21 نوفمبر، 2024

التهويل بالديمقراطية و بالأصوليات

أعداء الربيع العربي يهولون بخطر الديمقراطية المدعومة من ” الإمبريالية والرجعية ” ويهولون بالإسلام السياسي الموسوم تاريخه بالعنف والإرهاب ، وفي ذروته يقع تنظيم القاعدة. التهويلان يصبان، عن قصد أو عن غير قصد ،  في خانة الدفاع عن الاستبداد الرابض على صدر الأمة منذ قرن ، وعن التخلف الرابض على صدرها منذ قرنين على الأقل. التهويلان مصدرهما يساري من زمن الحقبة السوفياتية الذي فرض على حلفائه ( أدواته) تصنيف الأعداء بحسب أولويات رسمها لنفسه وألزمهم بها : رأس النظام الرأسمالي وربيبته إسرائيل وعملائهما ، كما فرض عليهم فهما مغلوطا للعلمانية والدين والديمقراطية. نترك الكلام على التهويل الأول لمناسبة أخرى ، ونتناول الثاني الأكثر إلحاحا ، ولا سيما بعد فوز الإسلاميين في الانتخابات في كل من تونس ومصر والمغرب ، وتوقع فوزهم في بلدان أخرى.

الربيع العربي لا يلغي تاريخا من الصراعات الحادة بين خصوم الأمس ، ولا يلغي صورة كالحة أو زاهية لأي من هؤلاء الخصوم ، لكنه يفتح صفحة جديدة من العلاقات بينهم. فهو لا ينكر على اليسار تفانيه في نضال دؤوب وصادق من أجل القضايا العادلة لكنه يطالبه بالبحث الجدي والدؤوب أيضا عن أسباب الإخفاق الذريع الذي لا تكفي نظرية المؤامرة لتفسيره. كما أنه لا يشطب من تاريخ الإسلام السياسي ميله إلى العنف وتحويل العنف إلى إرهاب، ومجافاة الديمقراطية ومعالجة أمور السياسة ” الدنيوية ” بأدوات بالية ومصطلحات جوفاء .

الربيع العربي قال قولا جديدا للإسلام السياسي ولليسار على حد سواء : مصدر الخطر الأساسي على شعوبنا وأوطاننا وأمتنا ليست الأمبريالية والعولمة ولا الاستعمار ، وهي مخاطر لا شك فيها ،  ولا هو الجوع والفقر والمرض ، ولا هو الصهيونية والمؤامرات الخارجية التي تحاك على بلادنا ممن لهم أطماع تاريخية أو آنية فيها ، ومخاطرها لا تخفى على أحد ؛ ولا هو الشيوعية طبعا ولا الغرب ولا الإلحاد ولا الأديان ولا الآخر، أيا يكن الآخر . الربيع العربي رأى أن الخطر الأساسي على بلادنا هو الاستبداد . إنه الطغيان الذي مارسته الأنظمة ضد شعوبها بحجة الوقوف في وجه أعداء الخارج ، فهدرت ، باسم المصالح القومية العليا، طاقات الشعوب وإمكانتها، وسدت في وجهها آفاق التطور والخروج من تخلف العصور الوسطى. إنه الاستبداد الذي مارسته الأنظمة السياسية والكنسية والدينية ووضعت له حدا ثورات الشعوب في أميركا وفرنسا منذ قرنين ومن بعدهم شعوب أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية ، الخ ، وهو الذي أبقى أمتنا في مؤخرة اللائحة.

صانعو الربيع العربي هم جيل الشباب الذي رأى أن الاستبداد هو الخطرالأساسي . لكن الربيع ثورة ككل الثورات ، ليس يكسبه من يصنعه ، وينطبق عليه قول ينسب إلى نابليون: الثورة مغامرة يقوم بها العقلاء ويخوضها المجانين ويقطف ثمارها الجبناء.ومن المؤكد أن الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة ليسوا هم الاسلام السياسي الذي عرفته الساحات الإسلامية قبل الربيع العربي (يمكن أن يكونوا قد تحدروا منه)، والذي مات واختفى قبله ، ولا هو اليسار الذي مات هو الآخر قبل ذلك. موتهما تحدد في اللحظة ذاتها التي مات فيها النظام العالمي القديم ، نظام الثنائية القطبية ، المعسكر الاشتراكي وعلى رأسه الأتحاد السوفياتي ( صار المعسكر بلا رأس ، ومات اليسار بعد أن مات معيله السياسي والنظري ) والمعسكر الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية التي صارت رأس النظام العالمي الجديد الأحادي القطبية ( مات الاسلام السياسي القديم بعد أن انفضحت خصومته الزائفة مع الأمبريالية والرأسمالية والغرب ، الخ. في أعقاب الأزمة الأفغانية وأحداث 11 أيلول ، وبعد أن زال خصمه الحقيقي أو الافتراضي ، الخصم الإيديولوجي المتمثل بالشيوعية ومعسكرها).

الاسلام السياسي القديم كان يزوّر النص الديني لمصلحة أنظمة الاستبداد أو لمصلحة معارضات  من الطينة ذاتها تنافس على الاستبداد . وقد كانت الظروف السياسية قد فرضت عليه أن ينكمش على نفسه في مواجهة ما تصوره خطرا على الأمة قادما من جهتين : الغرب الرأسمالي الذي راح يتمدد بصورته الاستعمارية البشعة منذ القرن الثامن عشر ، والغرب الشيوعي الذي بدأ يتسرب إلى بلادنا بعد الحرب العالمية الأولى.فبدا طرفا الغرب ، حاملا “الحضارتين الماديتين” ،ملحدين ، الأول لأنه مسيحي والثاني لأنه شيوعي ، وكلاهما يمثل، في نظر الاسلام السياسي، تهديدا مباشرا لهوية الشرق العربي الإسلامية. كانت تلك ، بلا شك ، معادلة خاطئة بالجملة والتفصيل  فدحضتها الوقائع التاريخية وأرغمت المؤمنين بها على التراجع، وحين أتى الربيع العربي كان الإسلام السياسي في مرحلة تراجعه ، ولذلك راح يستلحق نفسه ، وكذلك اليسار ، بثورة الربيع العربي. من هنا يصح القول إن الفائز في الانتخابات ليس الاسلام السياسي المعروف بعنفه وإرهابه ونزعته الجهادية بل مناخ عام ترعرت فيه قيم ومفاهيم تفوقت في استثماره لصالحها بقايا من الإسلام السياسي القديم في ظل وجود عدد آخر من القوى السياسية المتهالكة.

من ناحية ثانية ، وهذا هو الأهم ،صحيح إن ثورة الربيع العربي على الاستبداد وعلى توارث السلطة لم تقف حائلا دون رفع شعارات من برامج الأسلام السياسي القديم ، غير أن ذلك لم يكن سوى حنين وحالات معزولة ، لأن الموجة العارمة تلونت بلون الحرية والديمقراطية والتعدد والتنوع ، خلافا لكل المفاهيم والمقولات التي تأسست عليها منظمات الإسلام السياسي القديم وقامت عليها برامجها، ولأن الشعار الأساسي الذي أجمعت عليه كل مكونات الربيع العربي هو إسقاط التوريث السياسي والبحث عن صيغ عصرية للمواطنية ، وهذا بدوره يتعارض مع منطق الخلافة والإمارة ، وبالتالي الولي الفقيه ، الذي كان يعتمده الإسلام السياسي في برامجه وخططه لاستلام السلطة وبناء أنظمته البدية .

من ناحية ثالثة ، يتذرع المتخوفون من الربيع العربي ( ومعهم المدافعون عن الاستبداد) بأقوال وتصريحات متحدرة من برامج الاسلام السياسي القديم ، ومن بينها ما ينم عن حقد دفين على خصوم الماضي كالشيوعية والمتحدرين منها وعلى الأديان الأخرى ، كما يتذرعون بحالة الفوضى العارمة التي ترزح تحت وطأتها أوضاع ليبيا بعد انتصار الثورة، وبمواقف ” شبه رسمية ” ، كالقول بتعدد الزوجات والتضييق على الحريات وعلى المرأة ، الخ، تنسب إلى قياديين أو إلى مشاركين في الربيع العربي، غير أن من يقرأ وثيقة الأزهر الصادرة في العاشر من كانون الثاني 2012 ، وهي وثيقة تاريخية بامتياز تضاهي أهم ما كتب عن الحريات وحقوق الانسان، ومن يقرأ تاريخ النجف الأشرف العلمي والثقافي ويتعرف على من تخرج من علمائه ، يتأكد من قول الإمام علي عن أن القرآن حمال أوجه ، وهذا شأن كل النصوص الدينية ، ويتأكد من أن ما يرمى به الدين من سوء هو ، بالدرجة الأولى ،من فعل الساعين إلى تسييسه من رجال الدين أو من أهل السياسية على حد سواء .

إن الذين يتحفظون على  تقدم الإسلام السياسي ويهولون علينا به ويخوفوننا من قطفه وحده ثمار الربيع العربي ويذكروننا بتجاربه القديمة في بلديات الأردن والجزائر وفي إيران والسودان ، وخصوصا في أفغانستان التي عادت في ظله إلى مرحلة سابقة على الحضارة الحديثة ، هم أصوليون مثله ولا يتميزون عنه في ممارسة الاستبداد في أنظمة الحكم التي سيطروا عليها أو في الإيديولوجيات التي اعتمدوها وتسلحوا بها لقتل الرأي المختلف أو نفيه أو سجنه. إنهم من أهل اليسار القومي والماركسي الذين تنافسوا مع الاسلام السياسي على ممارسة الاستبداد في أبشع صوره ، وكانوا يشبهونه باعتمادهم الأنظمة الوراثية وإن امتازوا عنه في جوانب أخرى سيحكم التاريخ لصالحهم في شأنها .

مما لا شك فيه أن من فضائل هذا الربيع العربي أنه سيأتي بيسار جديد وبإسلام سياسي جديد، ولا سيما بعد بيانات الأزهر وبيان الجماعة الإسلامية في سوريا ، حتى لو كانت سبل بلوغ ذلك ملتوية ومكلفة ومعقدة .