29 مارس، 2024

كلام السيد سيد الكلام

                                                  إلى السيد هاني فحص

حين أناديك مولانا تخرج( نا ) الجماعة بقوة لياقات تعلمناها في مخاطبة رجل الدين ، ولا أقولها في العادة  لكل رجل دين .

أناديك مولانا منذ أن التقينا ، للمرة الأولى ، أنت قادما من النجف ، وأنا داخلا إلى باحة الثقافة مع ثلة من أصدقاء الشعر والأدب والتعليم .

وناديناك مولانا ، نحن مزارعي التبغ والمتظاهرين المطالبين بالخبز والعلم والحرية ، المدافعين عن قضايا الوطن والأمة وفي القلب منها فلسطين.

 التقينا أول مرة يوم فلسفنا وحدة مساراتنا النضالية ، فبدا لنا النضال من أجل القضية الفلسطينية هو هو النضال الطبقي ضد استغلال الانسان للانسان ، وهو هو النضال من أجل النهوض بأمتنا العربية .

وقفنا على مفترق سياسي بين مشروعين متباعدين ، الاشتراكية هي الحل ، الاسلام هو الحل . الزمن وحده كان كفيلا بكسر شوكة أصولياتنا الدينية والسياسية ، وبجعل المفترق نقطة للتلاقي ، وبإقناعنا بأن الحل بالحوار والسلم والتفاعل لا بالحرب الأهلية والصراع المسلح .

وعلى مفترق فكري بين حرية العقل وتجارة الطقوس . كان ملاذي الآمن اثنان : ديكارت أقنعني بتعديل صيغة السؤال عن الحقيقة : لنقل إن الله موجود ، وأنه خلق الكون وقوانينه ، لنشغل عقولنا الحرة إذن ، لا بالبحث عن الله ، بل بالعمل على اكتشاف تلك القوانين ، فرحت أحفر دروب معرفتي في ما أنتجته العقول ،  فيما أقنعني هاني فحص ، بقوة المثال ، بأن الإيمان الحقيقي ، أي إيمان ، ليس طقوسا احتفالية وموسمية صاخبة بل بحث دائم وصامت عن الحقيقة ، وأقنعني ، بقوة المنطق ، بأن الطمأنينة عدو العلم ، وبأن القلق المعرفي هو السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة .

كنا نلتقي غداة كل هزيمة ، أقوى عزيمة وأشد بأسا ، وأرسخ إيمانا بالقضية وبالأفكار . إلى أن سألتك ذات يوم ، وقد تعددت الهزائم ، ترانا نتشابه كثيرا ، فلماذا لا نؤسس حزبا واحدا ، وكان جوابك بكلمة : حزب الدولة .

عدنا من أحلامنا الكبرى ليتأكد لنا أنك مولانا في العلمنة والدولة المدنية ، وأنك صرت تؤم المصلين في المساجد كما في الكنائس ، وصار لك أتباع ومقلدون في كل الطوائف والمناطق ، فلم تعد فكرة التوحيد حكرا على فقه الدين بل عممتها ، رغم أنف العمائم ، على فقه السياسة ، حين جعلت وحدة الوطن من المقدسات.

أنت بحق مولانا جميعا ، نحن الحريصين على وحدة الوطن ، لأنك على حق في أن  منطق التجزئة والشرذمة والتفتيت ، الذي يستخدم  نهجا في معالجة الجزء ، لا بد من أن يصير نهجا في معالجة الكل . ومن المؤكد أنني استلهمت عقلك التوحيدي يوم كتبت عن وحدة اليسار ووحدة الحزب الشيوعي ووحدة كل حزب ، حليفا كان أو صديقا أو من الخصوم ، في الكتيب الذي حمل عنوان : اليسار بين الانقاذ والأنقاض، وفيه حملت على كل حركة انشقاقية ، لأن تجارب التاريخ الانشقاقية ، في الدين كما في السياسة ، من المعتزلة والأشعرية إلى كل الفرق الكلامية ، ومن الأرثوذكسية واللوثرية إلى كل الفرق الطهرانية ، ومن اللينينية والتروتسكية والماوية إلى كل التفرعات اليسارية ، الخ . أثبتت أن كل واحدة منها  ليست سوى غرسة  من الشجرة الأم ولن تبدل تبديلا .

نعم ، مولانا في الوطنية من يضع وحدة الوطن معيارا لكل سلوك سياسي في ظل صراعات وهجمات دولية تهدد وحدة الأوطان في كل مكان على الكرة الأرضية، وتقلص هامش حق الإنسان ، كل إنسان ، في ممارسة السياسة ، وفي ظل الفروع المحلية لهذه الهجمة ، العاملة بلا كلل على إبعاد الناس عن السياسة ، بل على تجهيلهم السياسي ، ليتسنى لها شرذمة المواطنين وشق صفوفهم وإعادتهم إلى حظائر الأفخاذ والبطون والشلل الحزبية والمذهبية ، وإلى مستنقع العصبيات المحلية التي تغذيها محاصصات السادة وتشحنها وتوظفها سلاحا للتفرقة ، على حساب مصلحة الوطن .

مولانا في الديمقراطية أيضا من تبدأ الديمقراطية عنده من حيث ينبغي لها أن تبدأ ، من الاعتراف بالرأي الآخر . ذلك أن تقاليد الزعم الديمقراطي في وطننا وفي بلاد العرب زيفت بما فيه الكفاية العلاقات السياسية بين الأفراد وبين الجماعات حين استبعدت من قاموس ممارستها كل معنى لاحترام الرأي الآخر ، وعلبت صناديق الاقتراع ، فوق كونها علبا ، ثم جعلتها آلة لصنع اللوائح المعدة سلفا والنتائج المعدة سلفا والرأي العام المعد سلفا ، والارقام المعروفة سلفا : 99 بالمئة أو ما يعادلها قهرا للرأي الآخر أو إلغاء له ، بكل الوسائل المتاحة والمبتكرة ، بالتخوين والتكفير والسجن والنفي إن لم يتيسر الاغتيال .

مولانا في العلم من إذا قرأنا له أو استمعنا إليه ، نتعلم منه  قيم علوم الدين  ومبادئ  العلوم الوضعية على حد سواء .  نتعلم منه ما يحجبه عنا العاملون في حقل  الدين ، حين يجعلون من جهلهم النسبي في علوم الحياة  معرفة مطلقة في علم الله  ، قافزين فوق الآيات الداعية إلى التواضع ومنها : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا  ، وما تمنعنا عنه مزاعم العاملين في السياسة الذين يجعلون من تعصبهم لأفكارهم ، وهو تعصب يوازي الجهل ويفوقه خطورة ، سبيلا لاحتكار الحقيقة ، وهو نهج  يعزوه البعض إلى ستالين ، و يرده البعض إلى الاستبداد الشرقي ، والحقيقة أننا برعنا في تأصيل التربية على الاستبداد ، واستفدنا من كل أصوله ،  وجعلناه في كل علاقاتنا ، في العائلة والطائفة والحزب ، في السلطة وفي المعارضة ، في الأصول والفروع ، ولم يخرج عن الستالينية ونهجها أحد ممن تحدر منها أو انشق عليها أو تفرع عنها ، ولا ممن جافاها وناصبها العداء من أحزاب وحركات  قومية ودينية .

أن يعلن رجل دين حرصه على بقاء الحزب الشيوعي موحدا هو استعادة لتراث من العلاقات الودودة  بين رجال الدين وحركة النضال التقدمي  ، كانت قد بدأت مع رجال دين كبار تخرجت من بيوتهم أجيال من المناضلين التقدميين والشيوعيين ، وهو ينم عن رحابة في الفكر السياسي ما أحوجنا إليها بعد الانهيارات والمصائر المهددة . وإذا كان هذا التراث قد تعرض للانقطاع في مرحلة من الزمن فلأن كلا من طرفي العلاقة يتحمل قسطا من المسؤولية في ذلك ، وفي الحالتين كانت الأصولية ، الدينية والماركسية ، مصدر التشوش .

أصولية الشيوعيين جعلتهم يتنكرون لحقهم في الابتكار والتجدد ، مثلما حجرت الأصولية الدينية على فكرها وحكمت عليه بالتحجر والجمود ، وأقفلت باب الاجتهاد. الشيوعيون قرروا نسخ التجربة ، أي مسخها ، من غير أن يبذلوا جهدا لتأصيلها وتلقيحها بخصوصيات بلادنا ، وأساؤوا إلى الماركسية حين وضعوها في موازاة الدين ، والآخرون فضلوا وحل الطقوس على بحر العلوم ، واستبدلوا مفاتيح المعرفة بمفاتيح الجنة ، وجعلوا الدين مطية للسياسة ، واستزلم رجاله لرجالها ،  وعلى الجبهتين ادعى الجميع احتكار الحقيقة .

الدعوة إلى التنوع داخل الوحدة تجد أساسها في الفكر الإنساني وفي الفكر الديني على حد سواء ، وسيد الكلام ينهل من الينبوعين بلا حرج . ففي النص الديني ذكر صريح للتعارف الضروري بين شعوب وقبائل ، وفي الهيغلية والماركسية كلام عن التناقض ، وعن التناقض داخل الوحدة . وحدهم الذين لا يقرأون ينكرون هذه الحقيقة ويجعلون التناقض المستحب لديهم سبيلا للتفرقة وصراعا بين متباعدين . هكذا تنشأ الحركات الشوفينية والعنصرية على العصبيات والجهل وتستشري الحروب الأهلية في الأوطان ، في ظل الاستخفاف بالوحدة إطارا للاختلاف . إنه الفكر الثنائي الذي يجسده وعي متدن للدين وللفلسفة على حد سواء ، حيث تنحصر الخيارات في الجهل الديني بين الإيمان والالحاد ، وفي الجهل الفلسفي والسياسي بين المادة والروح .

مولانا في السياسة من يقرأ جيدا ما استجد في هذا العالم في ظل العولمة والأحادية القطبية ، حيث غدا التمييز بين اليمين واليسار أمرا ملتبسا ، وبات من الضروري أن يعاد النظر بآليات النضال الوطني والقومي والطبقي ، وبآليات تشكل الأحزاب وبرامجها وإيديولوجياتها ، من أجل قيام حركة مناهضة للإمبريالية تجمع في صفوفها أوسع أوساط المتضررين من تسلط الاقتصاد على السياسة والسياسة على الثقافة . ربما بسبب ذلك باتت مهمة ثورية بامتياز المحافظة على وحدة الوطن في مواجهة مخططات التجزئة ومخاطر الحروب الأهلية ، ومثلها السعي الدؤوب لتجديد الأطر الحزبية والحفاظ عليها موحدة ، لاسيما في حالة الحزب الشيوعي الذي يشكل انتشاره في كل الطوائف والمناطق والطبقات ضمانة للحفاظ على وحدة الوطن.

العقل السياسي العربي ظل ، حتى وقت ، قريب ينزع في تفكيره إلى  ترسيخ العداوات بين أصحاب “الكار” ، لأن العدو عدو الكار ، حسب القول الشائع ، وبعضهم ذهب في تفكيره حد البحث عن سبيل لوراثة الشيوعية المنهارة ، وربما لا تزال تعشش في العقل السياسي العربي خطط اختراقات أمنية يقوم بها حزب على حليفه في النضال ، ومن الأكيد أن المركزية الصارمة علمت المنتمين إليها كل فنون التشدد لا سيما ضد الأقربين ، والتهم جاهزة والارتداد كفر وخيانة ، والنقد حرام والتنوع  جريمة ، وقد خرج من مدارس التشدد من فاقوا أساتذتهم في استبعاد الآخر ونفيه ، حتى غدا التفريع التنظيمي في الأحزاب والحركات  قدوة ومثالا ، وما رشق التهم بين الفرع والأصل إلا التعبير عن غياب الديمقراطية عند كليهما .

أصالة الانتماء إلى التنوع هي هي اصالة الانتماء إلى دمعة سخية ذرفها مولانا ، من شاشة التلفاز ، على كربلاء الغزو الأمريكي على العراق ، وإلى دعوة حارة لبناء أنظمة ديمقراطية علمانية على امتداد الوطن العربي . لكن العلمانية ثورة لن تنجح من غير دور فاعل يضطلع به رجال دين متنورون من أمثال سيد الكلام ، السيد هاني فحص.

                                                                             محمد علي مقلد

‏الثلاثاء‏، 24‏ حزيران‏، 2014