يعلن سجناء الجرائم الأخلاقية الإضراب، مطالبين بمساواتهم بسجناء الرأي ، وأن يعتدي السائق المخالف على الشرطي ، وأن يطالب الراسب في صفه بترفيعه إلى صف جديد ، والراسب في المباريات بتعيينه في الوظيفة أسوة بالناجح فيها ، وأن تعتصم المعارضة أمام قصر العدل احتجاجا على تطبيق القانون ، وأن يمشي الوزير في المظاهرة اعتراضا على سياسة الحكومة … فهو من الاستبداد.
أن ترغمك وسائل الإعلام المرئي يوميا على البقاء مذهولا أمام الشاشة حيال ما تراه وما تسمعه من سباب وشتائم وخروج على آداب الحوار والتخاطب ، أو حيال ما يصفعك به حديثو النعمة ممن زوروا شهاداتهم الدراسية وتسلقوا عليها وصاروا من علية القوم ، أو منتهكو القيم الأخلاقية والخارجون على القانون ممن يقدمون لك النصائح ويحاضرون عن العفة ، فهو من الاستبداد.
أن يتباهى الزعيم بتحصيل ثروته من المال الحرام ، أو مما اقتطعه بالتشبيح والبلطجية والمتاجرة بالطوائف والمذاهب والولاءات لغير الوطن ولغير القانون، ثم يرفع صوته في وجهك إن شكوت من فساده وإفساده ، ويتهمك بتعكير المياه على جده في أسفل النهر ، فهذا لعمري هو الاستبداد بعينه.
أن يتولى معممون شأن الدين راضين مرضيين بما حصلوه في دراستهم الابتدائية ، فيصمون آذان الناس بالعظات الفارغة ، ولا يتوقفون عن رجمك بالخطب والصراخ في مكبرات الصوت بلغة لا يجيدون النطق بها ولا الكتابة، ويلحنون فيها ، وبمضامين يأنف من سماعها جمهور هو أكثر علما وثقافة منهم …فهذا هو الاستبداد.
ومن أفضع أنواع الاستبداد أن يجتمع نفر ممن يمارسونه ليتخذوا موقفا من انتفاضات العالم العربي وثوراته الداعية إلى إسقاط الأنظمة ، وهي دعوة إن قصدت إسقاط شيء فلا تقصد غير الاستبداد. من الطبيعي إذن أن يرتبكوا ، فهم مع الثورة في بلد وضدها في بلد ، وهم يلتقون مع “الامبريالية” في دعم بعض الثورات ويعودون إلى مناصبتها العداء الصوتي ( الحنجري بحسب تعبير أحد الظرفاء) في بلد آخر.
إنها ضريبة الحرية الفالتة من عقالها . ففي لبنان كثير من الحرية وقليل من الديمقراطية ( هذه العبارة ذكرناها على مسامع الرئيس الحص فأعجبته واستخدمها وسجلت باسمه ). والحرية اللبنانية تعني التفلت من كل القيود والمعايير القانونية والأخلاقية ، والديمقراطية لا تعني سوى صناديق الاقتراع المعروفة نتائجها سلفا…أليس هذا من الاستبداد أيضا؟
غير أن لكل شيء حدودا تاريخية ، ولا يدوم إلا وجهه تعالى. إذن لا داعي للارتباك ، فالحلول يصنعها التاريخ وتكتب بعرق الثوار والأجيال الجديدة من العلماء والمتنورين والمثقفين المجمعين على أن الأمة العربية بدأت تدخل مرحلة النهضة الجديدة والجدية من باب القانون ودولة القانون الديمقراطية. من باب سقوط الحكم الوراثي وكل أنواع الاستبداد السياسي والديني والثقافي .
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي