الدكتور علي نسر
يطرح الدكتور محمد علي مقلد في كتابه “الشيعيّة السياسيّة” قضايا تراوح بين الفكرية والاجتماعية والسياسية، عاملا على تبئيرها من زوايا ايديولوجية، ما يجعل الكتاب يفيض بالمواقف العامة والخاصة، فيقترب مرة من كونه بحثًا كما يشير العنوان (بحث في معوقات بناء الدولة)، ومرة أخرى تسيطر عليه الآراء شبه الشخصية فتبعده من مسار البحث نظرًا الى بنائه وتركيبته المنهجية الواضحة.
يتخذ الكاتب من مصطلح “الشيعية السياسية” ما يعرف بـ”صندوق الصوت” وفق التحليل النفسي للأدب، ليعلن أصواتا أخرى تتستر تحت مظلة العنوان أو الصوت الرئيسي، فيقدّم نقدًا نوعيًّا للحالة الراهنة مستفيدًا من قراءاته المعمّقة للتاريخ الذي يعيد نفسه أحيانًا ولكن بصور مختلفة ومواقع جديدة واعادة انتشار من جديد. يؤكّد أنّ الطائفة والمذهب والحزب ليست عامل خطرٍ على الوطن والأمّة إنّما هي عامل بناء، لما تحويه من مبادئ تقدّم للانسان الفائدة وتعمل على تحريك عجلة التطور والتقدم. لكن اتخاذ الطائفة السياسةَ نهجًا، يجعلها محشورة في باب المصالح التي قد تدوس مبادئ طالما تغنّت بها وعملت على تلميع صورتها.
يتمحور العمل حول ما يحدق بالوطن والدولة من أخطار، جراء الأخطاء المتعمدة أو العفوية التي يرتكبها “حزب الله”، أحد أعمدة الشيعية السياسية بحسب وجهة نظر الكتاب، مستعيدًا أخطاء المارونية السياسية التي كادت أن تعزل لبنان عن محيطه العربي والاسلامي عبر احلام الوطن القومي المسيحي، فكانت النتيجة حربًا في العام 1975. وكذلك ارتكبت السّنيّة السياسيّة أخطاء مشابهة لكنها لم تكن في الواجهة انما تدثّرت بغطاء المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان. وعلى الرغم من أخطار أي طائفية سياسية، إلا ان الكاتب يرى في الطائفية الشيعية وتصرفات “حزب الله” عبر مقاومته وايديولوجيته الدينية القائمة على الغيبيات وعبر سياسته المدججة بسلاحه (عقدة المنشار) أخطارًا تفوق حدود أخطار سابقتيها وخصوصا أنّ أهداف “حزب الله” تتجاوز حدود الوطن لارتباطه بخط “ولاية الفقيه” الذي يمتد من ايران الى العراق وصولا الى لبنان. في مثل هذه الحال، يرى الكاتب أن خطرًا يحدق بالوطن واللبنانيين لما يقترفه “حزب الله”، باختزاله الشيعة في صفّه وكل ما عداه من الطائفة يصبح تابعا مشلول الفعل والارادة أو مشبوهًا، من أعمال تدميرية تلحق بالدولة نظرًا الى تجاوزه المؤسسات والقوانين التي لا يمكن هذا الوطن ان يقوم من دونها.
استطاع الكاتب عرض هذه القضية المحورية، معتمدًا عدسة تصويرية تتنقل من مكان الى آخر، ومن مرحلة زمنية الى أخرى، موظّفًا قدراته التحليلية في السياسة والاجتماع والفكر، ناهلا من مخزونه الحزبي الشيوعي الكثير من النظريات التي أفادته في نقد المرحلة، وإن لم يوفّر اليساريين والعلمانيين من مبضعه النقدي الذي يغرزه في بطن الواقع والوقائع. وفي هذا ربما لا نستطيع أن نجادل الكاتب في الفكرة المعالجة، سواء اتفقنا مع بعض آرائه أم اختلفنا، مع أنه يشدد على ضرورة تعددية الأصوات وعدم اختزالها في صوت احادي يصبح كل ما لا يتفق معه مشبوها وتشرَّع ضده وسائل الاقصاء ومنها الموت والعنف. يوفق الكاتب في تصويره العديد من الأمور الخاصة بطبيعة الوضع العربي واشكالية الممانعة والمواجهة التي تطفو اليوم على السطح، بالاضافة الى قضايا فكرية وسياسية أخرى يمكنها ان تكون بمنزلة المرجع اذا ما أراد باحث أن يستفيد منها، وخصوصًا القضايا المتعلقة بالمفاهيم الدينية الخاطئة، وكذلك طبيعة الحكم العربي القومي الذي يساهم في تدهور الاوضاع لتغييبه الديموقراطية والحرية والتشبّث بالحكم بحجة قتال اسرائيل. لكن ما يمكننا فعله، هو أن نناقش الكاتب في منهجية الكتاب التي ظهرت في حالة تخلخل انعكست سلبا على القضية الجوهرية وجعلتنا قادرين على مجادلة من عوّدنا على أهمية الجدل والنقاش في سبيل استنهاض الأمة حين كان استاذا محاضرًا لنا في الجامعة اللبنانية، ولا يزال استاذنا بالتأكيد.
يبدو الكتاب رازحًا تحت ثقل مجموعة مقالات كتبها الكاتب في مراحل متباعدة، وحشدها في كتابه هذا، نظرًا الى تشابهها في الطرح والتحليل. أوّل ما يلفتنا في هذا المضمار هو التحليل الذي تسيطر عليه الانطباعية والمواقف الخاصة والحادة من سياسة “حزب الله” عموما والمقاومة خصوصًا، الأمر الذي يحوّل القضية في بعض المناسبات والمواضع في الكتاب من قضية عامة الى قضية خاصة وإن حاول الكاتب تغليفها بثوب العموم.
فمن ناحية المقاومة، يحاول الكاتب ان يؤكّد قدسيتها مشيرا الى ملاحم افرادها في ما سطّروه على امتداد مشوارها بدءًا بالشيوعيين والقوميين وصولا الى المقاومة الاسلامية، محاولا ان يتعامل مع انتصاراتها الأخيرة وما احاط بها من هالة قدسية جليلة من انطلاقات علمية وواقعية رافضًا (هو محق ولا شك في ذلك) اعطاء المقاومة صفة غيبية كما يحاول الكثيرون ان يفعلوا بعد حرب تموز الاخيرة، لأنّ في هذا تقليلا من شجاعة المقاوم الذي قاده ايمانه الى ما تحقق من انتصارات، ولأن نقد اي عمل تقوم به المقاومة يصبح مشبوهًا وفيه من الكفر الكثير. لكن موقفه هذا قاده الى جعل الانتصار محصورا بتاريخ العام 2000 وما سبقه من سنوات، اذ يرى انتصارا ملتبسًا في ما تحقق في العام 2006. وفي هذا اشكالية كبيرة. إذ كيف يرفض كاتب مشهود له في انتمائه الى المقاومة والخط المقاوم انتصارا اعترفت به قيادة العدو قولا وفعلا؟
من الأمور التي هبطت بالعمل من جوهره العام وحصره في أزقة الامور الشخصية وإن حاول الكاتب ان يجعلها امتدادا لقضية كبرى، مواقفه الشخصية من الجامعة اللبنانية وعمدائها الجدد، ما جعله يقدم على استقالة مبكّرة ويعلن حربه الكلامية على القيمين الجدد فيها، وهو يصيب في وصف العديد من الامور التي تعاني منها الجامعة بالفعل، وهذا ما يجعل الكتاب يتفلّت من قيود البحث وينحصر في الانطباعية والرأي الخاص. هذا بالاضافة الى موقفه من موقع مليتا السياحي الذي اقامته المقاومة على ذاك الجبل تخليدًا للمقاومة والمقاومين. يؤكّد نأي الكتاب عن صفته البحثية التي يحملها الغلاف، خلوّ التحليل من المصادر والمراجع التي تحافظ على موضوعية أي بحث وتؤكّد صدقيته. فالكتاب عبارة عن مقالات ذات طابع تحليلي خاص خطّها الكاتب في مراحل متفاوتة. والسؤال الذي سألته لنفسي وجاءني الرد من خلال بعض المقالات التي يكتبها الكاتب اسبوعيا، هو هل يمكن تعديل بعض وجهات النظر بعد مرور وقت على صدور الكتاب؟ فالجواب هو التشدد في المواقف والتزامها من دون مسوّغات، وخير دليل أن الكاتب يرى في الانظمة العربية سببا من اسباب ازمة اليوم، وهذا لا شك فيه بكل تأكيد. ولكن هل تصبح الجماعات الاصولية التي غالبا ما حذّر الكاتب من انتشارها، بديلاً، طالما أن الحكم العربي لم يترك لنا الخيار الثالث (إما هو وإما هذه الجماعات؛ إما هو وإما اسرائيل)؟ لكن الجواب المفاجئ كان في احدى المقالات الأخيرة حين يرى الكاتب في حوادث الموصل العراقية امتدادا لثورة الربيع العربي (على رغم ان الكاتب لا يرى ثورة في العالم العربي بل انقلابات وتبادل ادوار وهو محق في ذلك). فأين تتقاطع سيوف “داعش” و”النصرة” مع استشهاد البوعزيزي؟ أليس البعد الاستراتيجي يجعلنا اقل حدة في الحكم واكثر حكمة؟
مقالات ذات صلة
النخب اللبنانية بعد سوريا
الاستبداد القومي
التهويل بالديمقراطية و بالأصوليات