21 نوفمبر، 2024

كرم الفلاحين

في تكريم شكيب قاطبي

كلمة ألقيتها في حسينية بلدة أرنون في الاحتفال التأبيني الذي أقامته حركة أمل في ذكرى أسبوع عديلي شكيب قاطبيه

      محمد علي مقلد                                                                           4-9-2022

في خريف 1983، بعد عام ونيف على الاحتلال، غادرتُ الوطن في إجازة قصيرة لأعود وأستأنف نضالي ضد الاحتلال. وإذ بصوت صديق على الهاتف ينصحني، حرصا على حياتي، أن أبقى حيث أنا. رفضت النصيحة متذرعًا بأنني مدعو للعودة لا بدافع وطني فحسب، بل بالواجب الوظيفي وبحاجتي إلى الدخل الشهري من وظيفتي في التعليم الرسمي. طلب من زوجتي أن تقنعني بعدم ركوب مركب الخطر  متعهداً لها  أن يكون مسؤولاً عن دخل شهري  أحدده أنا بنفسي، ويلتزم به تجاهي حتى سن التقاعد من الوظيفة. شكرته على المبادرة، إذ تأكدت من أنه لا يتوانى عن مثل هذا السخاء للأقربين والأبعدين، حرصاً على حياتهم، مثلما أنه لم يتوان عن تقديم ما يلزم تقديمه، وما يمكنه تقديمه، حرصاً على الوطن وتحريره من الاحتلال .

صوت الصديق هذا ، الذي ناداني من قارة إلى قارة، وناشدني الحرص على حياتي، في ظل تهديدات إسرائيل وعملائها، كان صوت شكيب قاطبي. كنت لا أعرفه حق المعرفة، لأن القرابة بيننا كانت لا تزال حديثة العهد،  فهو خطب قريبة لي وهاجر قبل أن تتوطد العلاقة بيننا. قلت في سري، وقد ازددت إعجاباً به واحتراماً له وحباً : من أي طينة جبل هذا الرجل؟ وصرت شيئاً فشيئاً أكتشف أنه مجبول من طينة أم رائعة هي أم شكيب ، قبل أن تصير الحاجة أم شكيب.

هذا الكلام أردده الآن حرفياً بعد ان قلته من على هذا المنبر منذ سنوات،  بناء على طلب شكيب وتكريماً للحاجة أم شكيب في ذكرى مرور أسبوع على وفاتها، وكان قد لفتني يوم تشييعها رفع لافتة كتب عليها : بموتها مات الكرم. فقلت يوم تكريمها تعليقاً على اليافطة، ” الذي اختار نص اليافطة، لا فض فوه، ربما لم ينتبه إلى أن ”من خلف ما مات”، ولم ينتبه إلى أن موت الحاجة أم شكيب لم يقفل باب السخاء، فهي سلمت مفاتيحه، قبل أن تغادر، لمن ربّتهم وأنشأتهم ورعتهم على محبة الآخرين، شباباً ونساءً وأصهاراً وأحفاداً، أطال الله أعمارهم .

شكيب حمل الأمانة وفتح باب السخاء على مصراعيه. الكرم من مزاياه، ولا يختصر مزاياه. ورثه عن أبويه. هو كرم الفلاحين مع أنه حصل ثروته من الاغتراب. كرم الأرض مع أنه أدار شركة تجارية في بلاد الانتشار. كرم الفقراء مع أنه صار من الأثرياء. كرم الفلاحين هو كرم من لا يملكون شيئاً ويتصرفون كأن في حوزتهم كنوز الأرض وما ملكت أيديهم من غلال التعب وعرق الجبين.

وهو كرم مقرون بالنخوة كأن الشاعر كان يعنيه حين قال : إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني

                                                                                           عنيــــــــت فلم أكسل ولم أتبلد

خلال عدوان عناقيد الغضب سمع في الإذاعة خبراً عن احتمال توقف مستشفى النجدة الشعبية في النبطية عن العمل إن لم تتأمن لها كمية كافية من المازوت. لم تتكرر إذاعة الخبر أكثر من مرة لأن أبا علي استجاب لنداء الاستغاثة وأصر على عدم ذكر اسم المتبرع.

هي نخوة الكريم الذي كانت تؤلمه صرخات المحتاجين، فلم يتبلد أو يتأخر ولم يتوقف  حتى أواخر أيامه عن توقيع شيكات شهرية من صندوق زكاته، مع حرصه على ألا يعرف أسماء من توزع عليهم وعلى ألا يعرف هؤلاء  مصدر المساعدة.

هي نخوة الكريم العصامي. قرر أبو علي الدخول إلى ميدان العمل المنتج باكراً فراح يبيع الكتب المستعملة على رصيف شارع المكتبات في العازارية في بيروت، وما أن  فتح مكتبة في النبطية حتى داهمته الحرب الأهلية فقرر بحدسه السليم المغادرة ليؤسس في أفريقيا مملكة لآل قاطبي وأنسبائهم، إخوة وأخوات وأصهاراً وأحفاداً وجيراناً وأصدقاء.

 سألت إحدى أخواته عما يعنيه لها أبو علي، فقالت هو أخي وأبي وصديقي ورفيقي وحبيبي. هو كل هؤلاء معاً. كلما اكتسى جسد الفرخ منا بالريش كان يقيم له أبو علي عرساً ويؤثث له بيتاً زوجياً. هي اختصرت كلام كل منهم، إخوتِه وأخواتِه. كل إخوته وأصهاره وأولادهم سلكوا هذه الدرب. محسن ومحمد وعلي وحسن ومحمود. من أرنون إلى إفريقيا مساعدين ثم شركاء إلى أن يستقل كل منهم بمؤسسة إنتاجية ويشق طريقه الخاص وينتمي إلى نادي رجال الأعمال.

رحلة الغربة إلى الغابون بدأت مريرة. هناك أسس عائلة كبرى من الأقارب والأصدقاء ورجال الأعمال وبات إسماً  علماً وواحداً من أركان الاقتصاد الغابوني فمنحته الدولة جواز سفر وجنسية. وهناك بنى عائلته الصغرى مع شريكة حياته رنده التي كانت سنداً له منذ البداية في محله التجاري الصغير وحتى آخر أيامه في العناية الفائقة في المستشفى. منحها ثقته المطلقة فأجاز لها التوقيع بإسمه في المصارف ووهبته من الحب والإخلاص ما يكفي لبناء مملكتيه المالية و العائلية.

لم يحصل على شهادات أكاديمية، لكن أبا علي كان يفوق حامليها حكمة وتبصراً واستشرافاً للمستقبل. الرصاصات الأولى في الحرب الأهلية كانت كافية، فكشفت أمام ناظريه حقيقة ما ستؤول إليه الحالة السياسية والأمنية والاقتصادية في لبنان فاختار عالم الاغتراب، عاش وجنى هناك لكنه ظل مربوطاً بحبل الصرة إلى أرضه وقريته وأهل بلده، فما أن لاحت أول فرصة حتى عاد لئلا يفقد  أولاده أواصر الصلة باللغة العربية وبأرض الوطن، وقرر أن يستثمر أمواله في لبنان، لكن أول حاجز للفساد السياسي المستشري أوقفه في بداية الطريق، حين طالبه معالي الوزير بعمولة مقابل الموافقة على توقيع عقد المناقصة الذي فاز به تحت سقف القانون.

تخلى أبو علي عن قراره باستثمار أمواله في لبنان لأن المقاولات السياسية فيه قادرة على تبديد كل رؤوس الأموال المالية والعقارية والتجارية والصناعية والسياحية وغيرها، وهذا ما أثبته مآل الأزمة الحالية الطاحنة، إلا مجالاً واحداً لن تقوى على المنافسة فيه هو الاستثمار في العلم.

تراجع أبو علي حتى حدود مملكته الصغرى، انطلاقاً من اعتقاده واعتقاد أي رجل أعمال ناجح، بأن الاستثمار في العلم هو أفضل مجالات الاستثمار. تراجع حتى حدود تأمين الدراسة لأولاده الستة فأمسك بأيديهم جنباً إلى جنب مع زوجته إلى أن تخرجوا من الجامعات ودخلوا ميدان العمل كل ضمن اختصاصه. علي في مجال الفنون وأنشأ مؤسسته الخاصة في فرنسا، حسن وحسين في إدارة الأعمال يديران مملكة والدهما في الغابون ومحمد اختار العمل موظفاً في القطاع الخاص بعد أن أنهى المرحلة الجامعية بمنحة دارسية في فرنسا، نسمة في الآداب ودنيا توظفت في مؤسسات الأمم المتحدة بعد تخرجها في حقل العلوم السياسية.

واكبهم إلى أن  تخرجوا كلهم من الجامعتين اليسوعية والأميركية، وظل يسهر على تأمين مستقبلهم العائلي حتى آخر لحظات حياته فبارك إضافة ثلاثة أفراد إلى عائلته، وليد زوجاً لنسمة وآية زوجة لحسين وعلي زوجاً لدنيا، وغادر قبل أن يكتمل نصاب العائلة بزواج أبنائه الثلاثة الآخرين، تاركاً لشريكة حياته رنده ولأشقائه أن يتولوا مهمة الرعاية هذه بالنيابة عنه.

أبو علي لم يستثمر ماله في العلم فحسب، فهو أسرّ لزوجته ذات مرة بأنه لن يبقي فقيراً على فقره من بين الذين يعرفهم في قريته والقرى المجاورة أو من  بين أصدقائه وأصدقاء أصدقائه. كان ذلك تعبيراً عن أصالة انتمائه إلى قيم الفلاحين، أهل القلة وأهل الكرم في آن، وإلى تلك الفترة التي تربى فيها بعرق جبين والديه في أرض لا يملكانها. حين فكر  بتكريمهما قرر أن يشتري الأرض التي كانا يعملان فيها، ليطوي صفحة قديمة من علاقتهما بها. الحمى الذي كان محمية لأحد الإقطاعيين صار، بنخوة شكيب ووفائه لأهله ولقيم الفلاحين، محمية لآل قاطبي.

شكيب كان قد منحني شرف تكريم والدته، وها هم أخوته وأخواته وزوجته  وأبناؤه يمنحونني شرف تكريمه اليوم، مع أن في اختيارهم إياي لهذه المهمة بعض المغامرة، لأنها تشكل اعتداء على كفاءات الأقربين من سادة المنابر من الأقارب.  غير أن شكيب كان، بالمعاينة والتجربة، واثقاً  من أن هذا القادم من خارج القرية ومن خارج هواه السياسي يعرف أن لكل مقام مقالاً وأن مكان التحليل السياسي هو الصحف ووسائل الإعلام والتواصل والاجتماعات الحزبية لا  منابر الرثاء.