20 أبريل، 2024

في رثاء مهدي عامل

وتبقى أنت النشيد

                                     تحية إلى حسن حمدان مهدي عامل ( نشرت في جريدة السفيربتاريخ 20-6-1987)

تقول رواية أن مسلحين كانوا يستقلون سيارة بيضاء أطلقوا عليك الرصاص وأمعنوا فراراً، بعد أن أخفوا بصماتهم وحملوا معهم كل الأدلة  المادية. هكذا تركونا نتخبط بجهلنا وذهولنا. تركونا يعبث بنا التردد، ويخيم علينا صمت عميق. الرصيف وحده وإسفلت الشارع ودماء دافئة هي الشاهد والدليل .

وتقول رواية أخرى أن الأدلة أتت من كل صوب، من بيانات الاستنكار وبرقيات الشجب ووفود المعزين ودموع المحبين وحزن الأصدقاء، وأن محبيك في المدن والقرى راحوا، لحظة سمعوا الخبر في الإذاعات، يفركون آذانهم وعيونهم لأنهم لم يصدقوا، وأن تلامذتك في الفكر والصداقة والسهر والجدل والسمر، أن ذويك في الشعر ومن أهل القلم، وذويك في الثورة، وأن المتداولين بأسمائك وبمفاهيمك وبذكريات حميمة معك، والذين ذهبوا لتأبينك بالدمع والصمت والصبر والانتقام، والذين سقط موتك عليهم كالفاجعة، والذين خرج من عيونهم الخوف والعنف والريح … كلهم خسروك، كلهم افتقدوك، كلهم شعروا أنك لا تعوض .

وحدهم القتلة وقفوا بعيدا يحملون علامة فارقة، وقفوا بعيدا يشيرون بأصابعهم إلى جثتك. وحدهم بأكباد غليظة وسبابات غليظة .

                                       **************

كنت تعلم أنهم سيفاجئونك ذات يوم، لذلك كنت تشرب أيامك حتى الثمالة، يقظاً كنت تبقى آناء الليل، تستيقظ كل صباح وقلمك معفر بغبار محاوريك ومجادليك، وكنت تجادلهم بالتي هي أحسن

وحدهم الذين خرجوا من رحم الفكر جادوا عليك بما تستحق. ما عرفك أحد منهم إلا وأحبك. ما عرفت أحدا منهم إلا وأحببته، إلا الذين كفروا وارتكبوا الكبائر وعسعسوا في عتمة الجهل، إلا الذين ضاقوا بالكلام المقنع فآثروا أن يطلقوا على الكلام الرصاص .

فهل ما زلت على يقينك بأن تجادل بالتي هي أحسن ؟

                                        *************

يوم عرفناك أول مرة بلحيتك و” صندلك “، تسهر حول كؤوس الشاي، تهيؤها بنفسك بعناية، كأنك تمارس طقوسا في العبادة، كنا نمسك شفاهنا عن الهمس وعيوننا عن النوم وساعاتنا عن الدوران. وكنا نسكر بكأس الشاي الذي تهيئه لنا بنفسك، تداعبنا أفكارك وتلهو بنا كالأطفال. وفي غمرة فرحنا كنت تقدم نفسك إلينا على شكل طفل بريء قوي الحجة، فسلام عليك حتى مطلع الفجر.

                                       *************

مثل كل التلامذة يامهدي كنا نبحث عن نقاط الضعف في معلمنا. لم نكن نجد سوى طفل فيك وجسد نحيل يحتويك. كنا نعبث مع الطفل ونعبث بجسدك، نحملك نرميك نتقاذفك بلكمة أو دفشة أو كركرة أو ننتف لحيتك. كنا في حركاتنا المتوحشة تلك نأتيك من ناحية الجسد لأنك كنت أقوى حجة وأعمق ثقافة .

كم كنا قتلة وسفاحين ! لقد سبقنا الذين اغتالوك إلى كشف نقطة ضعفك ! غير أننا، نحن، كنا نمزح ونفرح معك إلى أن يدب النعاس فينا، وحين كنا نغادرك قبل الفجر كنا نغرق في حنين إليك يشبه حنين العاشقين، نمضي إلى منازلنا، نتوزعك فيما بيننا، ونستمر نحادثك كل من فراشه إلى أن نستيقظ في الصباح على ضحكتك ولحيتك أمام باب المدرسة الثانوية.

                                       *************

كان حسن حمدان يسهر كثيراً، يقرأ كثيراً، يكتب كثيراً، ويشرب الشاي كثيرًا. وكان قد بدأ يتسرب إلى أصدقائه الكثيرين حين خرج من ضلعه شخص إسمه مهدي عامل. أحببناه كما أحببنا صاحبه. كان الأول يهيئ لعائلته وجبة الطعام ولأصدقائه كؤوس الشاي، بينما كان الثاني يهيئ لجلسة السمر والنقاش، ولا يقطعها إلا على صوت صغيره في السرير. يسكت مهدي ويقوم حسن راضيا مرضيا.

كان يدهشنا كيف يجتمع هذان الشخصان داخل تلك العباءة الجزائرية، كيف ينسقان الوقت والعمل والهموم والمشاغل والأصدقاء، وكيف يتوزعان العواطف. كان مهدي يختفي خلف نظارتيه ليبقى حسن العاشق المراهق، حسن الساذج، حسن الجنوبي، حسن المتسامح الصادق الوفي الألوف، حسن المناضل المتواضع الزاهد، حسن النقي، حسن الأب والزوج والصديق والنديم، حسن بحياته البسيطة وثيابه البسيطة .

كان حسن يخلي الساحة لمهدي، مهدي الشيعي، مهدي الصوفي، المفكر والفيلسوف، المجادل والمناقش، المحاجج المقنع المفحم، مهدي الذي يحب خصومه ولا يتسامح مع أفكارهم ولا يغفر لهم قول غير الحق. مهدي الذي لا يرحم فكرة تجنح أو قولاً ينتصر للإيديولوجيا ضد العلم، مهدي الحازم الحاد القاطع، مهدي الذي لا يساوم ولا يداور ولا يناور، مهدي الذي لا يكف عن القراءة وعن البحث في عالم الأفكار.

                                      *************

ثم جاءنا من دور النشر أن مهدي عامل أخرج إلى النور كتابه الأول، وقمنا نحن نجول به على المحبين والأصدقاء. وسرعان ما ارتفعت أصوات قارئيه احتجاجا على صعوبة لغته، مطالبة بعودة مهدي محدثاً بديلاً عنه كاتباً. صار مهدي مهديين إلى أن وقف طارق على المنابر في المساجد والحسينيات وقاعات المحاضرات ينشر أفكاراً عن الثورة والصراع الطبقي والحكم الوطني الديمقراطي والثورة الفلسطينية وحركة التحرر الوطني. طارق نسخة شفوية من مهدي، إليه انشدت القلوب والعقول واستمع إليه عشرات الآلاف حين كان يبشر بعصر جديد وبحركة وطنية

وحين ظهر إسم هلال بن زيتون على غلاف ” تقاسيم على الزمان ” كنسخة شاعرية من حسن حمدان، حمل الشاعر ملامح ذويه ، غير أن حسن ومهدي وطارق عملوا بعد حين، على تفادي هذا الإسم يوم خرج إلى النور ديوان جديد بعنوان ” فضاء النون ” ووقعه حسن حمدان بالذات. تلك هي أسماؤك.

ويوم طلع نعيك من الإذاعات شهيدا لفت انتباهنا لقب الدكتور الذي واريته خلف تواضع جم وتحت جبة من دون ربطة عنق. فسلام على أسمائك التي لا تموت

                                      **************

كنا نمشي في جنازتك وكأن على رؤوسنا الطي. وكنت أنت ملء الشوارع والعيون، وصورتك في المخيلة محفورة  كالحب الأول، كالطعنة، وغبارك يملأ الكتب والرؤوس ووكالات الأنباء، ودماؤك تسيل من شرايين لا تعرفها، وموتك يلف أعناق الوطن.

ها أنت معنا ضاحكا. ها لحيتك تخلي للشيب سوادها. تلك هي خيوطك الجنوبية ما زالت مشدودة إلى الحلم، إلى الوطن المستحيل.ها أنت ذاتك بعينين ثاقبتين وإذنين خائبتين، ومع ذلك فها أنت تسمع بيانات الاستنكار كما تقرأ جيدا في عيون مشيعيك حقداً طويلاً وبطيئاً ، وتقرأ على الجدران والأعمدة صورتك الكثيرة، وتقرأ الحداد على باب الثقافة، وتقرأ نمنماتك وحروفاً كحبات الرمل مرصوفة كعقاب جميل لعمال المطبعة .

                                       ***************

لا تقل إنك بانتظارنا على مذبح الحرية ، وعلى هيئة قرابين فدى للوطن . ولا تنتظرنا مطلع االفجر على المنعطفات. لقد بتنا، في غيابك، نرى بعيون زائغة، نحاول أن نجمع ما تشتت منك في ذاكرتنا، في سفرنا اليومي إلى الكتب والمدرسة، وفي بحثنا عن الحقيقة بين بقاياك. لا تقل ذلك الكلام الذي بتنا، لكثرة ما صدقناه، نعيش على شفيره.

لا تعد إلينا على هيئة قوس النصر، أو في صورة نبي، إننا لم نعد نقوى على تعاقب الغزاة والأنبياء، ولم تعد ملامسنا صالحة للصحاري. إننا لكثرة ما أدمنّا على كلامك بتنا ” لانملك إلا أن ننتصر “. هكذا كنت تقول . كنا نضحك من تفاؤلك وكنت تضحك من جهلنا. وها أنت ما زلت يا مهدي ضاحكاً ملء القبر، ضاحكًا من أصدقائك الذين لم يصدقوك ومن أعدائك الذين صدقوك أكثر منا، فقتلوك.

                                       **************

غداة موتك اهتزت خطواتنا. فقد انتزعتنا أنت ورميتنا في غموض أبله، وتركتنا معلقين بأفكار تبحث عن ورثتها. غير أننا، في ما تبقى من آمالنا الخائبة، وفي ما ترسب منك في آذاننا وعلى أوتار قلوبنا، نستجمع أحزاننا وأحلامنا كاليتامى، بحثا عن وطن وعن مستقبل، بحثا عن كلام تنضح منه الحقيقة

وإذا كنا ياحسن قد فقدنا بغيابك بعضاً من نكهة الصبر وشهية العناد، فلأن الكورس قد شرد عن اللحن، ولأن أفراد الجوقة تاهوا في ركام من عزف منفرد.

وتبقى أنت الأغنية

وتبقى أنت النشيد