الربيع العربي ثورة بكل معنى الكلمة ، إذا ما نظرنا إليه من زاوية سياسية . أدونيس تناوله من زاوية ثقافية فكانت خلاصاته مليئة بالخيبات والإحباطات ، أما سمير أمين فقد استخدم أدوات التحليل الاقتصادي ليثبت فرضيته التالية :
” فما حدث هو أكثر من مجرد انتفاضة أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، هو أكثر من حركة احتجاج لكنه أيضاً أقل من ثورة، بمعنى أن تلك الحركة لم يكن لها أهداف واضحة تتجاوز الإطاحة بمبارك”
سمير أمين قصد ، في كلامه هذا ما حصل في مصر. ربما كان دقيقا لو كان يقصد بلدانا أخرى تعيش لحظات انتفاضات وحركات احتجاج (ليبيا واليمن ) ، وربما كان على أدونيس أن يصل إلى مثل هذه الخلاصة ليصف ما يجري في سوريا حيث لم تصل الانتفاضات في هذه البلدان إلى خواتيمها بعد .غير أن ما حصل في مصر وتونس شأن آخر، لأن حركة الشارع فيهما انتهت إلى تغييرجذري على مستوى رأس الهرم في السلطة السياسية ، إذ سقط مبارك ومعه سقط نظام التوريث السياسي وأنتصر مبدأ تداول السلطة. هل أنجزت الثورة كل أهدافها ؟ طبعا لا .هل هذا التغيير هو ما كانت تريده الثورة أم إنه أقل من طموحات الثوار؟ ومن هم الثوار ، وما هو المعنى الجديد الذي منحه الربيع العربي للثورة؟
فرضيتنا نحن في هذا الشأن من شقين ، الأول هو اعتقادنا بأن تطور تاريخ البشرية وضع العالم العربي ، منذ قرنين ، أمام خيار الدخول في رحاب الحضارة الحديثة ( الرأسمالية ) ، على غرار كل بلدان الكرة الأرضية التي بلغتها آلة الاستعمار المنطلق من القارة الأوروبية. وما زالت البشرية تعيش سيرورة هذا الخيار الذي لم تنته مفاعيله حتى الآن ، وإن زعمت بدائله احتمال الحلول مكانه في المستقبل.غير أن بلدان العالم العربي أجمعت ، من حينه و حتى ثورة تونس، على رفض الخيار، وتعاقب في التحريض على الرفض، كما لو في سباق البدل ، الأصوليات الدينية ثم القومية ثم الماركسية . وقد يكون تواطؤ ما نشأ بين الأصوليات والاستعمار ، أخذت بموجبه بلداننا عن الرأسمالية أسوأ ما فيها ( وحشية تجويع الآخر بالاستغلال )، وعن الحركات الاشتراكية والقومية و الاسلامية أسوأ ما فيها (وحشية إلغاء الرأي الآخر بالقتل أو بالنفي أو بالسجن) ، فكانت محصلة التوليفة بناء أنظمة اجتماعية اقتصادية ثقافية ملقحة بالحضارة الجديدة نعتت بالتابعة أو بالكولونيالية الخ ، وبدت الأنظمة السياسية متحدرة من حضارة سلفت كانت تعتمد الحكم الوراثي بدل حكم الشعب والاختيار الديمقراطي.
الشق الثاني من الفرضية ينطلق من أن هذه الحضارة الرأسمالية لم تكن لتثبت اقدامها لو اقتصرت ثورتها على إنجازاتها في الاقتصاد والثقافة خلال قرنين من الزمن ، بدآ من اكتشاف أميركا على يد كريستوف كولومبوس وبالنهضة المالية والاقتصادية والعلمية والدينية في أوروبا كلها وفي الشمال منها على وجه الخصوص، ولو لم تقم في نهايتهما ثورة على الصعيد السياسي أحدثت تغييرا جذريا في آليات تشكيل السلطة ، وحمت المنجزات الثقافية والاقتصادية التي سبقتها ، هي الثورة الفرنسية عام 1789
الربيع العربي يستكمل اليوم ما أحجم العالم العربي عن فعله عام1798 عند مجيء بونابارت إلى مصر ، أو ما تردد في فعله أيام محمد علي باشا وسلالته ، واستمر على إحجامه حتى لحظة بوعزيزي. إنه ينجز ثورته السياسية . لم يقل الربيع العربي شيئا عن القضايا الكبرى التي احتلت الصدارة خلال القرنين الماضيين اللذين إزيحت فيهما قضية الديمقراطية من الصدارة ووضعت على رفوف القضايا القومية الكبرى وباسمها ، ليمارس على الشعوب العربية عنف غير مسبوق تولته أنظمة الحزب الواحد أو أنظمة التعيين والوراثة والانقلابات العسكرية.
على أساس هذه الفرضية ذات الشقين يمكن القول من غير تردد ، أن ما حصل في مصر وتونس على الأقل هو الثورة بعينها ، لأنها بدأت بانتفاضة أو احتجاج وانتهت بإسقاط النظام ورموزه ، من غير أن يعني ذلك أنها حققت كل ما يمكن أن تطمح إليه الثورة في بلادنا. إنها ثورة سياسية ، وهي مطالبة بأن تتابع عملية التغيير لتشمل ميادين أخرى كالثقافة والاقتصاد، ولذلك فإننا نطالب سمير أمين بمتابعة مسارها والمشاركة في توجيهها وتوظيف خبراته العملية والفكرية فيها ، تمثلا بما فعله كبار المفكرين مع الثورات التي عاصرتهم، وبتقديم العون لها لا بإرجاء الإفادة من خبرته ببحوث وتحليلات في التاريخ والاقتصاد السياسي للأجيال القادمة.
غير أن تحفظات سمير أمين مستندة إلى بديهيات ” ثورية” ، صار ينبغي نقدها وإعادة النظر فيها ، من بينها الحديث عن اليسار والاستعمار والفساد وغيره من مصطلحات الثورة البلشفية أو الصينية أو حتى الفرنسية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي اختلط حابل اليسار بنابل اليمين ، لأن الحامل الحزبي والسياسي لليسار كان مجسدا بالنظام السوفياتي وحزبه وتحالفاته الدولية في ظل انقسام المعسكرين. ربما لايزال المعيار الاقتصادي الاجتماعي صالحا لتصنيف اليسار وتمييزه عن اليمين . أما بالمعيار السياسي فلم يعد هذا التصنيف ممكنا ، ولا سيما بعد أن تحالف اليسار العالمي السابق ( شيوعيون واشتراكيون) مع رأس النظام العالمي الأحادي القطبية في حربي الخليج ويوغسلافيا ، وبعد أن وقف جزء من اليسار العربي يستجدي التدخل الغربي لمساعدة أهل العراق ضد الاستبداد الصدامي ولمساعدة أهل ليبيا ضد القذافي.
فضلا عن ذلك ، إن القراءة الاقتصادية الطبقية لمجريات الثورة المصرية وقبلها التونسية لا تدل على دور حاسم لليسار في صنعها ، بل على العكس ، كان موقع اليسار هامشيا والتحقت بعض شرائحه بالثورة غداة قيامها . من هنا يصبح مجافيا للحقيقة نعت شباب الثورة المصرية باليساريين لأنهم “يؤمنون بالديمقراطية الصحيحة ومعادون للاستعمار” ، أو بالقول إنهم “حلفاء اليسار الآن “، أو القول إن حركة الشارع المصري تضم “تيارات ديمقراطية ومطالب اشتراكية” ولا سيما بعد فضيحة الديمقراطيات اليسارية عموما والشيوعية على نحو خاص ، التي استلهمتها الأحزاب القومية العربية في كل سلوكها الاستبدادي وبالتحديد في طريقة الانتخاب بالتعيين أو بالاستفتاء في مصر وسوريا ( لجنة الترشيحات في الأحزاب والأنظمة الشيوعية). إن سمير أمين مطالب كذلك بقيادة حوار معمق من أجل إعادة بناء اليسار في العالم العربي وإعادة تركيب لغته ومصطلحاته.
أما كلامه عن الاستعمار ، وهو استاذ الجميع في تحليل علاقات التبعية أو نظرية المركز والأطراف ، فهو يدفعنا إلى أن نطرح عليه السؤال مجددا عن دلالة هذا المصطلح بعد حربي الخليج ، وخصوصا بعد الثانية ، التي حصل التدخل الأميركي فيها بناء على طلب أجمعت عليه كل قوى المعارضة العراقية ، وأن نطالبه بإعادة صياغة الإشكالية المتعلقة بالاستعمار والاحتلال ، انطلاقا من أن الرأسمالية العالمية لم تغير في أهدافها لكنها غيرت في أساليب سيطرتها، وخصوصا في ظل العولمة التي كان سمير أمين أول من قرأ إرهاصاتها وحلل آلياتها ، وانطلاقا أيضا من التنوع الذي شهدته بلدان الكرة الأرضية في علاقاتها بالمراكز الرأسمالية ، وبالتالي فإن على قوى ” التحرر ” أن تبدل هي الأخرى أساليب نضالها وبرامجها.
وإذا كان سمير أمين يشك في ” قدرة الإخوان المسلمين على التحول إلى منظمة ديمقراطية ” فربما كان عليه أن يعمم الشك أيضا ليطال شرائح اليسار القديم كله. وأخيرا، أفلا يعتقد معنا بأن احتمالات عودة اليسار والإسلام السياسي إلى ساحة العمل العام بصورتيهما القديمتين بات من رابع المستحيلات؟ و بأن الحيز الذي احتلته الشعوب في تقرير مصيرها بات أكبر من الحيز الذي كانت القوى الاستعمارية قد حجزته لنفسها في الماضي ؟ وبأن نظرية المؤامرة التي كان هو أول نصح بعدم الأخذ بها صارت ، من باب أولى ، نظرية غير صالحة لتفسير ” المخططات” الإمبريالية؟ وبأن حصر ظاهرة الفساد بالرأسمالية فيه كثير من المبالغة؟
مقالات ذات صلة
“الشيعية السياسية” لمحمد علي مقلد، بين البحث والانطباع
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي